غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{۞وَإِذِ ٱبۡتَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِـۧمَ رَبُّهُۥ بِكَلِمَٰتٖ فَأَتَمَّهُنَّۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامٗاۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِيۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهۡدِي ٱلظَّـٰلِمِينَ} (124)

124

التفسير : إنه تعالى لما استقصى في شرح نعمه على بني إسرائيل والمشركين ومقابلتهم النعمة بالكفران والعناد ، شرع في نوع آخر من البيان وهو ذكر قصة إبراهيم عليه السلام لأن كلهم معترفون بفضله وأنهم من أولاده ومن ساكني حرمه وخدام بيته ، وفي قصته أمور توجب الاعتراف بدين محمد صلى الله عليه وسلم والانقياد لشرعه منها : أنه أمر ببعض التكاليف ثم وفى بها فنال منصب الاقتداء به ، فيعلم أن الخيرات كلها لا تحصل إلا بترك التمرد والانقياد لحكم الله والتزام تكاليفه ، ومنها أنه طلب الإمامة لذريته فقيل له { لا ينال عهدي الظالمين } فيعرف أن طالب الحق يجب أن يترك التعصب والمراء ووضع ما رفعه الله لينال رياسة الدارين ، ومنها أن القبلة لما حولت إلى الكعبة شق ذلك على اليهود فأريد إزالة غيظهم بأن هذا البيت قبلة إبراهيم الذي اعترفوا بتعظيمه والاقتداء به ، ومنها أنه دعا بإرسال نبي من ذريته وهو محمد صلى الله عليه وسلم كما يجيء فيجب على من يعترف بإبراهيم أن يعترف بمحمد صلى الله عليه وسلم . أما قوله { وإذ ابتلى } العامل في { إذ } إما مضمر نحو " واذكر " وتكون بمعنى الوقت فقط ، أو وإذ ابتلى كان كيت وكيت ، وإما { قال إني جاعلك للناس إماماً } وعلى هذين التقديرين تكون ظرفاً لكان أو قال .

وموقع { قال } على الأولين استئناف كأنه قيل : فماذا قال له ربه حين أتم الكلمات ؟ فأجيب { قال إني جاعلك } وعلى الثاني جملة معطوفة على ما قبلها من الآيات ولا يخفى أن الاستئناف أصوب ليناسب سياق الجملتين الآتيتين لورودهما أيضاً على طريقة السؤال المقدر والجواب ، وليكون على منهاج { وإذا جعلنا } { وإذا قال إبراهيم }

