قوله تعالى : { فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً } وهم قوم لوط ، والحاصب : الريح التي تحمل الحصب وهي الحصا الصغار ، { ومنهم من أخذته الصيحة } يعني ثمود ، { ومنهم من خسفنا به الأرض } يعني قارون وأصحابه ، { ومنهم من أغرقنا } يعني : قوم نوح ، وفرعون وقومه . { وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون* }
{ فَكُلا } من هؤلاء الأمم المكذبة { أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ } على قدره ، وبعقوبة مناسبة له ، { فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا } أي : عذابا يحصبهم ، كقوم عاد ، حين أرسل اللّه عليهم الريح العقيم ، و { سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ }
{ وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ } كقوم صالح ، { وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ } كقارون ، { وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا } كفرعون وهامان وجنودهما .
{ وَمَا كَانَ اللَّهُ } أي : ما ينبغي ولا يليق به تعالى أن يظلمهم لكمال عدله ، وغناه التام عن جميع الخلق . { وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } منعوها حقها التي هي بصدده ، فإنها مخلوقة لعبادة اللّه وحده ، فهؤلاء وضعوها في غير موضعها ، وأشغلوها بالشهوات والمعاصي ، فضروها غاية الضرر ، من حيث ظنوا أنهم ينفعونها .
{ فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ } أي : كانت عقوبته بما يناسبه ، { فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا } ، وهم عاد ، وذلك أنهم قالوا : مَنْ أشدُّ منا قوة ؟ فجاءتهم ريح صرصر باردة شديدة البرد ، عاتية شديدة الهبوب جدا ، تحمل عليهم حصباء الأرض فتقلبها عليهم ، وتقتلعهم من الأرض فترفع الرجل منهم إلى عَنَان السماء ، ثم تنكسه على أم رأسه فتشدخه فيبقى بدنًا بلا رأس ، كأنهم أعجاز نخل منقعر{[22584]} . { وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ } ، وهم ثمود ، قامت عليهم الحجة وظهرت لهم{[22585]} الدلالة ، من تلك الناقة التي انفلقت عنها الصخرة ، مثل ما سألوا سواء بسواء ، ومع هذا ما آمنوا بل استمروا على طغيانهم وكفرهم ، وتهددوا نبي الله صالحا ومَنْ آمن معه ، وتوعَّدوهُم بأن يخرجوهم ويرجموهم ، فجاءتهم صيحة أخمدت الأصوات منهم والحركات . { وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرْضَ } ، وهو قارون الذي طغى وبغى وعتا ، وعصى الرب الأعلى ، ومشى في الأرض مرحًا ، وفرح ومرح وتاه بنفسه ، واعتقد أنه أفضل من غيره ، واختال في مشيته ، فخسف الله به وبداره الأرض ، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة . { وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا } ، وهم{[22586]} فرعون ووزيره هامان ، وجنوده عن آخرهم ، أغرقوا في صبيحة واحدة ، فلم ينج منهم مخبر ، { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ } أي : فيما فعل بهم ، { وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } أي : إنما فعل ذلك بهم جزاء وفاقا بما كسبت أيديهم .
وهذا الذي ذكرناه ظاهر سياق الآية ، وهو من باب اللف والنشر ، وهو أنه ذكر الأمم المكذبة ، ثم قال : { فَكُلا{[22587]} أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ } [ الآية ]{[22588]} ، أي : من هؤلاء المذكورين ، وإنما نبهتُ على هذا لأنه قد روي أن ابن جريج قال : قال{[22589]} ابن عباس في قوله : { فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا } ، قال : قوم لوط . { وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا } ، قال : قوم نوح .
وهذا{[22590]} منقطع عن ابن عباس ؛ فإن ابن جُرْيَج لم يدركه . ثم قد ذكر في هذه السورة إهلاك قوم نوح بالطوفان ، وقوم لوط بإنزال الرجز من السماء ، وطال السياقُ والفصلُ بين ذلك وبين هذا السياق .
وقال قتادة : { فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا } قال : قوم لوط ، { وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ } ، قوم شعيب . وهذا بعيد أيضا لما تقدم ، والله أعلم .
والذين أرسل عليهم الحاصب قال ابن عباس : هم قوم لوط .
