قيل : ومعناه بالسريانية قبل النقل إلى العلمية : أب رحيم ، وفيه لغى ست : إبراهيم بألف وياء وهي الشهيرة المتداولة ، وبألف مكان الياء ، وبإسقاط الياء مع كسر الهاء ، أو فتحها ، أو ضمها ، وبحذف الألف والياء وفتح الهاء ، قال عبد المطلب :
نحن آل الله في كعبته *** لم نزل ذاك على عهد إبراهيم
عذت بما عاذ به إبراهم *** إذ قال وجهي لك عان راغم
الإتمام : الإكمال ، والهمزة فيه للنقل .
ثم الشيء يتم : كمل ، وهو ضد النقص .
الإمام : القدوة الذي يؤتم به ، ومنه قيل لخيط البناء : إمام ، وللطريق : إمام ، وهو مفرد على فعال ، كالإزار للذي يؤتزر به ، ويكون جمع آم ، اسم فاعل من أم يؤم ، كجائع وجياع ، وقائم وقيام ، ونائم ونيام .
الذرية : النسل ، مشتقة من ذروت ، أو ذريت ، أو ذرأ الله الخلق ، أو الذر .
ويضم ذالها ، أو يكسر ، أو يفتح .
فأما الضم فيجوز أن تكون ذرية ، فعيلة من ذرأ الله الخلق ، وأصله ذريئة ، فخففت الهمزة بإبدالها ياء ، كما خففوا همزة النسيء فقالوا : النسيّ ، ثم أدغموا الياء التي هي لام الفعل التي هي للمد .
ويجوز أن تكون فعولة من ذروت ، الأصل ذرووة ، أبدلت لام الفعل ياء .
اجتمع لك واو وياء واو المد والياء المنقلبة عن الواو التي هي لام الفعل ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت واو المد ياء ، وأدغمت في الياء ، وكسر ما قبلها ، لأن الياء تطلب الكسر .
ويجوز أن تكون فعيلة من ذررت ، أصلها ذريوة ، اجتمعت ياء المد والواو التي هي لام الكلمة وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياء ، وأدغمت ياء المد فيها .
ويجوز أن تكون فعولة أو فعيلة من ذريت لغة في ذروت ، فأصلها أن تكون فعولة ذروية ، وإن كان فعيلة ذريية ، ثم أدغم .
ويجوز أن تكون فعيلة من الذر منسوبة ، أو فعلية من الذر غير منسوبة ، أو فعيلة ، كمريقة ، أو فعول ، كسبوح وقدوس ، أو فعلولة ، كقردودة الظهر ، فضم أولها إن كان اسماً ، كقمرية ، وإن كانت منسوبة ، كما قالوا في النسب إلى الدهر : دهري ، وإلى السهل ، سهلي .
وأصل فعيلة من الذر : ذريرة ، وفعولة من الذر : ذرورة ، وكذلك فعلولة ، أبدلت الراء الآخرة في ذلك ياء كراهة التضعيف ، كما قالوا في تسررت ؛ تسريت .
وأما من كسر ذال ذرية ، فيحتمل أن تكون فعيلة من ذرأ الله الخلق ، كبطيخة ، فأبدلت الهمزة ياء ، وأدغمت في ياء المد ، أو فعلية من الذر منسوبة على غير قياس ، أو فعيلة من الذر أصله ذريرة ، أو فعليل ، كحلتيت .
ويحتمل أن تكون ذريوة من ذروت ، أو فعيلة ذريئة من ذريت .
وأما من فتح ذال ذرية ، فيحتمل أن تكون فعيلة من ذرأ ، مثل سكينة ، أو فعولة من هذا أيضاً ، كخروبة .
فالأصل ذروءة ، فأبدلت الهمزة ياء بدلاً مسموعاً ، وقلبت الواو ياء وأدغمت .
ويحتمل أن تكون فعيلة من الذر غير منسوبة ، كبرنيه ، أو منسوبة إلى الذر ، أو فعولة ، كخروبه من الذر أصلها ذرورة ، ففعل بها ما تقدم ، أو فعلولة ، كبكولة ، فالأصل ذرورة أيضاً ، أو فعيلة ، كسكينة ذريرة ، فقلبت الراء ياء في ذلك كله ، ويحتمل أن يكون من ذروت فعيلة ، كسكينة ، فالأصل ذريوة ، أو من ذريت ذريية ، أو فعولة من ذروت أو ذريت .
