قوله تعالى : { إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً }*{ لَّعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً }*{ وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً }*{ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً }*{ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً }{[9738]}
" إن " هُنَا مَعْنَاها : النَّفْي ؛ كقوله - تعالى - : { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } [ النساء : 159 ] " ويَدْعُون " : بمعنى : يَعْبُدُون ، نزلت في أهْل مَكَّة ، أي : يَعْبُدُون ، كقوله [ - تعالى - ]{[9739]} : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي } [ غافر : 60 ] فإنَّ مَنْ عَبَد شَيْئاً ، فإنَّه يدعوه عِنْد احْتِيَاجِهِ إليْه ، وقوله : " مِن دُونِهِ " أي : من دُونِ اللَّه .
قوله : " إلا إناثاً " : في هذه اللَّفْظَةِ تِسْعُ قراءاتٍ{[9740]} .
المشهُورةُ : وهي جَمْع أنْثى ، نحو : رباب جمعُ رُبَّى .
والثانية : وبها قَرَأ الحسن : " أنْثَى " بالإِفْرَاد ، والمرادُ به الجَمْع .
والثالثة : - وبها قَرَأ ابن عبَّاسٍ ، وأبو حَيْوَة ، وعَطَاء ، والحَسَن أيْضاً ، ومعاذ القَارِئ ، وأبو العَالِيَة ، وأبُو نُهَيْك - : " إلا أنُثاً " كرُسُل ، وفيها ثلاثةُ أوجه :
أحدها : - [ وبه ] قال ابن جَرِيرٍ - أنه جمعُ " إناث " ؛ كثِمار وثُمُر ، وإناثٌ جمع أنْثَى ، فهو جَمْع الجَمْع ، وهو شَاذٌّ عند النحويِّين .
والثاني : أنه جَمْع " أنيثٍ " كَقَلِيب وقُلُب ، وغَدِير وغُدُر ، والأنيثُ من الرِّجَال : المُخَنَّثُ الضَّعِيفُ ، ومنه " سَيْف أنِيثٌ ، ومئنَاث ، ومئنَاثَة " أي : غَيْر قَاطِعٍ قال صخر : [ الوافر ]
فَتُخْبِرهُ بأنَّ العَقْلَ عِنْدِي *** جُرَازٌ لا أفَلُّ وَلاَ أنِيثُ{[9741]}
والثَّالث : أنه مُفْرَدٌ أي : يكون من الصِّفات التي جاءت على فُعُل ، نحو : امرأة حُنُثٌ .
والرابعة : وبها قَرَأ سَعْدُ بن أبِي وقَّاصٍ ، وابْن عُمَر ، وأبو الجَوْزَاء - " وثنا " بفتحِ الواوِ والثَّاء على أنَّه مفردٌ يراد به الجَمْع .
والخامسة - وبها قَرَأ سعيد بن المُسَيب ، ومُسْلم بن جُنْدُب ، وابن عبَّاسٍ أيْضاً - " أثُنا " بضم الهمزة والثاء ، وفيها وجهان :
أظهرهما : أنه جَمْع وثَن ، نحو : " أسَد وأُسُد " ثم قَلَب الوَاوَ همزةً ؛ لضمِّها ضمّاً لازماً ، والأصْلُ : " وُثُن " ثم أُثُن .
والثاني : أن " وَثَناً " المُفْردَ جمع على " وِثانٍ " نحو : جَمَل وجمال ، وجَبَل وجِبال ، ثم جُمِع " وثان " على " وُثُن " نحو : حِمَار وحُمُر ، ثم قُلبت الواوُ همزةً لما تقدَّم ؛ فهو جمعُ الجَمْعِ . وقد رَدَّ ابن عَطِيَّة هذا الوجه بأنَّ فِعَالاً جمعُ كثرة ، وجُمُوعُ الكَثْرة لا تُجْمَع ثانياً ، إنما يُجْمَعُ من الجُمُوعِ ما كان من جُمُوعِ القِلَّة . وفيه مُنَاقَشَةٌ من حَيْثُ إنَّ الجَمْع لا يُجْمَع إلا شَاذّاً ، سواءً كان من جُمُوعِ القِلَّة ، أم من غيرها .
والسادسة - وبها قَرَأ أيُوب السَّختياني - : " وُثُناً " وهي أصْل القراءة التي قبلها .
