اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{دَعۡوَىٰهُمۡ فِيهَا سُبۡحَٰنَكَ ٱللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمۡ فِيهَا سَلَٰمٞۚ وَءَاخِرُ دَعۡوَىٰهُمۡ أَنِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (10)

قوله : " دَعْوَاهُمْ " مبتدأ ، و " سُبْحانَكَ " معمول لفعل مقدَّر لا يجوز إظهاره هو الخبر ، والخبرُ هنا هو نفسُ المبتدأ ، والمعنى : أن دعاؤهم هذا اللفظ ، ف " دَعْوَى " يجوزُ أن يكون بمعنى الدعاء ، ويدلُّ عليه " اللَّهُمَّ " ؛ لأنَّه نداء في معنى يا الله ، يقال : " دَعَا يَدْعُو دُعَاء ودَعْوَى " ، كما يقال : " شكى يَشْكُو شِكَايةً وشَكْوى " ، ويجوز أن يكون الدُّعاء هنا بمعنى العبادة ، نظيره قوله تعالى : { وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } [ مريم : 48 ] أي : وما تعبدون ، ف " دَعْوَى " : مصدرٌ مضاف للفاعل ، ثم إن شئتَ أن تجعل هذا من باب الإسناد اللفظي ، أي : دعاؤهُم في الجنَّة هذا اللفظُ بعينه ، فيكون نفسُ " سُبْحانَكَ " هو الخبر ، وجاء به مَحْكيّاً على نصبه بذلك الفعل ، وإن شئتَ جعلتهُ من باب الإسناد المعنوي ؛ فلا يلزمُ أن يقولوا هذا اللفظ فقط ، بل يقولونه وما يؤدِّي معناه من جَميع صفات التنزيه والتَّقديس ، وقد تقدَّم نظير هذا عند قوله تعالى : { وَقُولُواْ حِطَّةٌ } [ البقرة : 58 ] .

وقيل : المراد من الدَّعْوَى : نفس الدَّعوى التي تكون للخَصْمِ على خَصْمِه .

والمعنى : أنَّ أهل الجنَّة يدعون في الدُّنيا وفي الآخرة تنزيه الله عن كل المعايب ، والإقرار له بالإلهيَّة .

قال القفال : وأصل ذلك من الدُّعاء ، لأن الخصم يدعُو خصمهُ إلى من يحكم بينهما .

قال أبو مسلم : " دَعْوَاهُمْ " أي : فعلهم وإقرارهم ، ونداؤهُم هو قولهم " سُبْحَانَكَ اللهم " قال القاضي : " دَعْواهُمْ " أي : طريقتهم في تمجيد الله وتقديسه وشأنهم وسنَّتهم ؛ لأنَّ قوله " سُبْحَانَكَ اللهم " ليس بدعاءٍ ولا بدعوى ، إلاَّ أنَّ المُدَّعي للشيء يكون مواظباً على ذكره ، لا جرم جعل لفظ " الدَّعْوى " كناية عن تلك المواظبة والملازمة . فأهلُ الجنَّة لمَّا كانُوا مواظبين على هذا الذكر ، أطلق لفظ " الدَّعْوَى " عليهم ، وقال القفال : قيل في قوله : { وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ } [ يس : 57 ] أي : ما يتمنونهُ ، والعرب تقول : ادع ما شئت عليّ أي : تمنّ ما شِئْتَ .

وقال ابن جريج : أخبرت أن قوله { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهم } : هو أنَّه إذا مرَّ بهم طيرٌ يشتهونه ، قالوا : سبحانك اللَّهُمَّ ، فيأتيهم الملك بذلك المشتهى . قال ابن الخطيب : " وفيه وجه آخر : وهو أن يكون المعنى : أنَّ تمنيهم في الجنَّة أن يسبحوا الله - تعالى - ، أي : تمنيهم لما يتمنَّونهُ ، ليس إلاَّ في تسبيح الله ، وتقديسه ، وتنزيهه " .

قوله : " سُبْحَانَكَ اللهم " قال بعض المفسِّرين : إنَّ أهل الجنَّة جعلوا هذا الذِّكر علامة على طلب المشتهيات فيؤتَوْنَ بذلك المشتهى فإذا نالوا من شهرتهم ، قالوا : { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } ، وضعف ابن الخطيبِ هذا من وجوهٍ :

أحدها : أنَّ حاصل هذا الكلام يرجع إلى أنَّ أهل الجنَّة جعلوا هذا الذِّكر العالي المُقدَّس علامة على طلب المأكول والمنكوح ، وهذا في غاية الخساسة .