وأما من بناها على فعلة ، كجفنة ، وقال ذرية ، فإنها من ذريت .
نلت الشيء أناله نيلاً ، والنيل : العطاء .
{ وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي } : مناسبة هذه الآية لما قبلها ، أنه لما جرى ذكر الكعبة والقبلة ، وأن اليهود عيروا المؤمنين بتوجههم إلى الكعبة وترك بيت المقدس ، كما قال : { ما ولاهم عن قبلتهم } ذكر حديث إبراهيم وما ابتلاه به الله ، واستطرد إلى ذكر البيت وكيفية بنائه ، وأنهم لما كانوا من نسل إبراهيم ، كان ينبغي أن يكونوا أكثر الناس اتباعاً لشرعه ، واقتفاء لآثاره .
فكان تعظيم البيت لازماً لهم ، فنبه الله بذلك على سوء اعتمادهم ، وكثرة مخالفتهم ، وخروجهم عن سنن من ينبغي اتباعه من آبائهم ، وأنهم ، وإن كانوا من نسله ، لا ينالون لظلمهم شيئاً من عهده ، وإذ العامل فيه على ما ذكروا محذوف ، وقدروه اذكر ، أي اذكرا إذ ابتلي إبراهيم ، فيكون مفعولاً به ، أو إذ ابتلاه كان كيت وكيت .
وقد تقدم الكلام في ذلك عند قوله تعالى : { وإذ قال ربك للملائكة } والاختيار أن يكون العامل فيه ملفوظاً به ، وهو { قال إني جاعلك } .
والابتلاء : الاختبار ، ومعناه أنه كلفه بأوامر ونواه .
والباري تعالى عالم بما يكون منه .
قال الزمخشري : واختبار الله عبده مجاز عن تمكينه من اخيتار أحد الأمرين : ما يريد الله ، وما يشتهيه العبد ، كأنه امتحنه ما يكون منه حتى يجازيه على حسب ذلك .
انتهى كلامه ، وفيه دسيسة الاعتزال .
وفي ري الظمآن الابتلاء : إظهار الفعل ، والاختبار : طلب الخبر ، وهما متلازمان .
وابراهيم هنا ، وفي جميع القرآن هو الجد الحادي والثلاثون لنبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو خليل الله ، ابن تارح بن ناحور بن ساروغ بن أرغو بن فالغ بن عابر ، وهو هود النبي عليه السلام ، ومولده بأرض الأهواز .
وقيل : بكوثي ، وقيل : ببابل ، وقيل : بنجران ، ونقله أبوه إلى بابل أرض نمروذ بن كنعان .
وقد تقدّم ذكر اللغات الست في لفظه .
وقرأ الجمهور : إبراهيم بالألف والياء .
وقرأ ابن عامر بخلاف عن ابن ذكوان في البقرة بألفين .
زاد هشام أنه قرأ كذلك في : ابراهيم ، والنحل ، ومريم ، والشورى ، والذاريات ، والنجم ، والحديد ، وأول الممتحنة ، وثلاث آخر النساء ، وأخرى التوبة ، وآخر الأنعام ، والعنكبوت .
وقرأ المفضل : ابراهام بألفين ، إلا في المودة والأعلى .
وقرأ ابن الزبير : ابراهام ، وقرأ أبو بكرة : إبراهم بألف وحذف الياء وكسر الهاء .
وقرأ الجمهور : بنصب إبراهيم ورفع ربه .
وقرأ ابن عباس ، وأبو الشعثاء ، وأبو حنيفة : برفع إبراهيم ونصب ربه .
فقراءة الجمهور على أن الفاعل هو الرب ، وتقدم معنى ابتلائه إياه .
قال ابن عطية : وقدم المفعول للاهتمام بمن وقع الابتلاء ، إذ معلوم أن الله تعالى هو المبتلي .
وإيصال ضمير المفعول بالفاعل موجب لتقديم المفعول .
انتهى كلامه ، وفيه بعض تلخيص .
وكونه مما يجب فيه تقديم الفاعل هو قول الجمهور .