قال الفقيه الإمام القاضي : ويشبه أن يدخل قوم عاد في «الحاصب » لأن تلك الريح لا بد أنها كانت تحصبهم بأمور مؤذية ، و «الحاصب » هو العارض من ريح أو سحاب إذا رمى بشيء ومنه قول الفرزدق :
مستقبلين شمال الشام تضربنا *** بحاصب كنديف القطن منثور{[1]}
ترمي العضاة بحاصب من ثلجها . . . حتى يبيت على العضاة جفالا{[2]}
مستقبلين شمال الشام تضربهم . . . بحاصب كنديف القطن منثور
والذين أخذتهم { الصيحة } قوم ثمود ، قاله ابن عباس وقال قتادة : هم قوم شعيب ، و «الخسف » كان بقارون ، قاله ابن عباس .
قال الفقيه الإمام القاضي : ويشبه أن يكون أصحاب الرجفة في هذا النوع من العذاب ، والغرق كان في قوم نوح ، وبه فسر ابن عباس وفي فرعون وحزبه ، وبه فسر قتادة ، وظلمهم أنفسهم كان بالكفر ووضع العبادة في غير موضعها وقدم المفعول على { يظلمون } للاهتمام وهذا نحو { إياك نعبد }{[3]} [ الفاتحة : 5 ] وغيره ، وحكى الطبري عن قتادة أن رجفة قوم شعيب كان صيحة أرجفتهم على هذا مع ثمود .
أفادت الفاء التفريع على الكلام السابق لما اشتمل عليه من أن الشيطان زين لهم أعمالهم ومن استكبار الآخرين ، أي فكان من عاقبة ذلك أن أخذهم الله بذنوبهم العظيمة الناشئة عن تزيين الشيطان لهم أعمالهم وعن استكبارهم في الأرض ، وليس المفرّع هو أخذ الله إياهم بذنوبهم لأن ذلك قد أشعر به ما قبل التفريع ، ولكنه ذكر ليفضى بذكره إلى تفصيل أنواع أخذهم وهو قوله { فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً } إلى آخره ، فالفاء في قوله { فمنهم من أرسلنا عليه } الخ لتفريع ذلك التفصيل على الإجمال الذي تقدمه فتحصل خصوصية الإجمال ثم التفصيل ، وللدلالة على عظيم تصرف الله .
فأما الذين أرسل عليهم حاصب فهم عاد . والحاصب : الريح الشديدة ، سميت حاصباً لأنها تقلع الحصباء من الأرض . قال أبو وجرة السعدي :
صببتُ عليكم حاصبي فتركتكم *** كأصرام عادٍ حين جلّلها الرَّمْدُ
فجعل الحاصب مما أصاب عاداً . وليس المراد بهم قوم لوط كالذي في قوله تعالى { إنا أرسلنا عليهم حاصباً إلا ءال لوط } [ القمر : 34 ] لأن قوم لوط مر آنفاً الكلام على عذابهم مفصلاً فلا يدخلون في هذا الإجمال .
والذين أخذتهم الصيحة هم ثمود . والذين خسفت بهم الأرض هو قارون وأهله . وقد تقدم ذكر الخسف في سورة القصص ( 81 ، 82 . ) والذين أغرقهم : فرعون وهامان ومن معهما من قومهما . وقد جاء هذا على طريقة النشر على ترتيب اللف .
والأخذ : الإتلاف والإهلاك ؛ شبه الإعدام بالأخذ بجامع إزالة الشيء من مكانه فاستعير له فعل { أخذنا } . وقد نُفي عن الله تعالى ظلم هؤلاء لأن إيلامهم كان جزاء على أعمالهم وكل ما كان من نوع الجزاء يوصف بالعدل وقد نفى الله عن نفسه الوصف بالظلم فوجب الإيمان به سمعاً لا عقلاً في مقام الجزاء ، وأما في مقام التكوين فلا . وظلمهم أنفسهم هو تسببهم في عذاب أنفسهم فجرُّوا إليها العقاب لأن النفس أولى الأشياء برأفة صاحبها بها وتفكيره في أسباب خيرها .
والاستدراك ناشىء عن نفي الظلم عن الله في عقابهم لأنه يتوهم منه انتفاء موجب العقاب فالاستدراك لرفع هذا التوهم .