والسَّابعة والثَّامنة : " أُثْنا ووُثْنا " بسُكُونِ الثَّاء مع الهَمْزَة والوَاوِ ، وهي تَخْفِيفُ فُعُل ؛ كسُقُف .
والتاسعة - وبها قرأ أبو السوار ، وكذا وُجِدَتْ في مُصْحَفِ عَائِشة - رضي الله عنها - : " إلا أوْثاناً " جَمْعَ " وَثَن " نَحْو : جَمَل وأجْمال ، وجَبَل وأجْبال .
وسُمِّيَتْ أصْنَامهم إناثاً ؛ لأنهم كانوا يُلْبسُونها أنواع الحُلِيِّ ، ويسمونها بأسْمَاءِ المُؤنثات ، نحو : اللاَّت ، والعُزَّى ، ومناةَ ، وقد ردَّ هذا بَعْضُهم بأنَّهم كانوا يُسَمُّون بأسْمَاء الذُّكُور ، نحو : هُبَل ، وذِي الخَلَصَة ، وفيه نظر ؛ لأن الغَالِب تَسميتُهُم بأسماء الإناثِ ، و " مُرِيداً " : فَعِيل من " مَرَدَ " أي : تَجرَّد للشَّرِّ ، ومنه " شَجَرَة مَرْداء " أي : تناثر وَرَقُها ، ومنه : الأمْرَدُ ؛ لتجرُّدِ وَجْهِه من الشَّعْر ، والصَّرْحُ الممرَّد : الذي لا يَعْلُوه غُبَارٌ من ذَلِك فاللاَّت : تَأنيث{[9742]} اللَّه والعُزَّى : تأنيث العَزِيز .
قال الحَسَن : لَمْ يكن حَيٌّ من أحْيَاء العَرَب إلا وَلَهُم صَنَمٌ يعبُدُونه ، ويسمى أنْثَى بَنِي فُلان{[9743]} ، ويدُلُّ عليه قِرَاءة عَائِشَة .
وقال الضَّحَّاك : كان{[9744]} بعضهم يَعْبُد الملائِكَة ، وكانوا يقُولُون : المَلاَئكة بَنَاتُ اللَّه{[9745]} ، قال - تعالى - : { الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلاَئِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنثَى } [ النجم : 27 ] .
وقال الحسن : قوله " إلاَّ إناثاً " أي : إلا مَوْتاً{[9746]} ، وفي تسمية الأمْوَات إنَاثاً وجهان :
الأوَّل : إن الإخْبَار عن الموات يكُون على صِيغَة الإخْبَارِ عن الأنْثَى ، تقُول : هذه الأحْجَار تُعْجِبُنِي ، كما تقُول : هذه المَرْأة تُعْجِبُني .
الثَّاني : الأنْثَى أخسّ{[9747]} من الذَّكر ، والمَيِّت أخسُّ من الحَيِّ ، فلهذهِ المُنَاسَبة أطْلَقُوا اسمْ الأنْثَى على الجَمَادَات المَوَاتِ ، والمَقْصُود هل إنسان أجهل ممن أشرك .
قوله : { وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً } فعيلٌ من مَرَدَ إذا عَتَا ، ومنه : شَجَرةٌ مَرْدَاء ، أي : تَنَاثَر وَرَقُها ، ومنه : الأمْرَد ؛ لتجرّد وجهه من الشَّعْر ، والصَّرْحُ الممرَّدُ : الذي لا يَعْلُوه غُبَار ، وقرأ{[9748]} أبو رَجَاء ويُرْوى عن عاصِمٍ " تَدْعُونَ " بالخِطَاب .
قال المفُسِّرونُ{[9749]} : كان [ في ]{[9750]} كُلُّ واحدٍ من تِلْك الأوثَان{[9751]} شَيْطَان يَتراءَى للسَّدَنَة والكَهَنَة يُكَلِّمُهُم .
وقل الزَّجَّاج{[9752]} : المُرادُ بالشَّيْطَان هَاهُنَا : إبْلِيس ؛ لقوله - تعالى - : بعد ذلك : { لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً } .
وهذا قول إبْلِيس ، ولا يَبْعُد أنّ الذي يتراءى{[9753]} للسَّدنة ، هو إبْلِيس .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.