وقد جاء في كلام العرب مثل : ضرب غلامه زيداً ، وقال : وقاس عليه بعض النحويين ، وتأول بعضه الجمهور ، أو حمله على الشذوذ .
وقد طول الزمخشرى في هذه المسألة بما يوقف عليه من كلامه في الكشاف ، وليست من المسائل التي يطوّل فيها لشهرتها في العربية .
وقرأ ابن عباس : معناها أنه دعا ربه بكلمات من الدعاء بتطلب فيها الإجابة ، فأطلق على ذلك ابتلاء على سبيل المجاز لأن في الدعاء طلب استكشاف لما تجري به المقادير على الإنسان .
والكلمات لم تبين في القرآن ما هي ، ولا في الحديث الصحيح ، وللمفسرين فيها أقوال : الأول : روى طاوس ، عن ابن عباس أنها العشرة التي من الفطرة : المضمضة ، والاستنشاق ، وقص الشارب ، وإعفاء اللحية ، والفرق ، ونتف الإبط ، وتقليم الأظفار ، وحلق العانة ، والاستطابة ، والختان ، وهذا قول قتادة .
الثاني عشر : وهي : حلق العانة ، ونتف الإبط ، وتقليم الأظفار ، وقص الشارب ، وغسل يوم الجمعة ، والطواف بالبيت ، والسعي ، ورمي الجمار ، والإفاضة .
الثالث : ثلاثون سهماً في الإسلام ، لم يتم ذلك أحد إلا إبراهيم ، وهي عشر في براءة { التائبون } الآية ، وعشر في الأحزاب { إن المسلمين } الآية ، وعشر في { قد أفلح } وفي المعارج .
الرابع : هي الخصال الست التي امتحن بها الكوكب ، والقمر ، والشمس ، والنار ، والهجرة ، والختان .
وقيل : بدل الهجرة الذبح لولده ، قاله الحسن .
الخامس : مناسك الحج ، رواه قتادة ، عن ابن عباس .
السادس : كل مسألة سألها إبراهيم في القرآن مثل : { رب اجعل هذا البلد آمناً } ، قاله مقاتل .
السابع : هي قول : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
وقوله : ربنا تقبل منا ، قاله ابن جبير .
الثامن : هو قوله تعالى : { وحاجَّه قومه } قاله يمان .
التاسع : هي قوله : { الذي خلقني فهو يهدين } الآيات ، قاله أبو روق .
العاشر : هي ما ابتلاه به في ماله وولده ونفسه ، فسلم ماله للضيفان ، وولده للقربان ، ونفسه للنيران ، وقلبه للرحمن ، فاتخذه الله خليلاً .
الحادي عشر : هو أن الله أوحى إليه أن تطهر فتمضمض ، ثم أن تطهر فاستنشق ، ثم أن تطهر فاستاك ، ثم أن تطهر فأخذ من شاربة ، ثم أن تطهر ففرق شعره ، ثم أن تطهر فاستنجى ، ثم أن تطهر فحلق عانته ، ثم أن تطهر فنتف إبطه ، ثم أن تطهر فقلم أظفاره ، ثم أن تطهر فأقبل على جسده ينظر ماذا يصنع ، فاختتن بعد عشرين ومائة سنة .
وفي البخاري ، أنه اختتن وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم ، وأوحى الله إليه { إني جاعلك للناس إماماً } ، يأتمون بك في هذه الخصال ويقتدي بك الصالحون .
فإن صحت تلك الرواية ، فالتأويل أنه اختتن بعد عشرين ومائة سنة من ميلاده ، وابن ثمانين سنة من وقت نبوته ، فيتفق التاريخان ، والله أعلم .
الثاني عشر : هي عشرة : شهادة أن لا إله إلا الله ، وهي الملة والصلاة ، وهي الفطرة والزكاة ، وهي الطهرة والصوم ، وهو الجنة والحج ، وهو الشعيرة والغزو ، وهو النصرة والطاعة ، وهي العصمة والجماعة ، وهي الألفة والأمر بالمعروف ، وهو الوفاء والنهي عن المنكر ، وهو الحجة .
الثالث عشر : هي : تجعلني إماماً ، وتجعل البيت مثابة وأمناً ، وترينا مناسكنا ، وتتوب علينا ، وهذا البلد آمناً ، وترزق أهله من الثمرات .
