اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِن يَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦٓ إِلَّآ إِنَٰثٗا وَإِن يَدۡعُونَ إِلَّا شَيۡطَٰنٗا مَّرِيدٗا} (117)

قوله تعالى : { إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً }*{ لَّعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً }*{ وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً }*{ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً }*{ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً }{[9738]}

" إن " هُنَا مَعْنَاها : النَّفْي ؛ كقوله - تعالى - : { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } [ النساء : 159 ] " ويَدْعُون " : بمعنى : يَعْبُدُون ، نزلت في أهْل مَكَّة ، أي : يَعْبُدُون ، كقوله [ - تعالى - ]{[9739]} : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي } [ غافر : 60 ] فإنَّ مَنْ عَبَد شَيْئاً ، فإنَّه يدعوه عِنْد احْتِيَاجِهِ إليْه ، وقوله : " مِن دُونِهِ " أي : من دُونِ اللَّه .

قوله : " إلا إناثاً " : في هذه اللَّفْظَةِ تِسْعُ قراءاتٍ{[9740]} .

المشهُورةُ : وهي جَمْع أنْثى ، نحو : رباب جمعُ رُبَّى .

والثانية : وبها قَرَأ الحسن : " أنْثَى " بالإِفْرَاد ، والمرادُ به الجَمْع .

والثالثة : - وبها قَرَأ ابن عبَّاسٍ ، وأبو حَيْوَة ، وعَطَاء ، والحَسَن أيْضاً ، ومعاذ القَارِئ ، وأبو العَالِيَة ، وأبُو نُهَيْك - : " إلا أنُثاً " كرُسُل ، وفيها ثلاثةُ أوجه :

أحدها : - [ وبه ] قال ابن جَرِيرٍ - أنه جمعُ " إناث " ؛ كثِمار وثُمُر ، وإناثٌ جمع أنْثَى ، فهو جَمْع الجَمْع ، وهو شَاذٌّ عند النحويِّين .

والثاني : أنه جَمْع " أنيثٍ " كَقَلِيب وقُلُب ، وغَدِير وغُدُر ، والأنيثُ من الرِّجَال : المُخَنَّثُ الضَّعِيفُ ، ومنه " سَيْف أنِيثٌ ، ومئنَاث ، ومئنَاثَة " أي : غَيْر قَاطِعٍ قال صخر : [ الوافر ]

فَتُخْبِرهُ بأنَّ العَقْلَ عِنْدِي *** جُرَازٌ لا أفَلُّ وَلاَ أنِيثُ{[9741]}

والثَّالث : أنه مُفْرَدٌ أي : يكون من الصِّفات التي جاءت على فُعُل ، نحو : امرأة حُنُثٌ .

والرابعة : وبها قَرَأ سَعْدُ بن أبِي وقَّاصٍ ، وابْن عُمَر ، وأبو الجَوْزَاء - " وثنا " بفتحِ الواوِ والثَّاء على أنَّه مفردٌ يراد به الجَمْع .

والخامسة - وبها قَرَأ سعيد بن المُسَيب ، ومُسْلم بن جُنْدُب ، وابن عبَّاسٍ أيْضاً - " أثُنا " بضم الهمزة والثاء ، وفيها وجهان :

أظهرهما : أنه جَمْع وثَن ، نحو : " أسَد وأُسُد " ثم قَلَب الوَاوَ همزةً ؛ لضمِّها ضمّاً لازماً ، والأصْلُ : " وُثُن " ثم أُثُن .

والثاني : أن " وَثَناً " المُفْردَ جمع على " وِثانٍ " نحو : جَمَل وجمال ، وجَبَل وجِبال ، ثم جُمِع " وثان " على " وُثُن " نحو : حِمَار وحُمُر ، ثم قُلبت الواوُ همزةً لما تقدَّم ؛ فهو جمعُ الجَمْعِ . وقد رَدَّ ابن عَطِيَّة هذا الوجه بأنَّ فِعَالاً جمعُ كثرة ، وجُمُوعُ الكَثْرة لا تُجْمَع ثانياً ، إنما يُجْمَعُ من الجُمُوعِ ما كان من جُمُوعِ القِلَّة . وفيه مُنَاقَشَةٌ من حَيْثُ إنَّ الجَمْع لا يُجْمَع إلا شَاذّاً ، سواءً كان من جُمُوعِ القِلَّة ، أم من غيرها .

والسادسة - وبها قَرَأ أيُوب السَّختياني - : " وُثُناً " وهي أصْل القراءة التي قبلها .

والسَّابعة والثَّامنة : " أُثْنا ووُثْنا " بسُكُونِ الثَّاء مع الهَمْزَة والوَاوِ ، وهي تَخْفِيفُ فُعُل ؛ كسُقُف .

والتاسعة - وبها قرأ أبو السوار ، وكذا وُجِدَتْ في مُصْحَفِ عَائِشة - رضي الله عنها - : " إلا أوْثاناً " جَمْعَ " وَثَن " نَحْو : جَمَل وأجْمال ، وجَبَل وأجْبال .

