فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{۞وَإِذِ ٱبۡتَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِـۧمَ رَبُّهُۥ بِكَلِمَٰتٖ فَأَتَمَّهُنَّۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامٗاۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِيۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهۡدِي ٱلظَّـٰلِمِينَ} (124)

{ وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين } .

{ وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات } الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لبني إسرائيل والابتلاء الاختيار والامتحان أي ابتلاه بما أمره به وهو استعارة تبعية واقعة على طريق التمثيل ، أي فعل معه فعلا مثل فعل المختبر ، والغرض من هذا التذكير توبيخ أهل الملل المخالفين ، وذلك لأن إبراهيم يعترف بفضل جميع الطوائف قديما وحديثا ، فحكى الله عن إبراهيم أمورا توجب على المشركين واليهود والنصارى قبول قول محمد صلى الله عليه وسلم لأن ما أوجبه الله على إبراهيم جاء به محمد ، وفي ذلك حجة عليهم .

وإبراهيم اسم أعجمي معناه في السريانية أب رحيم كذا قال الماوردي ، قال ابن عطية : ومعناه في العربية ذلك ، قال السهيلي : وكثيرا ما يقع الاتفاق بين السرياني والعربي ، وفيه لغات ، وكذا مولد إبراهيم بالسوس من أرض الأهواز ، وقيل ببابل ، وقيل بكوثي ، وهي قرية من سواد الكوفة ، وقيل بحران ولكن أباه نقله إلى أرض بابل وهي أرض نمروذ الجبار .

وقد أورد صاحب الكشاف هنا سؤالا في رجوع الضمير إلى إبراهيم مع كون رتبته التأخير ، وأجاب عنه بأنه قد تقدم لفظا فرجع إليه ، والأمر في هذا أوضح من أن يشتغل بذكره أو ترد في مثله الأسئلة أو يسود وجه القرطاس بإيضاحه .

وقد اختلف العلماء في تعيين الكلمات فقيل هي شرائع الإسلام وقيل ذبح ابنه وقيل أداء الرسالة وقيل هي خصال الفطرة ، وقيل قوله { إني جاعلك للناس إماما } وقيل الطهارة ، قال الزجاج : وهذه الأقوال ليست بمتناقضة لأن هذا كله مما ابتلى به إبراهيم انتهى ، وظاهر النظم القرآني أن الكلمات هي قوله { إني جاعلك } وما بعده ويكون ذلك بيانا للكلمات ، وجاء عن بعض السلف ما يوافق ذلك وعن آخرين ما يخالفه ، والحق أنه إذا لم يصح شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا جاءنا من طريق تقوم بها الحجة في تعيين تلك الكلمات لم يبق لنا إلا أن نقول أنها ما ذكره الله سبحانه في كتابه قال : { إني جاعلك للناس إماما } ويكون ذلك بيانا للكلمات ، أو السكوت وإحالة العلم في ذلك على الله سبحانه .

وأما ما روي عن ابن عباس ونحوه من الصحابة ومن بعدهم في تعيينها فهو أولا أقوال الصحابة ولا تقوم بها الحجة فضلا عن أقوال من بعدهم ، وعلى تقدير أنه لا مجال للاجتهاد في ذلك وإن له حكم الرفع فقد اختلفوا في التعيين اختلافا يمنع معه العمل ببعض ما روي عنهم دون البعض الآخر ، بل اختلفت الروايات عن الواحد منهم كما روي عن ابن عباس فكيف يجوز العمل بذلك ، وبهذا تعرف ضعف قول من قال : أنه يصار إلى العموم ، ويقال تلك الكلمات هي جميع ما ذكر ههنا ، فإن هذا يستلزم تفسير كلام الله بالضعيف والمتناقض وما لا تقوم به الحجة ، وعلى هذا فيكون قوله { إني جاعلك } مستأنفا كأنه قيل ماذا قال له .

وقال ابن جرير : ما حاصله أنه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميع ذلك وجائز أن يكون بعض ذلك ، ولا يجوز الجزم بشيء منها أنه المراد على التعيين إلا بحديث أو إجماع ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له ، ثم قال : إن الذي قاله مجاهد وأبو صالح والربيع ابن أنس أولى بالصواب ، يعني أن الكلمات هي قوله { إني جاعلك للناس إماما } وقوله { وعهدنا إلى إبراهيم } وما بعده ، ورجح ابن كثير{[123]} أنها تشمل جميع ما ذكر وفيه بعد .

{ فأتمهن } أي قام بهن أتم قيام ، وامتثل أكمل امتثال ، واختلف هل كان هذا الابتلاء قبل النبوة أو بعدها فقيل بالأول بدليل السياق فإنه يدل على أن قيامه عليه السلام بهن كالسبب لأن يجعله الله إماما ، والسبب يتقدم على المسبب ، وقيل بالثاني لأن التكليف لا يعلم إلا من جهة الوحي الإلهي ، وذلك بعد النبوة ، وقيل إن فسر بما وجب عليه من شرائع الدين كان ذلك بعد النبوة .