فأجابه الله في ذلك بما سأله ، وهذا معنى قول مجاهد والضحاك .
وهذه الأقوال ينبغي أن تحمل على أن كل قائل منها ذكر طائفة مما ابتلى الله به إبراهيم ، إذ كلها ابتلاه بها ، ولا يحمل ذلك على الحصر في العدد ، ولا على التعيين ، لئلا يؤدي ذلك إلى التناقض .
وهذه الأشياء التي فسر بها الكلمات ، إن كانت أقوالاً ، فذلك ظاهر في تسميتها كلمات ، وإن كانت أفعالاً ، فيكون إطلاق الكلمات عليها مجازاً ، لأن التكاليف الفعلية صدرت عن الأوامر ، والأوامر كلمات .
سميت الذات كلمة لبروزها عن كلمة كن .
قال تعالى : { وكلمته ألقاها إلى مريم } وقد تكلم بعض المفسرين في أحكام ما شرحت به الكلمات من : المضمضة ، والاستنشاق ، وقص الشارب ، وإعفاء اللحية ، والفرق ، والسدل ، والسواك ، ونتف الإبط ، وحلق العانة ، وتقليم الأظفار ، والاستنجاء ، والختان ، والشيب وتغييره ، والثريد ، والضيافة .
وهذا يبحث فيه في علم الفقه ، وليس كتابنا موضوعاً لذلك ، فلذلك تركنا الكلام على ذلك .
فأتمهن : الضمير المستكن في فأتمهن يظهر أنه يعود إلى الله تعالى ، لأنه هو المسند إليه الفعل قبله على طريق الفاعلية .
فأتمهن معطوف على ابتلى ، فالمناسب التطابق في الضمير .
وعلى هذا ، فالمعنى : أي أكملهن له من غير نقص ، أو بينهن ، والبيان به يتم المعنى ويظهر ، أو يسر له العمل بهن وقوّاه على إتمامهن ، أو أتم له أجورهن ، أو أدامهن سنة فيه وفي عقبه إلى يوم الدين ، أقوال خمسة .
ويحتمل أن يعود الضمير المستكن على إبراهيم .
فالمعنى على هذا أدامهن ، أو أقام بهن ، قاله الضحاك ؛ أو عمل بهن ، قاله يمان ؛ أو وفى بهن ، قاله الربيع ، أو أدّاهن ، قاله قتادة .
خمسة أقوال تقرب من الترادف ، إذ محصولها أنه أتى بهن على الوجه المأمور به .
واختلفوا في هذا الابتلاء ، هل كان قبل نبوته أو بعدها ؟ فقال القاضي : كان قبل النبوة ، لأنه نبه على أن قيامه بهن كالسبب ، لأنه جعله إماماً ، والسبب مقدم على المسبب ، فوجب كون الابتلاء مقدماً في الوجود على صيرورته إماماً .
وقال آخرون : إنه بعد النبوة ، لأنه لا يعلم كونه مكلفاً بتلك التكاليف إلا من الوحي ، فلا بد من تقدم الوحي على معرفته بكونه كذلك .
أجاب القاضي : بأنه يحتمل أنه أوحى إليه على لسان جبريل بهذه التكاليف الشاقة ، فلما تمم ذلك ، جعله نبياً مبعوثاً إلى الخلق .
{ قال إني جاعلك } : تقدم أن الاختيار في قال أنها عاملة في إذ ، وإذا جعلنا العامل في إذ محذوفاً ، كانت قال استئنافاً ، فكأنه قيل : فماذا قال له ربه حين أتم الكلمات ؟ فقيل : { قال إني جاعلك للناس إماماً } .
وعلى اختيار أن يكون قال هو العامل في إذ ، يكون قال جملة معطوفة على ما قبلها ، أي وقال إني جاعلك للناس إماماً ، إذ ابتلاه ، ويجوز أن يكون بياناً لقوله : ابتلى ، وتفسيراً له .
للناس : يجوز أن يراد بهم أمته الذين اتبعوه ، ويجوز أن يراد به جميع المؤمنين من الأمم ، ويكون ذلك في عقائد التوحيد وفيما وافق من شرائعهم .