{ وإذ يرفع } [ البقرة : 127 ] والابتلاء الاختبار والامتحان ، عبر تكليفه إياه بالبلوى تشبيهاً لأمره بأمر المخلوقين وبناء على العرف بيننا ، فإن كثيراً منا قد يأمر ليعرف ما يكون من المأمور حينئذ وإلا فكيف يجوز حقيقة الابتلاء عليه تعالى مع أنه عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها على سبيل التفصيل من الأزل إلى الأبد وقيل : مجاز عن تمكينه العبد من اختيار أحد الأمرين ما يريد الله وما يشتهيه هو كأنه يمتحنه ما يكون منه حتى يجازيه على حسب ذلك . واعلم أن هشام بن الحكم ومن تابعه زعم أنه تعالى كان في الأزل عالماً بحقائق الأشياء وماهياتها فقط ، وأما حدوث تلك الماهيات ودخولها في الوجود فهو تعالى لا يعلمها إلا عند وقوعها بدليل هذه الآية وأمثالها المذكور فيها الابتلاء . وكلمة " لعل " والجواب عنها ما مر ، وقد يستدل أيضاً على مذهبه بوجوه معقولة منها أنه تعالى لو كان عالماً بالأشياء قبل وقوعها لزم نفي القدرة عن الخالق ، لأن ما علم الله وقوعه استحال أن لا يقع ، وما علم أنه لا يقع استحال أن يقع ولا قدرة على الواجب وعلى الممتنع بالاتفاق ، والجواب أن الوجوب بالغير وكذا الامتناع بالغير لا ينافيان قدرة القادر عليه ، وإنما المنافي للقدرة عليه كونه واجباً لذاته أو ممتنعاً لذاته ، ومنها أنه لو كان عالماً بجميع الجزئيات لكان له علوم غير متناهية أو كان لعلمه تعلقات غير متناهية ، فيلزم حصول موجودات غير متناهية دفعة واحدة وذلك محال ، لأن مجموع تلك الأشياء أزيد من ذلك المجموع بعينه عند نقصان عشرة منها ، فالناقص متناه وكذا الزائد . ونوقض بمراتب الأعداد التي لا نهاية لها ، وأيضاً المجموعية والزيادة والنقصان كلها من خواص المتناهي ، فأما الذي لا نهاية له ففرض هذه الأعراض فيه محال . ومنها أن هذه المعلومات التي لا نهاية لها هل يعلم الله عددها مفضلة أو لا يعلم ؟ فإن علم عددها فهي متناهية ، وإن لم يعلم فهو المطلوب . والجواب الاختيار أنه لا يعلم عددها ، ولا يلزم الجهل لأن الجهل هو أن يكون لها عدد معين ثم إن الله لا يعلم عددها ، فأما إذا لم يكن لها عدد في نفسها فلا جهل ومنها أن كل معلوم فهو متميز في الذهن عما عداه ، وكل متميز عما عداه خارج عنه ، وكل ما خرج عنه غيره فهو متناه ، وكل معلوم متناه فما هو غير متناه استحال أن يكون معلوماً . والجواب أنه ليس من شرط المعلوم تميزه من غيره عند العالم ، لأن العلم بتميزه عن غيره موقوف على العلم بذلك الغير ، ويلزم منه أن لا يعلم الإنسان شيئاً إلا إذا علم أموراً لا نهاية لها . والحق أن نور الأنوار لا يتناهى ووراء لا يتناهى ما لا يتناهى ، وإحاطة غير المتناهي بغير المتناهي غير بعيد وقد يتعلق علمنا بكثير من الأشياء قبل حصولها ، فإذا كان علمنا مع تناهي قوتنا ونوريتنا . هكذا فما ظنك بالعليم الخبير الذي هو نور النور ومدبر الأمور وكل عسير عليه يسير ؟ { إبراهيم } بالنصب { ربه } بالرفع هو المشهور وهذه الصورة مما يجب فيه تأخير الفاعل وإزالته عن مركزه الأصلي ، فإنه لو قدم الفاعل وقد اتصل به ضمير المفعول لزم الإضمار قبل الذكر لفظاً ، وعن ابن عباس وأبي حنيفة رفع { إبراهيم } ونصب { ربه } فالمعنى أنه دعاه بكلمات من الدعاء فعل المختبر هل يجيب الله تعالى إليهن أم لا ؟ واختلف المفسرون في أن ظاهر لفظ التنزيل هل يدل على تلك الكلمات أم لا ؟ فقال بعضهم : اللفظ يدل عليها وهي الإمامة وتطهير البيت ورفع قواعده والدعاء بابتعاث محمد صلى الله عليه وسلم ، فكل هذه تكاليف شاقة ، أما الإمامة فلأن المراد بها النبوة ، وأعباؤها أكثر من أن تحصى ، ولهذا فإن ثواب النبي أعظم من ثواب غيره ، وأما بناء البيت وتطهيره ورفع قواعده ، فمن وقف على ما روي في كيفية بنائه عرف شدة البلوى فيه . ثم إنه يتضمن إقامة المناسك ، وقد امتحن الله الخليل بالشيطان في الموقف كرمي الجمار وغيره . وأما الاشتغال بالدعاء ببعث نبي آخر الزمان فيحتاج فيه إلى الإخلاص وإزالة الحسد عن القلب وذلك في غاية الصعوبة . واعترض على هذا القول بأن المراد من الكلمات لو كانت هذه لناسب أن يذكر قوله { فأتمهن } بعد تعداد الجميع . وأجيب بأنه أخبر أنه ابتلاه بكلمات على الإجمال ثم أخبر أنه أتمها ثم فصل تلك الأمور ، وهذا ترتيب في غاية الحسن ، إذ لو ذكر { فأتمهن } بعد هذا التفصيل لوقع ضائعاً ولانقطع النظم . والقائلون بأن ظاهر الآية لا دلالة فيه على الكلمات زعم بعضهم أنها الكلمات التي تكلم بها إبراهيم مع قومه وقت تبليغ الرسالة ، وزعم بعضهم أنها أوامر ونواهٍ . فعن ابن عباس هي عشر خصال كانت فريضة في شرعه وهي عندنا سنة : خمس في الرأس : المضمضة والاستنشاق وفرق الرأس وقص الشارب والسواك ، وخمس في الجسد : الختان وحلق العانة ونتف الإبط وتقليم الأظفار والاستنجاء بالماء . وقيل : ابتلاه الله تعالى من شرائع الإسلام بثلاثين سهماً ، عشرة في براءة { التائبون العابدون }