{ قال إني جاعلك للناس } أي لأجلهم { إماما } يقتدي بدينك وهديك وسنتك ، والإمام هو الذي يؤتم به ، ومنه قيل للطريق إمام للبناء إمام لأنه يؤتم بذلك أي يهتدي به السالك ، والإمام لما كان هو القدوة للناس لكونهم يأتمون به ويهتدون بهديه أطلق عليه هذا اللفظ إذ لم يبعث بعده نبي إلا كان من ذريته مأمورا باتباعه في الجملة ، وإبراهيم يعترف بفضله جميع الطوائف قديما وحديثا ، فأما اليهود والنصارى فإنهم مقرون بفضله ويتشرفون بالنسبة إليه ، وأنهم من أولاده ، وأما العرب في الجاهلية فإنهم أيضا يعترفون بفضله ويتشرفون على غيرهم به لأنهم من أولاده ، ومن ساكني حرمه ، وخدام بيته ، ولما جاء الإسلام زاده الله شرفا وفضلا ، فحكى الله عن إبراهيم أمورا توجب على المشركين والنصارى واليهود قبول قول محمد صلى الله عليه وسلم والاعتراف بدينه والانقياد لشرعه ، لأن ما أوجبه الله على إبراهيم هو من خصائص دين محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي ذلك حجة على اليهود والنصارى ومشركي العرب في وجوب الانقياد لمحمد صلى الله عليه وسلم والإيمان به وتصديقه .

{ قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين } يحتمل أن يكون ذلك دعاء من إبراهيم أي واجعل من بعض ذريتي أئمة ، ويحتمل أن يكون هذا من إبراهيم لقصد الاستفهام وإن لم يكن بصيغته أي ومن ذريتي ماذا يكون يا رب ، فأخبره فيهم عصاة وظلمة ، وأنهم لا يصلحون لذلك ولا يقومون به ، ولا ينالهم عهد الله سبحانه ، وتخصيص البعض بذلك لبداهة استحالة إمامة الكل ، وإن كانوا على الحق ، وعن قتادة قال هذا عند الله يوم القيامة لا ينال عهده ظالما ، فأما في الدنيا فقد نالوا عهده فوارثوا به المسلمين وغادوهم وناكحوهم ، فلما كان يوم القيامة قصر الله عهده وكرامته على أوليائه ، وعن مجاهد قال لا أجعل إماما ظالما يقتدي به ، وعن ابن عباس قال يخبره أنه إن كان في ذريته ظالما لا ينال عهده ولا ينبغي له أن يوليه شيئا من أمره ، والنيل الإدراك وهو العطاء ، والذرية مأخوذة من الذر ، لأن الله أخرج الخلق من ظهر آدم عليه السلام حين أشهدهم على أنفسهم كالذر ، وقيل مأخوذ من ذرأ الله الخلق يذرؤهم إذا خلقهم ، وفي الكتاب العزيز { فأصبح هشيما تذروه الرياح } وقال الخليل : إنما سموا ذرية لأن الله تعالى ذرأها على الأرض كما ذرأ الزراع البذر ، قال ابن عباس : يؤخذ من هذا إباحة السعي في منافع الذرية والقرابة وسؤال من بيده ذلك .

واختلف في المراد بالعهد فقيل الإمامة وقيل النبوة عهد الله أمره وقيل الأمان من عذاب الآخرة ورجحه الزجاج ، والأول أظهر كما يفيده السياق .

وقد استدل بهذه الآية جماعة من أهل العلم على أن الإمام لا بد أن يكون من أهل العدل والعمل بالشرع كما ورد لأنه إذا زاغ عن ذلك كان ظالما ويمكن أن ينظر إلى ما يصدق عليه اسم العهد وما يفيده الإضافة من العموم فيشمل جميع ذلك اعتبارا بعموم اللفظ من غير نظر إلى السبب ولا إلى السياق ، فيستدل به على اشتراط السلامة من وصف الظلم في كل من تعلق بالأمور الدينية .

وقد اختار ابن جرير أن هذه الآية وإن كانت ظاهرة في الخبر أنه لا ينال عهد الله بالإمامة ظالما ففيها إعلام من الله لإبراهيم الخليل أنه سيوجد من ذريته من هو ظالم لنفسه ، انتهى ، ولا يخافك أنه لا جدوى لكلامه هذا فالأولى أن يقال أن هذا الخبر في معنى الأمر لعباده أن لا يولوا أمور الشرع ظالما ، وإنما قلنا أنه في معنى الأمر لأن إخباره تعالى لا يجوز أن يتخلف ، وقد علمنا أنه قد نال عهده من الإمامة وغيرها من الظالمين .


[123]:ابن كثير 1/166.