وللناس : في موضع الحال ، لأنه نعت نكرة تقدم عليها ، التقدير : إماماً كائناً للناس ، قالوا : ويحتمل أن يكون متعلقاً بجاعلك ، أي لأجل الناس .
وجاعل هنا بمعنى مصير ، فيتعدى لاثنين ، الأول : الكاف الذي أضيف إليها اسم الفاعل ، والثاني : إماماً .
قيل : قال أهل التحقيق : والمراد بالإمام هنا : النبي ، أي صاحب شرع متبع ، لأنه لو كان تبعاً لرسول ، لكان مأموماً لذلك الرسول لا إماماً له .
ولأن لفظ الإمام يدل على أنه إمام في كل شيء ، ومن يكون كذلك ، لا يكون إلا نبياً .
ولأن الأنبياء من حيث يجب على الخلق اتباعهم هم أئمة ، قال تعالى : { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا } والخلفاء أيضاً أئمة ، وكذلك القضاة والفقهاء والمصلي بالناس ، ومن يؤتم به في الباطل .
قال تعالى : { وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار } فلما تناول الاسم هؤلاء كلهم ، وجب أن يحمل هنا على أشرف المراتب وأعلاها ، لأنه ذكره في معرض الامتنان ، فلا بد أن يكون أعظم نعمة ، ولا شيء أعظم من النبوة .
قال ومن ذريتي ، قال الزمخشري : عطف على الكاف ، كأنه قال : وجاعل بعض ذريتي ، كما يقال لك : سأكرمك ، فتقول : وزيداً .
ولا يصح العطف على الكاف ، لأنها مجرورة ، فالعطف عليها لا يكون إلا بإعادة الجار ، ولم يعد ، ولأن من لا يمكن تقدير الجار مضافاً إليها ، لأنها حرف ، فتقديرها بأنها مرادفة لبعض حتى تقدر جاعلاً مضافاً إليها لا يصح ، ولا يصح أن تكون تقدير العطف من باب العطف على موضع الكاف ، لأنه نصب ، فيجعل من في موضع نصب ، لأن هذا ليس مما يعطف فيه على الموضع ، على مذهب سيبويه ، لفوات المحرز ، وليس نظير : سأكرمك ، فتقول : وزيداً لأن الكاف هنا في موضع نصب .
والذي يقتضيه المعنى أن يكون من ذريتي متعلقاً بمحذوف ، التقدير : واجعل من ذريتي إماماً ، لأن إبراهيم فهم من قوله إني جاعلك للناس إماماً الاختصاص ، فسأل الله تعالى أن يجعل من ذريته إماماً .
وقرأ زيد بن ثابت : ذريتي بالكسر في الذال .
وقرأ الجمهور بالضم ، وذكرنا أنها لغات فيها ، ومن أي شيء اشتقت حين تكلمنا على المفردات .
{ قال لا ينال عهدي الظالمين } : والضمير في قال الثانية ضمير إبراهيم ، وفي قال هذه عائد على الله تعالى .
والعهد : الإمامة ، قال مجاهد : أو النبوة ، قاله السدي ؛ أو الأمان ، قاله قتادة .
وروي عن السدي ، واختاره الزجاج : أو الثواب قاله قتادة أيضاً ؛ أو الرحمة ، قاله عطاء ؛ أو الدين ، قاله الضحاك والربيع ، أو لا عهد عليك لظالم أن تطيعه في ظلمه ، قاله ابن عباس ؛ أو الأمر من قوله : { إن الله عهد إلينا } { ألم أعهد إليكم } أو إدخاله الجنة من قوله : كان له { عند الله عهداً } أن يدخله الجنة ؛ أو طاعتي ، قاله الضحاك أيضاً ؛ أو الميثاق ؛ أو الأمانة .
والظاهر من هذه الأقوال : أن العهد هي الإمامة ، لأنها هي المصدر بها ، فأعلم إبراهيم أن الإمامة لا تنال الظالمين .
وذكر بعض أهل العلم أن قوله : { ومن ذريتي } هو استعلام ، كأنه قيل : أتجعل من ذريتي إماماً : وقد قدمنا أن الظاهر أنه على سبيل الطلب ، أي واجعل من ذريتي .