[ التوبة : 112 ] الآية وعشرة في الأحزاب { إن المسلمين والمسلمات } [ الأحزاب : 35 ] وعشرة في " المؤمنين " " وسأل سائل " إلى قوله { والذين هم على صلاتهم يحافظون } [ المعارج : 34 ] وقيل : هن مناسك الحج كالطواف والسعي والرمي والإحرام والوقوف بعرفة . وقيل : ابتلاه بسبعة أشياء : بالكواكب والقمر والشمس والختان على الكبر والنار وذبح الولد والهجرة ، فوفى بالكل { وإبراهيم الذي وفى } [ النجم : 34 ] وقيل : ما ذكره في قوله { إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين } [ البقرة : 131 ] وقيل : المناظرات التي جرت بينه وبين أبيه ونمروذ وقومه ، والصلاة والزكاة والصوم ، وقسم الغنائم والضيافة والصبر عليها . وجملة القول أن الابتلاء بتناول إلزام كل ما في فعله كلفة ، واللفظ يتناول مجموع هذه الأشياء وكلاً منها إلا أن الكلام في الرواية ، ثم قيل : إن هذا الابتلاء كان قبل النبوة لأنه تعالى نبه على أن قيامه بهن كالسبب لأن جعله إماماً . وقيل : إنه بعد النبوة لأنه لم يعلم كونه مكلفاً بتلك التكاليف إلا من الوحي . والحق أن هذا يختلف باختلاف تفسير التكاليف ، فمنها ما يعلم بالضرورة كونها قبل النبوة كحديث الكوكب والشمس والقمر ، ومنها ما ثبت أنه كان بعد النبوة كذبح الولد والهجرة والنار ، وكذا الختان فإنه يروى أنه ختن نفسه وكان سنه مائة وعشرين ، ومنها ما هو بصدد الاحتمال فقد يمكن أن يكون إلى معرفته سبيل سوى الوحي كمنام أو إلهام . والضمير في { أتمهن } على القراءة المشهورة لإبراهيم عليه السلام بمعنى فقام بهن حق القيام وأداهن أحسن التأدية من غير تفريط وتوانٍ وفي الأخرى لله تعالى أي فأعطاه ما طلبه ولم ينقص منه شيئاً ، ويعضده ما روي عن مقاتل أنه فسر الكلمات بما سأل إبراهيم ربه في قوله { رب اجعل هذا بلداً آمناً } { واجعلنا مسلمين لك } [ البقرة : 128 ] { وابعث فيهم رسولاً } [ البقرة : 129 ] { ربنا تقبل منا }

[ البقرة : 127 ] والإمام اسم لمن يؤتم به " فعال " بمعنى " مفعول " كالإزار لما يؤتزر به أي يأتمون بك في دينهم . والأكثرون على أن الإمام ههنا النبي لأنه جعله إماماً لكل الناس ، فلو لم يكن مستقلاً بشرع كان تابعاً لرسول ويبطل العموم ولأن إطلاق الإمام يدل على أنه إمام في كل شيء ، والذي يكون كذلك لابد أن يكون نبياً ، ولأن الله تعالى سماه بهذا الاسم في معرض الامتنان فينبغي أن يحمل على أجلّ مراتب الإمامة كقوله

{ وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا } [ السجدة : 24 ] لا على من هو دونه ممن يستحق الاقتداء به في الدين كالخليفة والقاضي والفقيه وإمام الصلاة ، ولقد أنجز الله تعالى هذا الوعد فعظمه في عيون أهل الأديان كلها ، وقد اقتدى به من بعده من الأنبياء في أصول مللهم { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً } [ النحل : 123 ] وكفى به فضلاً أن جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم يقولون في صلاتهم " اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم " ثم القائلون بأن الإمام لا يصير إماماً إلا بالنص تمسكوا بهذه الآية وأمثالها من نحو { إني جاعل في الأرض خليفة } [ البقرة : 30 ] { يا داود إنا جعلناك خليفة } [ ص : 26 ] ومنع بأن الإمام يراد به ههنا النبي سلمنا أن المراد به مطلق الإمام لكن الآية تدل على أن النص طريق الإمامة وذلك لا نزاع فيه ، إنما النزاع في أنه لا طريق للإمامة سوى النص ، ولا دلالة في الآية على ذلك وفي الآية دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان معصوماً عن جميع الذنوب ، لأنه لو صدرت عنه معصية لوجب علينا الاقتداء به وذلك يؤدي إلى كون الفعل الواحد ممنوعاً منه مندوباً إليه وذلك محال . والذرية نسل الثقلين من ذرأ الله الخلق ذرأ خلقهم إلا أن العرب تركت همزها كما في البرية ، ويحتمل أن يكون منسوباً إلى الذر صغار النمل ، والضم من تغيير النسب كالدهري في النسبة إلى دهر { ومن ذريتي } عطف على الكاف كأنه قال : وجاعل بعض ذريتي كما يقال " سأكرمك فتقول وزيداً " ولا يخفى أن { من } التبعيضية تدل على أنه طلب الإمامة لبعض ذريته لعلمه بأن كلهم قد لا يليق بذلك لأن ناساً غير محصورين لا يخلو من ظالم فيهم غالباً ، ولعلمه بأن بعضهم يليق بها كإسماعيل وإسحاق . وقد حقق الله تعالى أمله فجعل في أولاده وأحفاده كإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وهارون وداود وسليمان وأيوب ويونس وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس ثم محمد صلى الله عليه وسلم أفضلهم وأشرفهم ، ولأنه لم يطلب الإمامة إلا للبعض فكان يكفي في الجواب نعم إلا أنه لم يكن حينئذ نصاً في أن ذلك البعض من المؤمنين أم من الظالمين . ولو قال " ينال عهدي المؤمنين " كان غاية ذلك خروج الظالمين بالمفهوم لا بالنص ، فلمكان التنصيص على إخراج الظالم قال { لا ينال عهدي الظالمين } والمراد بالعهد هو الإمامة المطلوبة ، سميت عهداً لاشتمالها على كل عهد عهد به الله تعالى إلى بنى آدم إذ لا رياسة أعظم من ذلك كقوله { ولقد عهدنا إلى آدم من قبل } [ طه : 115 ] { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم } [ الأحزاب : 7 ] وإذا خرج الظالم تعين الصالح للإمامة بطريق برهاني . وذلك أن دعاءه مستجاب ألبتة فكل نبي مجاب ، ولأنه لو لم يكن الصالح إماماً لم يكن لإخراج الظالم وتخصيصه بالذكر معنى . ويحتمل أن يقال : إنه أراد الإمامة لأولاده المؤمنين لا محالة لعلمه بأن الكفرة والظلمة لا تصلح لذلك ، فأجيب بما أجيب إسعافاً لطلبته بأبلغ معنى وأتمه كما إذا قيل لمن أشرف " أوص لابنك بشيء " فيقول : لا يرث مني أجنبي أي كل ما يبقى مني فهو لابني ، فكيف أوصي له بشيء ؟ ولا يرد أن يونس نال عهده مع أنه ظالم { سبحانك إني كنت من الظالمين } [ الأنبياء : 87 ] لأن الظلم فيه محمول على ترك الأولى كما في حق آدم

{ ربنا ظلمنا أنفسنا } [ الأعراف : 23 ] لا على الكفر والفسق . وقد يستدل الإمامية على إبطال غير إمامة علي كرم الله وجهه قالوا : إنهم كانوا مشركين قبل الإسلام بالاتفاق ، وكل مشرك ظالم { إن الشرك لظلم عظيم } [ لقمان : 13 ] وكل ظالم فإنه لا ينال عهد الإمامة قالوا : لا يقال إنهم كانوا ظالمين حال كفرهم ، فبعد زوال الكفر لا يبقى هذا الاسم لأنا نقول : الظالم من ثبت له الظلم ، وهذا المعنى صادق عليه دائماً ولهذا يسمى النائم مؤمناً لأنه ثبت له الإيمان وإن لم يكن التصديق حاصلاً حال النوم ، وأيضاً المتكلم والماشي حقيقة في مفهومهما مع أن أجزاء التكلم والمشي لا توجد دفعة ، فدل هذا على أن حصول المشتق منه ليس شرطاً لكون الاسم المشتق حقيقة . وعورض بأنه لو حلف لا يسلم على كافر فسلم على إنسان مؤمن في الحال إلا أنه كان كافراً قبل بسنين متطاولة فإنه لا يحنث ، وبأن التائب عن المعصية لا يسمى عاصياً فكذا التائب عن الكفر ، وإن قيل : لعل هذا المانع شرعي هو تعظيم الصحابة أو لمانع عرفي فهذا القدر يكفينا على أنا بينا أن المراد من الإمامة في الآية النبوة ، فمن كفر بالله طرفة عين فإنه لا يصلح للنبوة وكذا الفاسق حال الفسق لا يجوز عقد الإمامة له باتفاق الجمهور من الفقهاء والمتكلمين ، فإن كل عاصٍ ظالم . والعبرة بالعدالة الظاهرة فنحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر خلافاً للشيعة فإنهم يقولون بوجوب العصمة ظاهراً وباطناً ، ومما يدل على بطلان إمامة الفاسق أن العهد في كتاب الله تعالى قد يستعمل بمعنى الأمر { ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان } [ يس : 60 ] أي ألم آمركم ؟ لكن المراد في الآية لا يمكن أن يكون ذلك فإن أوامره تعالى لازمة للظالمين كما للمطيعين ، فثبت أن المراد كونهم غير مؤتمنين على أوامر الله وغير مقتدى بهم فيها قال صلى الله عليه وسلم " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " فالفاسق لا ينبغي أن يكون حاكماً ولا تنفذ أحكامه إذا ولي الحكم ، ولا تقبل شهادته ولا خبره إذا أخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا فتياه إذا أفتى ، ولا يقدم للصلاة وإن كان بحيث لو اقتدى به لم تفسد صلاته . قال أبو بكر الرازي : ومن الناس من يظن أن مذهب أبي حنيفة أنه يجوز كون الفاسق إماماً وخليفة ولا يجوز كون الفاسق قاضياً ، وهذا خطأ عظيم . نعم أنه قال : القاضي إذا كان عدلاً في نفسه وتولى القضاء من إمام جائر فإن أحكامه نافذة والصلاة خلفه جائزة ، لأن الذي ولاه بمنزلة سائر أعوانه .

