قوله تعالى : { دعواهم } ، أي : قولهم وكلامهم . وقيل : دعاؤهم . { فيها سبحانك اللهم } ، وهي كلمة تنزيه ، تنزه الله من كل سوء . وروينا : { أن أهل الجنة يلهمون الحمد والتسبيح ، كما يلهمون النفس } . قال أهل التفسير : هذه الكلمة علامة بين أهل الجنة والخدم في الطعام ، فإذا أرادوا الطعام قالوا : سبحانك اللهم ، فأتوهم في الوقت بما يشتهون على الموائد ، كل مائدة ميل في ميل ، على كل مائدة سبعون ألف صحفة ، وفي كل صحفة لون من الطعام لا يشبه بعضها بعضا ، فإذ فرغوا من الطعام حمدوا لله ، فذلك قوله تعالى :{ وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } .
قوله تعالى : { وتحيتهم فيها سلام } أي : يحي بعضهم بعضا بالسلام . وقيل : تحية الملائكة لهم بالسلام . وقيل : تأتيهم الملائكة من عند ربهم بالسلام . { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } ، يريد : يفتتحون كلامهم بالتسبيح ، ويختمونه بالتحميد .
{ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ } أي عبادتهم فيها لله ، أولها تسبيح لله وتنزيه له عن النقائض ، وآخرها تحميد لله ، فالتكاليف سقطت عنهم في دار الجزاء ، وإنما بقي لهم أكمل اللذات ، الذي هو ألذ عليهم من المآكل اللذيذة ، ألا وهو ذكر الله الذي تطمئن به القلوب ، وتفرح به الأرواح ، وهو لهم بمنزلة النَّفَس ، من دون كلفة ومشقة .
{ و } أما { تَحِيَّتُهُمْ } فيما بينهم عند التلاقي والتزاور ، فهو السلام ، أي : كلام سالم من اللغو والإثم ، موصوف بأنه { سَلَامٌ } وقد قيل في تفسير قوله { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ } إلى آخر الآية ، أن أهل الجنة -إذا احتاجوا إلى الطعام والشراب ونحوهما- قالوا سبحانك اللهم ، فأحضر لهم في الحال .
فإذا فرغوا قالوا : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
{ دعواهم فيها } أي دعاؤهم . { سبحانك اللهم } اللهم إنا نسبحك تسبيحا . { وتحيّتهم } ما يحيي به بعضهم بعضا ، أو تحية اللائكة إياهم . { فيها سلام وآخر دعواهم } وآخر دعائهم . { أن الحمد لله رب العالمين } أي أن يقولوا ذلك ، ولعل المعنى أنهم إذا دخلوا الجنة وعاينوا عظمة الله وكبرياءه مجدوه ونعتوه بنعوت الجلال ، ثم حياهم الملائكة بالسلامة عن الآفات والفوز بأصناف الكرامات أو الله تعال فحمدوه واثنوا عليه بصفات الإكرام ، و{ أن } هي المخففة من الثقيلة وقد قرئ بها وبنصب { الحمد } .
وقوله { دعواهم } الآية ، الدعوى بمعنى الدعاء يقال دعا الرجل وادعى بمعنى واحد ، قاله سيبويه ، { وسبحانك اللهم } تقديس وتسبيح وتنزيه لجلاله عن كل ما لا يليق به ، وقال علي بن أبي طالب في ذلك : هي كلمات رضيها الله تعالى لنفسه ، وقال طلحة بن عبيد الله : قلت يا رسول الله ، ما معنى سبحان الله ؟ فقال : معناها تنزيه الله من السوء ، وقد تقدم ذكر خلاف النحاة في { اللهم } ، وحكي عن بعض المفسرين أنهم رأوا أن هذه الكلمة إنما يقولها المؤمن في الجنة عندما يشتهي الطعام فإنه إذا رأى طائراً أو غير ذلك قال : { سبحانك اللهم } فنزلت تلك الإرادة بين يديه فوق ما اشتهى{[6031]} ، رواه ابن جريج وسفيان بن عيينة ، وقوله { وتحيتهم فيها سلام } يريد تسليم بعضهم على بعض ، و «التحية » مأخوذة من تمني الحياة للإنسان والدعاء بها ، يقال حياه يحييه ، ومنه قول زهير بن جناب : [ مجزوء الكامل ]
من كل ما نال الفتى*** قد نلته إلا التحية{[6032]}
يريد دعاء الناس للملوك بالحياة ، وقد سمي الملك تحية بهذا التدريج ومنه قول عمرو بن معديكرب :
أزور أبا قابوس حتى*** أنيخ على تحيته بجندي{[6033]}
أراد علي مملكته وقال بعض العلماء { وتحيتهم } يريد أن تسليم الله عز وجل عليهم ، و «السلام » مأخوذ من السلامة ، وقوله { وآخر دعواهم } يريد وخاتمة دعواهم في كل موطن وكلامهم شكر الله تعالى وحمده على سابغ نعمه ، وكانت بدأتهم بالتنزيه والتعظيم ، وقرأ جمهور الناس «أن الحمد لله » وهي عند سيبويه «أن » المخففة من الثقيلة ، وقرأ ابن محيصن وبلال بن أبي بردة ويعقوب وأبو حيوة «أنّ الحمد لله » ، وهي على الوجهين رفع على خبر الابتداء ، قال أبو الفتح : هذه القراءة تدل على أن قراءة الجماعة هي أن المخففة من الثقيلة بمنزلة الأعشى : [ البسيط ]
في فتية كسيوف الهند قد علموا*** أنْ هالك كلُّ من يحفى وينتعل{[6034]}
جملة : { دعواهم فيها سبحانك اللهم } وما عطف عليها أحوال من ضمير { الذين آمنوا } .
