قوله تعالى : { وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن } . قرأ ابن عامر إبراهام بالألف في بعض المواضع . وهو ثلاثة وثلاثون موضعا جملته تسعة وتسعون موضعا . وهو اسم أعجمي . ولذلك لا يجري عليه الصرف وهو إبراهيم بن تارخ . هو آزر بن ناخور . وكان مولده بالسوس من أرض الأهواز . وقيل بابل وقيل : كوثى ، وقيل : كسكر ، وقيل حران ، ولكن أباه نقله إلى أرض بابل أرض نمرود بن كنعان ، ومعنى الابتلاء الاختبار والامتحان والأمر ، وابتلاء الله العباد ليس ليعلم أحوالهم بالابتلاء ، لأنه عالم بهم ، ولكن ليعلم العباد أحوالهم ، حتى يعرف بعضهم بعضاً . واختلفوا في الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم . فقال عكرمة : وابن عباس رضي الله عنهما : هي ثلاثون سماهن شرائع الإسلام ، ولم يبتل بها أحد ، فأقامها كلها إلا إبراهيم ، فكتب له البراءة ، فقال :{ وإبراهيم الذي وفى } : عشر في براءة : { التائبون العابدون } إلى آخرها ، وعشر في الأحزاب { إن المسلمين والمسلمات } إلى آخرها . وعشر في سورة المؤمنين في قوله : { قد أفلح المؤمنون } الآيات ، وقوله :{ إلا المصلين } في سأل سائل .
قال طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهما : ابتلاه الله بعشرة أشياء وهي : الفطرة خمس في الرأس ، قص الشارب ، والمضمضة ، والاستنشاق ، والسواك ، وفرق الرأس ، وخمس في البدن : تقليم الأظفار ، ونتف الإبط ، وحلق العانة ، والختان ، والاستنجاء بالماء . وفي الخبر : أن إبراهيم عليه السلام أول من قص الشارب ، وأول من اختتن ، وأول من قلم الأظافر ، وأول من رأى الشيب ، فلما رآه قال : يا رب ما هذا قال : الوقار ، قال : يا رب زدني وقاراً ، قال مجاهد : هي الآيات التي بعدها في قوله عز وجل { إني جاعلك للناس إماماً } إلى آخر القصة ، وقال الربيع وقتادة : مناسك الحج ، وقال الحسن : ابتلاه الله بسبعة أشياء : بالكواكب والقمر ، والشمس ، فأحسن فيها النظر وعلم أن ربه دائم لا يزول ، وبالنار فصبر عليها ، وبالهجرة وبذبح ابنه وبالختان فصبر عليها ، قال سعيد بن جبير : هو قول إبراهيم وإسماعيل إذ يرفعان البيت : { ربنا تقبل منا } الآية فرفعاها بسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، قال يمان بن رباب : هن محاجة قومه قال الله تعالى : { وحاجه قومه } إلى قوله تعالى : { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم } وقيل هي قوله : { الذي خلقني فهو يهدين } إلى آخر الآيات . { فأتمهن } قال قتادة : أداهن ، قال الضحاك : قام بهن وقال يمان : عمل بهن .
قوله تعالى : { قال } . إني جاعلك للناس إماماً } . يقتدى بك في الخير .
قوله تعالى : { قال } . إبراهيم { ومن ذريتي } . أي ومن أولادي أيضاً فاجعل منهم أئمة يقتدى بهم .
قوله تعالى : { قال } . الله تعالى . { لا ينال } . لا يصيب .
قوله تعالى : { عهدي الظالمين } . قرأ حمزة و حفص بإسكان الياء والباقون بفتحها أي من كان منهم ظالماً لا يصيبه ، قال عطاء بن أبي رباح : عهدي رحمتي ، وقال السدي : نبوتي ، وقيل : الإمامة ، قال مجاهد : ليس لظالم أن يطاع في ظلمه . ومعنى الآية لا ينال ما عهدت إليك من النبوة والإمامة من كان ظالماً من ولدك ، وقيل : أراد بالعهد الأمان من النار ، وبالظالم المشرك كقوله تعالى : { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن } .
{ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ * وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ }
يخبر تعالى ، عن عبده وخليله ، إبراهيم عليه السلام ، المتفق على إمامته وجلالته ، الذي كل من طوائف أهل الكتاب تدعيه ، بل وكذلك المشركون : أن الله ابتلاه وامتحنه بكلمات ، أي : بأوامر ونواهي ، كما هي عادة الله في ابتلائه لعباده ، ليتبين الكاذب الذي لا يثبت عند الابتلاء ، والامتحان من الصادق ، الذي ترتفع درجته ، ويزيد قدره ، ويزكو عمله ، ويخلص ذهبه ، وكان من أجلِّهم في هذا المقام ، الخليل عليه السلام .
فأتم ما ابتلاه الله به ، وأكمله ووفاه ، فشكر الله له ذلك ، ولم يزل الله شكورا فقال : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } أي : يقتدون بك في الهدى ، ويمشون خلفك إلى سعادتهم الأبدية ، ويحصل لك الثناء الدائم ، والأجر الجزيل ، والتعظيم من كل أحد .
وهذه - لعمر الله - أفضل درجة ، تنافس فيها المتنافسون ، وأعلى مقام ، شمر إليه العاملون ، وأكمل حالة حصلها أولو العزم من المرسلين وأتباعهم ، من كل صديق متبع لهم ، داع إلى الله وإلى سبيله .
فلما اغتبط إبراهيم بهذا المقام ، وأدرك هذا ، طلب ذلك لذريته ، لتعلو درجته ودرجة ذريته ، وهذا أيضا من إمامته ، ونصحه لعباد الله ، ومحبته أن يكثر فيهم المرشدون ، فلله عظمة هذه الهمم العالية ، والمقامات السامية .
فأجابه الرحيم اللطيف ، وأخبر بالمانع من نيل هذا المقام فقال : { لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } أي : لا ينال الإمامة في الدين ، من ظلم نفسه وضرها ، وحط قدرها ، لمنافاة الظلم لهذا المقام ، فإنه مقام آلته الصبر واليقين ، ونتيجته أن يكون صاحبه على جانب عظيم من الإيمان والأعمال الصالحة ، والأخلاق الجميلة ، والشمائل السديدة ، والمحبة التامة ، والخشية والإنابة ، فأين الظلم وهذا المقام ؟
ودل مفهوم الآية ، أن غير الظالم ، سينال الإمامة ، ولكن مع إتيانه بأسبابها .
{ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }( 124 )
والعامل في { إذ } فعل ، تقديره : واذكر( {[1210]} ) إذ ، { ابتلى } معناه اختبر( {[1211]} ) ، و { إبراهيم } يقال إن تفسيره بالعربية أب رحيم( {[1212]} ) ، وقرأ ابن عامر في جميع سورة البقرة «أبراهام » ، وقدم على الفاعل للاهتمام ، إذ كون الرب مبتلياً معلوم ، فإنما يهتم السامع بمن { ابتلي } ، وكون ضمير المفعول متصلاً بالفاعل موجب تقديم المفعول( {[1213]} ) ، فإنما بني الكلام على هذا الاهتمام .
واختلف أهل التأويل في الكلمات( {[1214]} ) ، فقال ابن عباس : هي ثلاثون سهماً ، هي الإسلام كله لم يتمه أحد كاملاً إلا إبراهيم صلوات الله عليه ، عشرة منها في براءة { التائبون العابدون } [ التوبة : 112 ] ، عشرة في الأحزاب { إن المسلمين والمسلمات } [ الأحزاب : 35 ] ، وعشرة في { سأل سائل }( {[1215]} ) [ المعارج : 1 ] ، وقال ابن عباس أيضاً وقتادة : الكلمات عشر خصال خمس منها في الرأس المضمضة والاستنشاق وقص الشارب والسواك وفرق الرأس ، وقيل بدل فرق الراس : إعفاء اللحية ، وخمس في الجسد تقليم الظفر ، وحلق العانة ، ونتف الإبط ، والاستنجاء بالماء ، والاختتان ، وقال ابن عباس أيضاً : هي عشرة خصال ، ست في البدن وأربع في الحج : الختان ، وحلق العانة ، ونتف الإبط ، وتقليم الأظفار ، وقص الشارب ، والغسل يوم الجمعة ، والطواف بالبيت ، والسعي ، ورمي الجمار ، والإفاضة ، وقال الحسن بن أبي الحسن : هي الخلال الست التي امتحن بها ، الكوكب ، والقمر ، والشمس ، والنار ، والهجرة ، والختان ، وقيل بدل الهجرة : الذبح ، وقالت طائفة : هي مناسك الحج خاصة ، وروي أن الله عز وجل أوحى إليه أن تطهر ، فتمضمض ، ثم أن تطهر فاستنشق ، ثم أن تطهر فاستاك ، ثم أن تطهر فأخذ من شاربه ، ثم أن تطهر ففرق شعره ، ثم أن تطهر فاستنجى ، ثم أن تطهر فحلق عانته ، ثم أن تطهر فنتف إبطه ، ثم أن تطهر فقلم أظفاره ، ثم أن تطهر فأقبل على جسده ينظر ما يصنع فاختتن بعد عشرين ومائة سنة . ( {[1216]} )
قال القاضي أبو محمد : وفي البخاري أنه اختتن وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم . ( {[1217]} )
وقال الراوي( {[1218]} ) : فأوحى الله إليه { إني جاعلك للناس إماماً } يأتمون بك في هذه الخصال ، ويقتدي بك الصالحون .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا أقوى الأقوال في تفسير هذه الآية ، وعلى هذه الأقوال كلها فإبراهيم عليه السلام هو الذي أتم .