وليس من شرط أعوان القاضي أن يكون عدولاً ، ألا ترى أن أهل بلد لا سلطان عليهم لو اجتمعوا على الرضا بتولية رجل عدل منهم القضاء حتى يكونوا أعواناً له على من امتنع من قبول أحكامه كان قضاؤه نافذاً وإن لم يكن له ولاية من جهة إمام ولا سلطان ؟ قال : وكيف يجوز أن يدعي ذلك على أبي حنيفة وقد أكرهه ابن هبيرة في أيام بني أمية على قضائه وضربه فامتنع من ذلك فحبس فلج ابن هبيرة وجعل يضربه كل يوم أسواطاً ، فلما خيف عليه قال له الفقهاء : اقبل له شيئاً من عمله أي شيء كان حتى يزول عنك الضرب ، فتولى له عد أحمال التبن التي تدخل عليه فخلاه ثم دعاه المنصور إلى مثل ذلك حتى عد له اللبن الذي كان يضرب لسور المدينة ، وذلك أنه كان يقول في المنصور وأشياعه : لو أرادوا بناء مسجد وأرادوني على عد آجره لما فعلت ، وقصته في أمر زيد بن علي مشهورة ، وحمله المال إليه وفتياه الناس سراً في وجوب نصرته والقتال معه ، وكذلك أمره مع محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن . وفي الآية إنذار بليغ وتخويف شديد عن وخامة عاقبة الظلم وقبح موقعه فإنه يحط أولاً عن رتبة النبوة { لا ينال عهدي الظالمين } وثانياً عن درجة الولاية { ألا لعنة الله على الظالمين } [ هود : 18 ] وثالثاً عن مرتبة السلطنة " بيت الظالم خراب ولو بعد حين " ، ورابعاً عن نظر الخلائق " جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها " وخامساً عن حظ نفسه { وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } [ البقرة : 57 ] ولله در القائل :

لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً *** فالظلم آخره يأتيك بالندم

نامت عيونك والمظلوم منتبه *** يدعو عليك وعين الله لم تنم

ولآخر :

مرتع ظلم الورى وخيم *** يا صاحب اللب والحجاره

لا تظلم الناس واخش ناراً *** وقودها الناس والحجاره

غيره :

أيحسب الظالم في ظلمه *** أهمله القادر أم أمهلا

ما أهملوا بل لهم موعد *** لن يجدوا من دونه موئلا

غيره :

أتلعب بالدعاء وتزدريه *** وما يدريك ما صنع الدعاء

سهام الليل لا تخطي ولكن *** لها أمد وللأمد انقضاء

واعلم أن عهد الله الذي أخذ على عباده هو بالحقيقة عهد العبودية { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] والعهد الذي التزمه لعباده هو عهد الربوبية

{ ربكم ورب آبائكم الأولين } [ الشعراء : 26 ] ثم إنه تعالى لا يزال يلاحظك بنظر الربوبية فيربيك ويربيك وبعد نعمة الوجود يعطيك نعم الصحة والمكنة والعافية والسلامة والإيمان والأمان والإخوان والأخدان { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها }

[ إبراهيم : 34 ] وأنك لا تنفك عن تقصير ونسيان وجهل وعدوان وإيذاء لملائكة الله وعبيده وإرضاء لحزب الشيطان وجنوده . فيا أيها المغرور ما هذا التقصير فإن لله المصير وما للظالمين من نصير .