لطائف الإشارات للقشيري - القشيري  
{۞وَإِذِ ٱبۡتَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِـۧمَ رَبُّهُۥ بِكَلِمَٰتٖ فَأَتَمَّهُنَّۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامٗاۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِيۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهۡدِي ٱلظَّـٰلِمِينَ} (124)

البلاء تحقيق الولاء ، فأصدقهم ولاءً أشدُّهم بلاء .

ولقد ابتلى الحق - سبحانه - خليلَه عليه السلام بما فرض عليه وشرع له ، فقام بشرط وجوبها ، ووَفَّى بحكم مقتضاها ، فأثنى عليه سبحانه بقوله :{ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } [ النجم : 37 ] - من التوفية - أي لم يُقَصِّر بوجهٍ ألبتة .

يقال حملَّه أعباء النبوة ، وطالبه بأحكام الخُلَّة ، وأشد بلاء له كان قيامه بشرائط الخلة ، والانفراد له بالتجافي عن كل واحد وكل شيء ، فقام بتصحيح ذلك مختليًا عن جميع ما سواه ، سِرًّا وعَلَنًا .

كذلك لم يلاحظ جبريلَ عليه السلام حين تعرض له وهو يُقْذف في لُجة الهلاك ، فقال : هل من حاجة ؟ فقال : أمَّا إِليكَ . . . فلا .

ومن كمال بلائه تعرض جبريل عليه السلام في تلك الحالة ، وأي بقية كانت بقيت له منه حتى يكون لمخلوق فيه مساغ كائنًا من كان ؟ !

وفي هذا إشارة دقيقة إلى الفَرْقِ بين حال نبيِّنا صلى الله عليه وسلم وحال إبراهيم عليه السلام ، لأنه تعرض جبريل للخليل وعَرَضَ عليه نفسه :

فقال : أمَّا إليكَ . . . فَلاَ . ولم يُطِقْ جبريل صحبة النبي صلى الله عليه وسلم فنطق بلسان العجز وقال : لو دنوتُ أنملة لاحترقتُ .

وشتّان بين حالة يكون فيها جبريل عليه السلام من قُوَّتِه بحيث يعرض للخليل عليه السلام نفسه ، وبين حالةٍ يعترف للحبيب - صلوات الله عليه - فيها بعجزه .

قوله جلّ ذكره : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذريتي قَالَ لاَ يَنَالُ عهدي الظَّالِمِينَ وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا } .

الإمام مَنْ يُقْتَدى به ، وقد حقَّق له هذا حتى خاطب جميع الخلائق إلى يوم القيامة بالاقتداء به فقال :{ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ }[ الحج : 78 ] أي اتبعوا ملة إبراهيم يعني التوحيد ، وقال : { وَاتَّخَذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى } .

هذا هو تحقيق الإمامة . ورتبة الإمامة أن يَفْهَم عن الحق ثم يُفْهِمَ الخَلق ؛ فيكون واسطة بين الحق والخَلْق ، يكون بظاهره مع الخَلْق لا يفتر عن تبليغ الرسالة ، وبباطنه مشاهدًا للحق ، لا يتغير له صفاء الحالة ، ويقول للخلْق ما يقوله له الحق .

قوله جلّ ذكره : { وَمِن ذُرِّيَّتِى } .

نطق بمقتضى الشفقة عليهم ، فطلب لهم ما أُكرِم به . فأخبره أن ذلك ليس باستحقاق نَسَب ، أو باستيجاب سبب ، وإنما هي أقسام مضت بها أحكام فقال له : { لاَ يَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ } وليس هذا كنعيم الدنيا وسعة الأرزاق فيها ، فهي لا ادِّخَار لها عن أحد وإن كان كافرًا ، ولذلك قال جلّ ذكره : { وَارزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ } .

فقال الله تعالى : { وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً } .

يعني ليس للدنيا من الخطر ما يمنعها عن الكفار ، ولكن عهدي لا يناله إلا مَنْ اخترته مِنْ خواص عبادي .

أمَّا الطعام والشراب فغير ممنوع من أحد .

أمَّا الإسلام والمحاب فغير مبذول لكل أحد .