محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{۞وَإِذِ ٱبۡتَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِـۧمَ رَبُّهُۥ بِكَلِمَٰتٖ فَأَتَمَّهُنَّۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامٗاۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِيۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهۡدِي ٱلظَّـٰلِمِينَ} (124)

{ * وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمّهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين 124 } .

{ وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمّهن } لما عاب سبحانه أهل الضلال ، وكان جلهم من ذرية إبراهيم عليه السلام ، وجميع طوائف الملل تعظمه ومنهم العرب ، وبيته الذي بناه أكبر مفاخرهم وأعظم مآثرهم ذكّر الجميع ما أنعم به عليه تذكيرا يؤدي إلى ثبوت هذا الدين بإطلاع هذا النبي الأميّ ، الذي لم يخالط عالما قط ، على ما لا يعلمه إلا خواص العلماء . وذكر البيت الذي بناه فجعله عماد صلاحهم ، وأمر بأن يتخذ بعض ما هناك مصلّى ، تعظيما لأمره وتفخيما لعليّ قدره . وفي التذكير بوفائه بعد ذكر الذين وفوا بحق التلاوة ، وبعد دعوة بني إسرائيل عامة إلى الوفاء بالشكر حثٌّ على الإقتداء به . وكذا ذكر الإسلام والتوحيد ، هزٌّ لجميع من يعظمه إلى إتباعه في ذلك . ذكره البقاعيّ .

و " إذ " منصوب على المفعولية بمضمر مقدم خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين . أي واذكر لهم وقت ابتلائه عليه السلام ، ليتذكروا بما وقع فيه من الأمور الداعية إلى التوحيد ، الوازعة عن الشرك ، فيقبلوا الحق ويتركوا ما هم فيه من الباطل . ولا يبعد أن ينتصب بمضمر معطوف على { اذكروا } خوطب به بنو إسرائيل ليتأملوا فيما يحكى ، عمن ينتمون إلى ملته من إبراهيم وبنيه عليهم السلام ، من الأفعال والأقوال ، فيقتدوا بهم ويسيروا سيرتهم . أي واذكروا إذ ابتلى أباكم إبراهيم ، فأتم ما ابتلاه به . فما لكم أنتم لا تقتدون به فتفعلوا عند الابتلاء فعله ، في إيفاء العهد والثبات على الوعد ، لأجازيكم على ذلك جزاء المحسنين ؟ والابتلاء ، في الأصل ، الاختبار . أي تطلّب الخبرة بحال المختبر بتعريضه لأمر يشق عليه ، غالبا ، فعله أو تركه . والاختبار منا لظهور ما لم نعلم . ومن الله لإظهار ما قد علم . وعاقبة الابتلاء ظهور الأمر الخفي في الشاهد والغائب جميعا ، فلذا تجوز إضافته إلى الله تعالى . وقوله تعالى : { بكلمات } أي بشرائع : أوامر ونواه . وللمفسرين أقاويل فيها وفي تعدادها . قال ابن جرير : ولا يجوز الجزم بشيء مما ذكروه منها أنه المراد على التعيين ، إلا بحديث أو إجماع . قال : ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له . انتهى .

وعندي أن الأقرب في معنى الكلمات هو ابتلاؤه بالإسلام ، فأسلم لرب العالمين . وابتلاؤه بالهجرة ، فخرج من بلاده وقومه حتى لحق بالشام مهاجرا إلى الله . وابتلاؤه بالنار فصبر عليها . ثم ابتلاؤه بالختان فصبر عليه . ثم ابتلاؤه بذبح ابنه فسلم واحتسب . كما يؤخذ ذلك من تتبع سيرته في التنزيل العزيز وسفر التكوين من التوراة . ففيهما بيان ما ذكرنا في شأنه عليه الصلاة والسلام . من قيامه بتلك الكلمات حق القيام ، وتوفيتهن أحسن الوفاء . وهذا معنى قوله تعالى : { فأتمّهن } كقوله تعالى : { وإبراهيم الذي وفّى } {[722]} والإتمام التوفية .

{ قال } جملة مستأنفة وقعت جوابا عن سؤال نشأ من الكلام . فكأنه قيل : فما جوزي على شكره ؟ قيل : قال له ربه : { إني جاعلك للناس إماما } أي قدوة لمن بعدك . والإمام اسم لمن يؤتم به . ولم يبعث بعده نبي إلا كان مأمورا بإتباع ملته ، وكان من ذريته . كما قال تعالى : { وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب } {[723]} { قال } أي إبراهيم { ومن ذريتي } أي واجعل من ذريتي أئمة { قال لا ينال } أي قد أجبتك وعاهدتك بأن أحسن إلى ذريتك . لكن لا ينال { عهدي } أي الذي عهدته إليك بالإمامة { الظالمين } أي منهم . لأنهم نفوا أنفسهم عنك في أبوة الدين . ففي قوله : { لا ينال . . . إلخ } إجابة خفية لدعوته عليه السلام . وعدة إجمالية منه تعالى بتشريف بعض ذريته بنيل عهد الإمامة . كما قال تعالى : { وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب } {[724]} وفي ذلك أتم ترغيب في التخلق بوفائه ، لاسيما للذين دعوا قبلها إلى الوفاء بالعهد . وإشارة إلى أنهم إن شكروا أبقى رفعتهم كما دام رفعته ، وإن ظلموا لم تنلهم دعوته ، فضربت عليهم الذلة وما معها ، ولا يجزي أحد عنهم شيئا ولا هم ينصرون . وقرئ { الظالمون } على أن { عهدي } مفعول مقدم اهتماما ورعاية للفواصل .

وقد استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن الظالم ليس بأهل للإمامة . و( الكشاف ) أوسع المقال ، في ذلك ، هنا ، وأبدع في إيراد الشواهد . كما أن الشيعة استدلت بها على صحة قولهم في وجوب العصمة في الأئمة ، ظاهرا وباطنا . على ما نقله الرازي عنهم وحاورهم .

أقول . إن استدلال الفرقتين على مدعاهما وقوف مع عموم اللفظ . إلا أن يكون الآية الكريمة بمعزل عن إرادة خلافة السلطنة والملك .

المراد بالعهد ، تلك الإمامة المسؤول عنها . وهل كانت إلا الإمامة في الدين وهي النبوة التي حرمها الظالمون من ذريته ؟ كما قال تعالى : { وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين } ولو دلت الآية على ما ادّعوا لخالفه الواقع . . . فقد نال الإمامة الدنيوية كثير من الظالمين . فظهر أن المراد من العهد إنما هو الإمامة في الدين خاصة ، والاحتجاج بها على عدم صلاحية الظالم للولاية تمحل . لأنه اعتبار لعموم اللفظ من غير نظر إلى السبب ولا إلى السياق ؛ أو ذهاب إلى أن الخبر في معنى الأمر بعدم تولية الظالم . كما قاله بعضهم . وهو أشد تمحلا . ومعلوم أن الإمام لا بد أن يكون من أهل العدل والعمل بالشرع ، كما ورد . ومتى زاغ عن ذلك كان ظالما ، والبحث في ذلك له غير هذا المقام . وبالله التوفيق .


[722]:[53/ النجم/ 37].
[723]:[29/ العنكبوت/ 27] ونصها: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين 27}.
[724]:[29/ العنكبوت/ 27] ونصها: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين 27}.