وهذا الجواب الذي أجاب الله به إبراهيم هو من الجواب الذي يربو على السؤال ، لأن إبراهيم طلب من الله ، وسأل أن يجعل من ذريته إماماً ، فأجابه إلى أنه لا ينال عهده الظالمين ، ودل بمفهومه الصحيح على أنه ينال عهده من ليس بظالم ، وكان ذلك دليلاً على انقسام ذريته إلى ظالم وغير ظالم ، ويدلك على أن العهد هو الإمامة أن ظاهر قوله : { لا ينال عهدي الظالمين } أنه جواب لقول إبراهيم : { ومن ذريتي } على سبيل الجعل ، إذ لو كان على سبيل المنع لقال لا ، أو لا ينال عهدي ذريتك ، ولم ينط المنع بالظالمين .
وقرأ أبو رجاء وقتادة والأعمش : الظالمون بالرفع ، لأن العهد ينال ، كما ينال أي عهدي لا يصل إلى الظالمين ، أو لا يصل الظالمون إليه ولا يدركونه .
وقد فسر الظلم هنا بالكفر ، وهو قول ابن جبير ، وبظلم المعاصي غير الكفر ، وهو قول عطاء والسدي .
واستدل بهذا على أن الظالم إذا عوهد لم يلزم الوفاء بعهده ، قال الحسن : لم يجعل الله لهم عهداً .
قال ابن أبي الفضل : ما ذكره المفسرون من أنه سأل الإمامة لذريته ، وأنه أجيب إلى ملتمسه لا يظهر من اللفظ ، لأنه قال : ومن ذريتي ، وهو محتمل ، وجاعل من ذريتي ، أو تجعل من ذريتي ، أو اجعل من ذريتي .
وإذا كان هذا كله محتملاً غير منطوق به ، فمن أين لهم أنه سأل ؟ وأما قولهم : أجيب إلى ملتمسه ، فاللفظ لا يدل على ذلك ، بل يدل على ضده ، لأن ظاهره : أن أولادك ظالمون .
لكن دل الدليل على خلاف ذلك ، وهو : { وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب } ، وغير ذلك من الآي التي تدل على أن في ذريته النبوة .
ولو قال : لا ينال عهدي الظالمين منهم ، لدل ذلك على ما يقولون على أن اللفظ لا ينزل عليه نزولاً بيناً .
وفيما ذكره ابن أبي الفضل نظر ، لأن تلك التقادير التي قدرها ظاهرها السؤال .
أما من قدر : واجعل من ذريتي إماماً ، فهو سؤال ؛ وأما من قدر : وتجعل وجاعل ، فهو استفهام على حذف الاستفهام ، إذ معناه : وأجاعل أنت يا رب ، أو أتجعل يا رب من ذريتي .
والاستفهام يؤول معناه إلى السؤال ، ولا يجوز أن يكون المقدر من قولهم : وجاعل ، أو تجعل من ذريتي إماماً خبراً ، لأنه خبر من نبي .
وإذا كان خبراً من نبي ، كان صدقاً ضرورة .
ولم يتقدم من الله إعلام لإبراهيم بذلك ، إنما أعلمه أنه يجعله للناس إماماً .
فمن أين يخبر بذلك ؟ ومن يخاطب بذلك ؟ إن كان الله قد أعلمه ذلك .
وإنما ذلك التقدير على سبيل الاستفهام والاستعلام .
هل تحصل الإمامة لبعض ذريته أم لا تحصل ؟ فأجابه الله : إلى أن من كان ظالماً لا يناله عهده .
وأما قوله : إن ظاهر اللفظ أن أولادك ظالمون ، فليس كذلك ، بل ظاهره أنه لا يناله من ظلم من أولاده وغير أولاده ، ودل بمفهوم الصفة على أن غير الظالم ينالها .
ولو كان على ما قاله ابن أبي الفضل ، لكان اللفظ لا ينالها ذريتك لظلمهم ، مع أنه يحتمل أن الظالمين تكون الألف واللام فيه معاقبة للضمير ، أي : ظالموهم ، أو الضمير محذوف ، أي منهم .
ومن أغرب الانتزاعات في قوله : { لا ينال عهدي الظالمين } ما ذكر لي بعض الإمامية أنهم انتزعوا من هذا ، كون أبي بكر لا يكون إماماً قالوا : لأن إطلاق اسم الظلم يقع عليه ، لأنه سجد للأصنام ، فقد ظلم .