فصل

وسُمِّيَتْ أصْنَامهم إناثاً ؛ لأنهم كانوا يُلْبسُونها أنواع الحُلِيِّ ، ويسمونها بأسْمَاءِ المُؤنثات ، نحو : اللاَّت ، والعُزَّى ، ومناةَ ، وقد ردَّ هذا بَعْضُهم بأنَّهم كانوا يُسَمُّون بأسْمَاء الذُّكُور ، نحو : هُبَل ، وذِي الخَلَصَة ، وفيه نظر ؛ لأن الغَالِب تَسميتُهُم بأسماء الإناثِ ، و " مُرِيداً " : فَعِيل من " مَرَدَ " أي : تَجرَّد للشَّرِّ ، ومنه " شَجَرَة مَرْداء " أي : تناثر وَرَقُها ، ومنه : الأمْرَدُ ؛ لتجرُّدِ وَجْهِه من الشَّعْر ، والصَّرْحُ الممرَّد : الذي لا يَعْلُوه غُبَارٌ من ذَلِك فاللاَّت : تَأنيث{[9742]} اللَّه والعُزَّى : تأنيث العَزِيز .

قال الحَسَن : لَمْ يكن حَيٌّ من أحْيَاء العَرَب إلا وَلَهُم صَنَمٌ يعبُدُونه ، ويسمى أنْثَى بَنِي فُلان{[9743]} ، ويدُلُّ عليه قِرَاءة عَائِشَة .

وقال الضَّحَّاك : كان{[9744]} بعضهم يَعْبُد الملائِكَة ، وكانوا يقُولُون : المَلاَئكة بَنَاتُ اللَّه{[9745]} ، قال - تعالى - : { الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلاَئِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنثَى } [ النجم : 27 ] .

وقال الحسن : قوله " إلاَّ إناثاً " أي : إلا مَوْتاً{[9746]} ، وفي تسمية الأمْوَات إنَاثاً وجهان :

الأوَّل : إن الإخْبَار عن الموات يكُون على صِيغَة الإخْبَارِ عن الأنْثَى ، تقُول : هذه الأحْجَار تُعْجِبُنِي ، كما تقُول : هذه المَرْأة تُعْجِبُني .

الثَّاني : الأنْثَى أخسّ{[9747]} من الذَّكر ، والمَيِّت أخسُّ من الحَيِّ ، فلهذهِ المُنَاسَبة أطْلَقُوا اسمْ الأنْثَى على الجَمَادَات المَوَاتِ ، والمَقْصُود هل إنسان أجهل ممن أشرك .

قوله : { وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً } فعيلٌ من مَرَدَ إذا عَتَا ، ومنه : شَجَرةٌ مَرْدَاء ، أي : تَنَاثَر وَرَقُها ، ومنه : الأمْرَد ؛ لتجرّد وجهه من الشَّعْر ، والصَّرْحُ الممرَّدُ : الذي لا يَعْلُوه غُبَار ، وقرأ{[9748]} أبو رَجَاء ويُرْوى عن عاصِمٍ " تَدْعُونَ " بالخِطَاب .

فصل

قال المفُسِّرونُ{[9749]} : كان [ في ]{[9750]} كُلُّ واحدٍ من تِلْك الأوثَان{[9751]} شَيْطَان يَتراءَى للسَّدَنَة والكَهَنَة يُكَلِّمُهُم .

وقل الزَّجَّاج{[9752]} : المُرادُ بالشَّيْطَان هَاهُنَا : إبْلِيس ؛ لقوله - تعالى - : بعد ذلك : { لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً } .

وهذا قول إبْلِيس ، ولا يَبْعُد أنّ الذي يتراءى{[9753]} للسَّدنة ، هو إبْلِيس .


[9738]:سقط في ب.
[9739]:سقط في أ.
[9740]:ينظر في هذه القراءات: المحور الوجيز 2/113، والبحر المحيط 3/367-368، والدر المصون 2/426-427، وإتحاف 1/520.
[9741]:ينظر البيت في البحر المحيط 3/368 واللسان (أنث) والدر المصون 2/427.
[9742]:في ب: الإله.
[9743]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (9/209) عن الحسن وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/394) وزاد نسبته لسعيد بن منصور وابن المنذر.
[9744]:في أ: إن.
[9745]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/394) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك.
[9746]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (9/208) عن ابن عباس وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/304) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم وأخرجه الطبري أيضا (9/208) عن الحسن بمعناه.
[9747]:في ب: أخص.
[9748]:ينظر: المحور الوجيز 2/113، والبحر المحيط 3/367.
[9749]:ينظر: تفسير الرازي 11/37.
[9750]:سقط في أ.
[9751]:في ب: الإناث.
[9752]:ينظر: تفسير الرازي 11/37.
[9753]:في ب: يتزايا.