قوله تعالى : { إن يدعون من دونه إلا إناثا } ، نزلت في أهل مكة ، أي : ما يعبدون ، كقوله تعالى : { وقال ربكم ادعوني } [ غافر :60 ] أي : اعبدوني ، بدليل قوله تعالى : { إن الذين يستكبرون عن عبادتي } [ غافر :60 ] .
قوله تعالى :{ من دونه } أي : من دون الله .
قوله تعالى : { إلا إناثا } . أراد بالإناث الأوثان ، لأنهم كانوا يسمونها باسم الإناث ، فيقولون : اللات ، والعزى ، ومناة ، وكانوا يقولون لصنم كل قبيلة : أنثى بني فلان ، فكان في كل واحدة منهن شيطان يتراءى للسدنة والكهنة ، ويكلمهم ، ولذلك قال : { وإن يدعون إلا شيطاناً مريدا } . هذا قول أكثر المفسرين يدل على صحة هذا التأويل ، وإن المراد بالإناث الأوثان : قراءة ابن عباس رضي الله عنه { إن يدعون من دونه إلا إناثا ) جمع الوثن ، فصير الواو همزة . وقال الحسن ، وقتادة : إلا إناثاً أي : مواتاً . لا روح فيه ، لأن أصنامهم كانت من الجمادات ، سماها إناثاً لأنه يخبر عن الموات ، كما يخبر عن الإناث ، ولأن الإناث أدون الجنسين ، كما أن الموات أرذل من الحيوان ، وقال الضحاك : أراد بالإناث الملائكة ، وكان بعضهم يعبدون الملائكة ويقولون : الملائكة إناث ، كما قال الله تعالى : { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً } [ الزخرف :19 ]
قوله تعالى : { وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً } أي : وما يعبدون إلا شيطاناً مريداً ، لأنهم إذا عبدوا الأصنام فقد أطاعوا الشيطان ، والمريد : المارد ، وهو المتمرد العاتي ، الخارج عن الطاعة ، وأراد : إبليس .
{ إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا ْ }
أي : ما يدعو هؤلاء المشركون من دون الله إلا إناثا ، أي : أوثانا وأصناما مسميات بأسماء الإناث ك " العزى " و " مناة " ونحوهما ، ومن المعلوم أن الاسم دال على المسمى . فإذا كانت أسماؤها أسماء مؤنثة ناقصة ، دل ذلك على نقص المسميات بتلك الأسماء ، وفقدها لصفات الكمال ، كما أخبر الله تعالى في غير موضع من كتابه ، أنها لا تخلق ولا ترزق ولا تدفع عن عابديها بل ولا عن نفسها ؛ نفعا ولا ضرا ولا تنصر أنفسها ممن يريدها بسوء ، وليس لها أسماع ولا أبصار ولا أفئدة ، فكيف يُعبد من هذا وصفه ويترك الإخلاص لمن له الأسماء الحسنى والصفات العليا والحمد والكمال ، والمجد والجلال ، والعز والجمال ، والرحمة والبر والإحسان ، والانفراد بالخلق والتدبير ، والحكمة العظيمة في الأمر والتقدير ؟ " هل هذا إلا من أقبح القبيح الدال على نقص صاحبه ، وبلوغه من الخسة والدناءة أدنى ما يتصوره متصور ، أو يصفه واصف ؟ "
ومع ذلك{[238]} فعبادتهم إنما صورتها فقط لهذه الأوثان الناقصة . وبالحقيقة ما عبدوا غير الشيطان الذي هو عدوهم الذي يريد إهلاكهم ويسعى في ذلك بكل ما يقدر عليه ، الذي هو في غاية البعد من الله ،
{ إن يدعون من دونه إلا إناثا } يعني اللات والعزى ومناة ونحوها ، كان لكل حي صنم يعبدونه ويسمونه أنثى بني فلان وذلك إما لتأنيث أسمائها كما قال : وما ذكر فإن يسمن فأنثى *** شديد الأزم ليس له ضروس
فإنه عنى القراد وهو ما كان صغيرا سمي قرادا فإذا كبر سمي حلمة ، أو لأنها كانت جمادات والجمادات تؤنث من حيث إنها ضاهت الإناث لا نفعا لها ، ولعله سبحانه وتعالى ذكرها بهذا الاسم تنبيها على أنهم يعبدون ما يسمونه إناثا لأنه ينفعل ولا يفعل ، ومن حق المعبود أن يكون فاعلا غير منفعل ليكون دليلا على تناهي جهلهم وفرط حماقتهم . وقيل المراد الملائكة لقولهم : الملائكة بنات الله ، سبحانه وتعالى ، وهو جمع أنثى كرباب وربى ، وقرئ " أنثى " على التوحيد وأننا على أنه جمع أنيث كخبث وخبيث ، ووثنا بالتخفيف ووثنا بالتثقيل وهو جمع وثن كأسد وأسد وأسد وأثنا أثنا بهما على قلب الواو لضمها همزة . { وإن يدعون } وإن يعبدون بعبادتها . { إلا شيطانا مريدا } لأنه الذي أمرهم بعبادتها وأغراهم عليها ، فكأن طاعته في ذلك عبادة له ، والمارد والمريد الذي لا يعلق بخير . وأصل التركيب للملابسة . ومنه { صرح ممرد } وغلام أمرد وشجرة مرداء للتي تناثر ورقها .