وقد قال تعالى : { لا ينال عهدي الظالمين } ، وذلك بخلاف عليّ ، فإنه لم يسجد لصنم قط .
قلت له : فيلزم أن يسمي كل من أسلم من الصحابة ظالماً ، كسلمان ، وأبي ذر ، وابن مسعود ، وحذيفة ، وعمار .
وهذا ما لا يذهب إليه أحد ، فلم يحر جواباً .
وقال الزمخشري : وقالوا في هذا دليل على أن الفاسق لا يصلح للإمامة ، وكيف يصلح لها من لا يجوز حكمه ولا شهادته ، ولا تجب طاعته ، ولا يقبل خبره ، ولا يقدم للصلاة ؟ وكان أبو حنيفة رضي الله عنه يفتي سراً بوجوب نصرة زيد بن عليّ ، وحمل المال إليه ، والخروج معه على اللص المتغلب المتسمي بالإمام والخليفة ، كالدوانيقي وأشباهه .
وقالت له امرأة : أشرت على ابني بالخروج مع إبراهيم ومحمد ، ابني عبد الله بن الحسين ، حتى قتل فقال : ليتني مكان ابنك .
وكان يقول في المتصور وأشياعه : لو أرادوا بناء مسجد ، وأرادوني على عد آجره لما فعلت .
وعن ابن عيينة : لا يكون الظالم إماماً قط .
وكيف يجوز نصب الظالم للإمامة ، والإمام إنما هو لكف المظلمة ؟ فإذا نصب من كان ظالماً في نفسه ، فقد جاء المثل السائر : من استرعى الذئب فقد ظلم .
وزيد بن عليّ الذي ذكره ، هو زيد بن عليّ زين العابدين بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب ، كرم الله وجهه ، وهو أخو محمد الباقر بن عليّ ، وإليه تنتسب الزيدية اليوم .
وكان من أهل العلم والفقه والفهم في القرآن والشجاعة ، وإنما ذكره الزمخشري ، لأنه كان بمكة مجاوراً للزيدية ومصاحباً لهم ، وصنف كتابه الكشاف لأجلهم .
واللص المتغلب المتسمى بالإمام والخليفة ، الذي ذكره الزمخشري ، هو هشام بن عبد الملك ، خرج عليه زيد بن عليّ ، وكان قد قال لأخيه الباقر : ما لك لا تقوم وتدعو الناس إلى القيام معك ؟ فأعرض عنه وقال له : لهذا وقت لا يتعداه .
فدعا إلى نفسه وقال : إنما الإمام منا من أظهر سيفه وقام بطلب حق آل محمد ، لا من أرخى عليه ستوره وجلس في بيته .
فقال له الباقر : يا زيد ! إن مثل القائم من أهل هذا البيت قبل قيام مهديهم ، مثل فرخ نهض من عشه من قبل أن يستوي جناحاه .
فإذا فعل ذلك سقط ، فأخذه الصبيان يتلاعبون به .
فاتق الله في نفسك أن لا تكون المصلوب غداً بالكناسة .
فلم يلتفت زيد لكلام الباقر ، وخرج على هشام ، فظفر به وصلبه على كناسة الكوفة ، وأحرقه بالنار ، وكان كما حذره الباقر .
وأما الدوانيقي ، فهو المنصور أخو السفاح ، سمي بذلك قيل لبخله .
وقد ذكر بعض المصنفين أنه لم يكن بخيلاً ، وذكر من عطائه وكرمه أخباراً كثيرة .
وأما إبراهيم ومحمد ، اللذان ذكرهما الزمخشري ، فهما ابنا عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، كانا قد تغيبا أيام السفاح ، وأول أيام المنصور ، ثم ظهر محمد أول يوم من رجب سنة خمس وأربعين ومائة ، ودخل مسجد المدينة قبل الفجر ، فخطب حتى حضرت الصلاة ، فنزل وصلى بالناس ، وبويع بالمدينة طوعاً ، واستعمل العمال ، وغلب على المدينة والبصرة ، وجبى الأموال .
وكان إبراهيم أخوه قد صار إلى البصرة يدعو إليه .