والدعوى : هنا الدعاء . يقال : دعوة بالهاء ، ودعوَى بألف التأنيث .
وسبحان : مصدر بمعنى التسبيح ، أي التنزيه .
وقد تقدم عند قوله تعالى : { قالوا سبحانك لا علم لنا } في سورة [ البقرة : 32 ] .
{ اللهم } نداء لله تعالى ، فيكون إطلاق الدعاء على هذا التسبيح من أجل أنه أريد به خطاب الله لإنشاء تنزيهه ، فالدعاء فيه بالمعنى اللغوي . ويجوز أن تكون تسمية هذا التسبيح دعاء من حيث إنه ثناء مسوق للتعرض إلى إفاضة الرحمات والنعيم ، كما قال أمية بن أبي الصلت :
إذَا أثنى عليك المرءُ يوماً *** كَفَاه عن تَعَرضِه الثناء
واعلم أن الاقتصار على كون دعواهم فيها كلمة { سبحانك اللهم } يشعر بأنهم لا دعوى لهم في الجنة غير ذلك القول ، لأن الاقتصار في مقام البيان يشعر بالقصر ، ( وإن لم يكن هو من طرق القصر لكنه يستفاد من المقام ) ولكن قوله : { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } يفيد أن هذا التحميد من دعواهم ، فتحصل من ذلك أن لهم دعوى وخاتمة دعوى .
ووجه ذكر هذا في عدد أحوالهم أنها تدل على أن ما هم فيه من النعيم هو غايات الراغبين بحيث إن أرادوا أن ينعَموا بمقام دعاء ربهم الذي هو مقام القرب لم يجدوا أنفسهم مشتاقين لشيء يسألونه فاعتاضوا عن السؤال بالثناء على ربهم فألهموا إلى التزام التسبيح لأنه أدل لفظ على التمجيد والتنزيه ، فهو جامع للعبارة عن الكمالات .
والتحية : اسم جنس لما يُفاتح به عند اللقاء من كلمات التكرمة . وأصلها مشتقة من مصدر حيَّاهُ إذا قال له عند اللقاء أحياك الله . ثم غلبت في كل لفظ يقال عند اللقاء ، كما غلب لفظ السلام ، فيشمل : نحو حيَّاك الله ، وعِم صباحاً ، وعِمْ مساء وصبّحك الله بخير ، وبتّ بخير . وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها } في سورة [ النساء : 86 ] .
ولهذا أخبر عن تحيتهم بأنها سلام ، أي لفظ سلام ، إخباراً عن الجنس بفرد من أفراده ، أي جعل الله لهم لفظ السلام تحية لهم .
والظاهر أن التحية بينهم هي كلمة ( سلام ) ، وأنها محكية هنا بلفظها دون لفظ السلام عليكم أو سلام عليكم ، لأنه لو أريد ذلك لقيل وتحيتهم فيها السلام بالتعريف ليتبادر من التعريف أنه السلام المعروف في الإسلام ، وهو كلمة السلام عليكم . وكذلك سلام الله عليهم بهذا اللفظ قال تعالى : { سلام قولاً من رب رحيم } [ يس : 58 ] وأما قوله : { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم } [ الرعد : 23 ، 24 ] فهو تلطف معهم بتحيتهم التي جاءهم بها الإسلام .
ونكتة حذف كلمة ( عليكم ) في سلام أهل الجنة بعضهم على بعض أن التحيّة بينهم مجرد إيناس وتكرمة فكانت أشبه بالخبر والشكر منها بالدعاء والتأمين كأنهم يغتبطون بالسلامة الكاملة التي هم فيها في الجنة فتنطلق ألسنتهم عند اللقاء معبرة عما في ضمائرهم ، بخلاف تحيّة أهل الدنيا فإنها تقع كثيراً بين المتلاقين الذين لا يعرِف بعضهم بعضاً فكانت فيها بقية من المعنى الذي أحدَث البشر لأجله السلامَ ، وهو معنى تأمين الملاقِي من الشر المتوقَّع من بين كثير من المتناكرين .