وقال مجاهد وغيره : إن الكلمات هي أن الله عز وجل قال لإبراهيم : إني مبتليك بأمر فما هو ؟ قال إبراهيم : تجعلني للناس إماماً ، قال الله : نعم ، قال إبراهيم : تجعل البيت مثابة ، قال الله : نعم ، قال إبراهيم وأمناً ، قال الله : نعم ، قال إبراهيم : وترينا مناسكنا وتتوب علينا ، قال الله : نعم ، قال إبراهيم : تجعل هذا البلد آمناً ، قال الله : نعم ، قال إبراهيم : وترزق أهله من الثمرات ، قال الله : نعم . ( {[1219]} )
قال القاضي أبو محمد : فعلى هذا القول فالله تعالى هو الذي أتم ، وقد طول المفسرون في هذا ، وذكروا أشياء فيها بعد فاختصرتها ، وإنما سميت هذه الخصال كلمات ، لأنها اقترنت بها أوامر هي كلمات ، وروي أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم لما أتم هذه الكلمات أو أتمها الله عليه كتب الله له البراءة من النار ، فذلك قوله تعالى : { وإبراهيم الذي وفى }( {[1220]} ) [ النجم : 37 ] .
والإمام القدوة ، ومنه قيل لخيط البناء : إمام ، وهو هنا اسم مفرد ، وقيل في غير هذا الموضع : هو جمع آم وزنه فاعل أصله آمم ، فيجيء مثل قائم وقيام وجائع وجياع ونائم ونيام .
وجعل الله تعالى إبراهيم إماماً لأهل طاعته ، فلذلك أجمعت الأمم على الدعوى فيه( {[1221]} ) ، وأعلم الله ، تعالى أنه كان حنيفاً ، وقول إبراهيم عليه السلام : { ومن ذريتي } ، هو على جهة الدعاء والرغبة إلى الله ، أي ومن ذريتي يا رب فاجعل( {[1222]} ) ، وقيل : هذا منه على جهة الاستفهام عنهم ، أي ومن ذريتي يا رب ماذا يكون( {[1223]} ) ؟ والذرية مأخوذة من ذرا يذرو أو من ذرى يذري أو من ذر يذر أو من ذرأ يذرأ ، وهي أفعال تتقارب معانيها ، وقد طول في تعليلها أبو الفتح وشفى . ( {[1224]} )
وقوله تعالى : { قال لا ينال عهدي } ، أي قال الله ، والعهد فيما قال مجاهد : الإمامة ، وقال السدي : النبوءة ، وقال قتادة : الأمان من عذاب الله ، وقال الربيع والضحاك : العهد الدين : دين الله تعالى .
وقال ابن عباس : معنى الآية لا عهد عليك لظالم أن تطيعه ، ونصب { الظالمين } لأن العهد ينال كما ينال( {[1225]} ) ، وقرأ قتادة وأبو رجاء والأعمش «الظالمون » بالرفع ، وإذا أولنا العهد الدين أو الأمان أو أن لا طاعة لظالم فالظلم في الآية ظلم الكفر ، لأن العاصي المؤمن ينال الدين والأمان من عذاب الله وتلزم طاعته إذا كان ذا أمر ، وإذا أولنا العهد النبوءة أو الإمامة في الدين فالظلم ظلم المعاصي فما زاد( {[1226]} ) .