وثانيها : أنَّه - تعالى - قال في صفة أهل الجنة { وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ } [ النحل : 57 ] ، فإذا اشتهوا أكل ذلك الطَّيْر ، فلا حاجة بهم إلى الطَّلب ، فسقط هذا الكلام .

وثالثها : أنَّ هذا صرف للكلام عن ظاهره الشريف العالي ، إلى محل خسيس لا إشعار للفظ به . وإنما المرادُ : أنَّ اشتغالَ أهل الجنَّة بتقديس الله - سبحانه - ، وتحميده ، والثناء عليه ؛ لأنَّ سعادتهم ، وابتهاجهم ، وسرورهم بهذا الذِّكر .

قال القاضي{[18326]} : إنَّه - تعالى - لمَّا وعد المتَّقين بالثَّواب العظيم ، في قوله أوَّل السورة :

{ لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات بالقسط } [ يونس : 4 ] ، فإذا دخل أهلُ الجنَّة الجنَّة ، ووجدوا تلك النعم العظيمة ، عرفوا أن الله - تعالى - كان صادقاً في وعده إياهم بتلك النعم ، فعند هذا قالوا : " سُبْحَانَكَ اللهم " أي : سبحانك من الخلف في الوعد ، والكذب في القول .

قوله : " وَتَحِيَّتُهُمْ " مبتدأ ، و " سَلاَمٌ " خبره ، وهو كالذي قبله ، والمصدر هنا يحتمل أن يكون مضافاً لفاعله ، أي : تحيَّتهم التي يُحيُّون بها بعضهم سلامٌ .

ويحتمل أن يكون مضافاً لمفعوله ، أي : تحيَّتهُم التي تُحَيِّيهم بها الملائكةُ سلامٌ ؛ ويدلُّ له قوله : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 23 ، 24 ] ، و " فيهَا " في الموضعين متعلقٌ بالمصدر قبله . وقيل : يجوز أن يكون حالاً ممَّا بعده ، فيتعلَّق بمحذوفٍ ، وليس بذاك ، وقال بعضهم : يُحَيِّي بعضهم بعضاً ، ويكون كقوله - تعالى - : { وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } [ الأنبياء : 78 ] ، حيث أضافهُ ل " داود وسليمان " ، وهما الحاكمان ، وإلى المحكوم عليه ، وهذا مبنيٌّ على مسألة أخرى ، وهي أنَّه : هل يجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز أم لا ؟ .

فإن قلنا : نعم ، جاز ذلك ، لأنَّ إضافة المصدر لفاعله حقيقةٌ ، ولمفعوله مجاز ، ومنْ منعَ ذلك ، أجاب : بأنَّ أقلَّ الجمع اثنان ، فلذلك قال : " لِحُكْمِهِمْ " .

قوله : " وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ " مبتدأ ، و " أنْ " : هي المخففة من الثَّقيلة ، واسمها ضمير الأمر والشَّأن حذف ، والجملةُ الاسمية بعدها في محلِّ الرفع خبراً لها ؛ كقول الشَّاعر : [ البسيط ]

فِي فِتْيَةٍ كسُيُوفِ الهِنْدِ قَدْ علمُوا *** أنْ هالكٌ كُلٌّ منْ يَحْفَى وينْتَعِلُ{[18327]}

و " أن " واسمها وخبرها في محلِّ رفع خبراً للمبتدأ الأول ، وزعم الجرجانيُّ : أن " أنْ " هنا زائدةٌ ، والتقدير : وآخرُ دعواهم الحمدُ لله ، وهي دعوى لا دليل عليها ، مخالفةٌ لنص سيبويه والنحويِّين ، وزعم المبرِّد أيضاً : أنَّ " أنْ " المخففة يجُوز إعمالها مخففة ، كهي مشدَّدةً ، وقد تقدَّم ذلك .

وتخفيفُ " أنْ " ، ورفع " الحَمْدُ " هي قراءةُ العامة ، وقرأ عكرمة{[18328]} ، وأبو مجلز ، وأبو حيوة ، وقتادة ، ومجاهد ، وابن يعمر ، وبلال بن أبي بردة ، وابن محيصن ويعقوب بتشديدها ، ونصب " الحَمْد " على أنَّهُ اسمها ؛ وهذه تُؤيِّدُ أنَّها المخففةُ في قراءة العامَّة ، وتردُّ على الجُرجاني ، ومعنى الآية : أنَّ أهل الجنَّة يفتتحُون كلامهم بالتَّسبيحِ ، ويختمُونَهُ بالتَّحْميدِ .


[18326]:ينظر: تفسير الفخر الرازي 17/37.
[18327]:تقدم.
[18328]:ينظر: إتحاف 2/104-105، الكشاف 2/7331 المحرر الوجيز 3/108، البحر المحيط 5/132، الدر المصون 4/10.