البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{رُّبَمَا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ كَانُواْ مُسۡلِمِينَ} (2)

رب : حرف جر لا اسم خلافاً للكوفيين والأخفش في أحد قوليه ، وابن الطراوة ومعناها في المشهور : التقليل لا التكثير ، خلافاً لزاعمه وناسبه إلى سيبويه ، ولمن قال : لا تفيد تقليلاً ولا تكثيراً ، بل هي حرف إثبات . ودعوى أبي عبد الله الرازي الاتفاق على أنها موضوعة للتقليل باطلة ، وقول الزجاج : إن رب للكثرة ضد ما يعرفه أهل اللغة ليس بصحيح ، وفيها لغات ، وأحكامها كثيرة ذكرت في النحو ، ولم تقع في القرآن إلا في هذه السورة على كثرة وقوعها في لسان العرب .

والظاهر أنّ ما في ربما مهيئة ، وذلك أنها من حيث هي حرف جر لا يليها إلا الأسماء ، فجيء بما مهيئة لمجيء الفعل بعدها .

وجوزوا في ما أنْ تكون نكرة موصوفة ، ورب جازة لها ، والعائد من جملة الصفة محذوف تقديره : رب شيء يوده الذين كفروا .

ولو كانوا مسلمين بدل من ما على أنّ لو مصدرية .

وعلى القول الأول تكون في موضع نصب على المفعول ليود ، ومن لا يرى أنْ لو تأتي مصدرية جعل مفعول يود محذوفاً .

ولو في لو كانوا مسلمين حرف لما كان سيقع لوقوع غيره ، وجواب لو محذوف أي : ربما يود الذين كفروا الإسلام لو كانوا مسلمين لسروا بذلك وخلصوا من العذاب ، ولما كانت رب عند الأكثرين لا تدخل على مستقبل تأولوا يود في معنى ودّ ، لما كان المستقبل في إخبار الله لتحقق وقوعه كالماضي ، فكأنه قيل : ود ، وليس ذلك بلازم ، بل قد تدخل على المستقبل لكنه قليل بالنسبة إلى دخولها على الماضي .

ومما وردت فيه للمستقبل قول سليم القشيري :

ومعتصم بالجبن من خشية الردى***سيردي وغاز مشفق سيؤب

وقول هند أم معاوية :

يا رب قائلة غداً . . . ***يا لهف أم معاوية

وقول جحدر :

فإن أهلك فرب فتى سيبكي*** عليّ مهذب رخص البنان

في عدة أبيات .

وقول أبي عبد الله الرازي : أنهم اتفقوا على أنّ كلمة رب مختصة بالدخول على الماضي لا يصح ، فعلى هذا لا يكون يودّ محتاجاً إلى تأويل .

وأما من تأول ذلك على إضمار كان أي : ربما كان يودّ فقوله ضعيف ، وليس هذا من مواضع إضمار كان .

ولما كان عند الزمخشري وغيره أنّ رب للتقليل احتاجوا إلى تأويل مجيء رب هنا ، وطول الزمخشري في تأويل ذلك .

ومن قال : إنها للتكثير ، فالتكثير فيها هنا ظاهر ، لأنّ ودادتهم ذلك كثيرة .

ومن قال : إنّ التقليل والتكثير إنما يفهم من سياق الكلام لا من موضوع رب ، قال : دل سياق الكلام على الكثرة .

وقيل : تدهشهم أهوال ذلك اليوم فيبقون مبهوتين ، فإن كانت منهم إفاقة في بعض الأوقات من سكرتهم تمنوا ، فلذلك قلل .

وقرأ عاصم ، ونافع : ربما بتخفيف الباء ، وباقي السبعة بتشديدها .

وعن أبي عمر : الوجهان .

وقرأ طلحة بن مصرف ، وزيد بن علي ، ربتما بزيادة تاء .

ومتى يودون ذلك ؟ قيل : في الدنيا .

فقال الضحاك : عند معاينة الموت .

وقال ابن مسعود : هم كفار قريش ودّوا ذلك في يوم بدر حين رأوا الغلبة للمسلمين .

وقيل : حين حل بهم ما حل من تملك المسلمين أرضهم وأموالهم ونساءهم ، ودُّوا ذلك قبل أن يحل بهم ما حل .

وقيل : ودوا ذلك في الآخرة إذا أخرج عصاة المسلمين من النار قاله : ابن عباس ، وأنس بن مالك ، ومجاهد ، وعطاء ، وأبو العالية ، وإبراهيم ، ورواه أبو موسى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقرأ الرسول هذه الآية ، وقيل : حين يشفع الرسول ويشفع حتى يقول : من كان من المسلمين فليدخل الجنة ، ورواه مجاهد عن ابن عباس .

وقيل : إذا عاينوا القيامة ذكره الزجاج .

وقيل : عند كل حالة يعذب فيها الكافر ويسلم المؤمن ، ذكره ابن الأنباري .