الضمير في { يدعون } عائد على من تقدم ذكره من الكفرة في قوله : { ومن يشاقق الرسول } [ النساء : 115 ] { إن } نافية بمعنى «ما » ويدعون عبارة مغنية موجزة في معنيي : يعبدون ويتخذون آلهة ، وقرأ أبو رجاء العطاردي «إن تدعون » بالتاء من فوق ، ورويت عن عاصم ، واختلف في معنى «الإناث » فقال أبو مالك والسدي وغيرهما : ذلك لأن العرب كانت تسمي أصنامها بأسماء مؤنثة ، فاللات والعزى ومناة ونائلة .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق : ويرد على هذا أنها كانت تسمي بأسماء مذكرة كثيرة ، وقال الضحاك وغيره : المراد ما كانت العرب تعتقده من تأنيث الملائكة وعبادتهم إياها ، فقيل لهم هذا على جهة إقامة الحجة من فاسد قولهم ، وقال ابن عباس والحسن وقتادة : المراد : الخشب والحجارة وهي مؤنثات لا تعقل ، فيخبر عنها كما يخبر عن المؤنث من الأشياء فيجيء قوله : { إلا إناثاً } عبارة عن الجمادات ، وقيل : إنما هذا لأن العرب كانت تسمي الصنم أنثى فتقول : أنثى بني فلان .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذا على اختلافه يقضي بتعييرهم بالتأنيث وأن التأنيث نقص وخساسة بالإضافة إلى التذكير ، وقيل معنى { إناثاً } أوثاناً ، وفي مصحف عائشة «إن يدعون من دونه إلا أوثاناً » وقرأ ابن عباس فيما روى عنه أبو صالح «إلا أنثاً » يريد وثناً ، فأبدل الهمزة واواً ، وهو جمع جمع على ما حكى بعض الناس ، كأنه جمع وثناً على وثان ، كجمل وجمال ، ثم جمع وثاناً على وثن كرهان ورهن وكمثال ومثل .
قال القاضي أبو محمد : وهذا خطأ ، لأن فعالاً في جمع فعل إنما هو للتكثير والجمع الذي هو للتكثير لا يجمع وإنما تجمع جموع التقليل ، والصواب أن تقول وثن جمع وثن دون واسطة ، كأسد وأسد ، قال أبو عمرو : وبهذا قرأ ابن عمر وسعيد بن المسيب ومسلم بن جندب وعطاء ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «إلا وَثنَاً » بفتح الواو والثاء على إفراد اسم الجنس وقرأ ابن عباس أيضاً «وُثُناً » بضم الواو والثاء وقرأت فرقة «إلا وثنَاً وقرأت فرقة » إلا أثناً «بسكون الثاء ، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم » إلا أنثاً «بتقديم النون وهو جمع أنيث كغدير وغدر ونحو ذلك ، وحكى الطبري : أنه جمع إناث كثمار وثمر ، وحكى هذه القراءة عن النبي صلى الله عليه وسلم أبو عمرو الداني ، قال : وقرأ بها ابن عباس وأبو حيوة والحسن . واختلف في المعنى ب » الشيطان «فقالت فرقة : هو الشيطان المقترن بكل صنم ، فكأنه موحد باللفظ جمع بالمعنى ، لأن الواحد يدل على الجنس ، وقال الجمهور : المراد إبليس وهذا هو الصواب ، لأن سائر المقالة به تليق ، و { مريداً } معناه عاتياً صليباً في غوايته ، وهو فعيل من مرد : إذا عتا وغلا في انحرافه وتجرد للشر والغواية .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.