إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{رُّبَمَا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ كَانُواْ مُسۡلِمِينَ} (2)

{ رُّبَمَا } بضم الراء وتخفيف الباء المفتوحةِ ، وقرئ بالتشديد وبفتح الراء مخففاً وبزيادة التاء مشدداً ، وفيه ثماني لغات : فتح الراء وضمها مشدداً ومخففاً وبزيادة التاء{[474]} أيضاً مشدداً ومخففاً ، ورُبّ حرفُ جر لا يدخُل إلا على الاسم ، وما كافةٌ مصحّحةٌ لدخوله على الفعل وحقُّه الدخولُ على الماضي ، ودخولُه على قوله تعالى : { يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ } لما أن المترقَّب في أخباره تعالى كالماضي المقطوعِ في تحقيق الوقوع ، فكأنه قيل : ربما وَد الذين كفروا ، والمرادُ كفرُهم بالكتاب والقرآن وبكونه من عند الله تعالى { لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ } منقادين لحكمه ومذعِنين لأمره ، وفيه إيذانٌ بأن كفرَهم إنما كان بالجحود بعد ما علموا كونَه من عند الله تعالى ، وتلك الوَدادةُ يومَ القيامة أو عند موتهم أو عند معاينةِ حالِهم وحال المسلمين ، أو عند رؤيتهم خروجَ عصاةِ المسلمين من النار . روى أبو موسى الأشعريُّ رضي الله عنه أنه قال النبي صلى الله عليه وسلم : « إذا كان يوم القيامة واجتمع أهلُ النار في النار ومعهم مَنْ شاء الله تعالى من أهل القِبلة قال لهم الكفارُ : ألستم مسلمين ؟ قالوا : بلى ، قالوا : فما أغنى عنكم إسلامُكم وقد صِرتم معنا إلى النار ؟ قالوا : كانت لنا ذنوبٌ فأُخِذْنا بها ، فيغضب الله سبحانه لهم بفضل رحمته فيأمُر بكل من كان من أهل القِبلة في النار فيخرجون منها فحينئذ يوَدّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين » .

وروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لا يزال الربُّ يرحم ويُشفع إليه حتى يقول مَنْ كان من المسلمين فليدخُل الجنة ، فعند ذلك يتمنَّوْن الإسلام . والحقُّ أن ذلك محمولٌ على شدة وَدادتِهم وأما نفسُ الودادةِ فليست بمختصة بوقت دون وقت بل هي مقرَّرة مستمرّةٌ في كل آن يمر عليهم ، وأن المراد بيانُ ذلك على ما هو عليه من الكثرة وإنما جيء بصيغة التقليلِ جرياً على سنن العرب فيما يقصِدون به الإفراط فيما يعكسون عنه ، تقول لبعض قوادِ العساكر : كم عندك من الفرسان ؟ فيقول : ربَّ فارسٍ عندي ، أو لا تعدمُ عندي فارساً وعنده مناقبُ جمّةٌ من الكتائب ، وقصدُه في ذلك التماري في تكثير فرسانه ولكنه يريد إظهارَ براءته من التزيد وإبرازَ أنه ممن يقلل لعلو الهمة كثيرَ ما عنده فضلاً عن تكثير القليل ، وهذه طريقةٌ إنما تسلك إذا كان الأمر من الوضوح بحيث لا يحوم حوله شائبةُ ريب فيُصار إليه هضماً للحق ، فدل النظمُ الكريم على وَدادةِ الكافرين للإسلام في كل آن من آنات اليومِ الآخر ، وأن ذلك من الظهور بحيث لا يشتبه على أحد ولو جيء بكلام يدل على ضده وعلى أن تلك الودادةَ مع كثرتها في نفسها مما يُستقل بالنسبة إلى جناب الكبرياءِ ، وهذا هو الموافقُ لمقام بيانِ حقارةِ شأنِ الكفارِ وعدمِ الاعتدادِ بما هم فيه من الكفر والتكذيب كما ينطق به قوله تعالى : { ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ } الآية ، أو ذهاباً إلى الإشعار بأن من شأن العاقلِ إذا عنّ له أمرٌ يكون مظنونَ الحمد ، أو قليلاً ما يكون كذلك أن لا يفارقَه ولا يقارِفَ ضدّه ، فكيف إذا كان متيقن الحمد ؟ كما في قولهم : لعلك ستندم على ما فعلت ، وربما ندِم الإنسان على ما فعل ، فإن المقصودَ ليس بيانَ كونِ الندم مرجوَّ الوجود بلا تيقن به ، أو قليلَ الوقوع بل التنبيهُ على أن العاقلَ لا يباشر ما يرجى فيه الندم أو يقِلّ وقوعُه فيه ، فكيف بقطعيّ الوقوع ؟ وأنه يكفي قليلُ الندم في كونه حاجزاً عن ذلك الفعلِ ، فكيف كثيرُه ؟ والمقصودُ من سلوك هذه الطريقة إظهارُ الترفع والاستغناءِ عن التصريح بالغرض بناءً على ادعاء ظهورِه فالمعنى لو كانوا يودون الإسلامَ مرة واحدة لوجب عليهم أن يفارقوه ، فكيف وهم يودّونه كل آن ؟ وهذا أوفقُ بمقام استنزالِهم عما هم عليه من الكفر ، وهذان طريقان متمايزانِ ذاتاً ومقاماً فمن ظنَّهما واحداً فقد نأى عن توفية المقام حقَّه .


[474]:أي: ربتما وربتما. وقال ابن هشام في مغني اللبيب: "وفي رب ست عشرة لغة: ضم الراء وفتحها، وكلاهما مع التشديد والتخفيف. والأوجه الأربعة مع تاء التأنيث ساكنة أو محركة، ومع التجرد منها، فهذه اثنتا عشرة. والضم والفتح مع إسكان الباء وضم الحرفين مع التشديد ومع التخفيف.