وآخر أمرهما أن المنصور وجه إليهما العساكر وقتلا .
وقد ذكر بعض المفسرين هنا أحكام الإمامة الكبرى ، وإن كان موضوعها أصول الدين ، فهناك ذكرها ، لكني لا أخلي كتابي عن شيء ملخص فيها دون الاستدلال .
فنقول : الذي عليه أصحاب الحديث والسنة ، أن نصب الإمام فرض ، خلافاً لفرقة من الخوارج ، وهم أصحاب نجدة الحروري .
زعموا أن الإمامة ليست بفرض ، وإنما على الناس إقامة كتاب الله وسنة رسوله ، ولا يحتاجون إلى إمام ، ولفرقة من الإباضية زعمت أن ذلك تطوع .
واستناد فرضية نصب الإمام للشرع لا للعقل ، خلافاً للرافضة ، إذ أوجبت ذلك عقلاً ، ويكون الإمام من صميم قريش ، خلافاً لفرقة من المعتزلة ، إذ قالوا : إذا وجد من يصلح لها قرشي ونبطي ، وجب نصب النبطي دون القرشي ، وسواء في ذلك بطون قريش كلها ، خلافاً لمن خص ذلك بنسل عليّ ، أو العباس ، إما منصوصاً عليه ، وإما باجتهاد ، ويكون أفضل القوم ، فلا ينعقد للمفضول مع وجود الفاضل ، خلافاً لأبي العباس القلانسي ، فإنه يقول : ينعقد للمفضول ، إذا كان بصفة الإمامة ، مع وجود الفاضل ، وشروطه : أن يكون عدلاً مجتهداً في أحكام الشريعة ، شجاعاً ، والشجاعة في القلب بحيث يمكنه ضبط الأمر وحفظ بيضة الإسلام ، ولا يجوز نصب ساقط العدالة ابتداء ، فإن عقد لشخص كامل الشروط ثم طرأ منه فسق ، فقال أبو الحسن : يجوز الخروج عليه إذا أمن الناس .
وإلى هذا ذهب كثير من أهل العلم .
وقال أبو الحسن أيضاً ، والقاضي أبو بكر بن الطيب : لا يجوز الخروج عليه ، وإن أمن الناس ذلك ، إلا أن يكفر أو يدعو إلى ضلالة وبدعة ، والمرجوع في نصبه إلى اختيار أهل الاجتهاد في الدين ، والعامة في ذلك تبع لهم ولا اعتبار بهم في ذلك ، وليس من شرطه اجتماع كل المجتهدين ، ولا اعتبار في ذلك بعدد ، بل إذا عقد واحد من أهل الحل والعقد ، وجبت المبايعة على كلهم ، خلافاً لمن خص أهل البيعة بأربعة .
وقال : لا ينعقد بأقل من ذلك ، أو لمن قال : لا ينعقد إلا بأربعين ، أو لمن قال : لا ينعقد إلا بسبعين ، ثم من خالف كان باغياً أو ناظراً أو غالطاً ، ولكل واحد منهم حكم يذكر في علم الفقه .
ولا ينعقد لإمامين في عصر واحد ، خلافاً للكرامية ، إذ أجازوا ذلك ، وزعموا أن علياً ومعاوية كانا إمامين في وقت واحد ، والقول بالتقية باطل ، خلافاً للإمامية ، ومعناها : أنه يكون الشخص الجامع لشروط الإمامة إماماً مستوراً ، لكنه يخفي نفسه مخافة من غلب على الملك ممن لا يصلح للإمامة .
وليس من شرط الإمام العصمة ، خلافاً للرّافضة ، فإنهم يقولون بوجوب العصمة للإمام سرًّا وعلناً .
وليس من شرطه الإحاطة بالمعلومات كلها ، خلافاً للإمامية ، والإمام مفترض الطاعة فيما يؤدّي إليه اجتهاده .
وليس لأحد الخروج عليه بالسيف ، وكذلك لا يجوز الخروج على السلطان الغالب ، خلافاً لمن رأى ذلك من المعتزلة والخوارج والرافضة وغيرهم .
وقد تكلم بعض الناس هنا في الإمامة الصغرى وهي : الإمامة في الصلاة ، وموضوعها علم الفقه .