الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{فَكُلًّا أَخَذۡنَا بِذَنۢبِهِۦۖ فَمِنۡهُم مَّنۡ أَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِ حَاصِبٗا وَمِنۡهُم مَّنۡ أَخَذَتۡهُ ٱلصَّيۡحَةُ وَمِنۡهُم مَّنۡ خَسَفۡنَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ وَمِنۡهُم مَّنۡ أَغۡرَقۡنَاۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظۡلِمَهُمۡ وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ} (40)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا}، يعني من الحجارة، وهم قوم لوط، {ومنهم من أخذته الصيحة}، يعني صيحة جبريل عليه السلام، وهم قوم صالح، وقوم شعيب، وقوم هود {ومنهم من خسفنا به الأرض}، يعني قارون وأصحابه، {ومنهم من أغرقنا} يعني قوم نوح، وقوم فرعون. {وما كان الله ليظلمهم}، فيعذبهم على غير ذنب، {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} يخوف كفار مكة بمثل عذاب الأمم الخالية؛ لئلا يكذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: فأخذنا جميع هذه الأمم التي ذكرناها لك يا محمد بعذابنا "فَمِنْهُمْ مَنْ أرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِبا "وهم قوم لُوط، الذين أمطر الله عليهم حجارة من سجِيل مَنضُود، والعرب تسمي الريح العاصف التي فيها الحصى الصغار أو الثلج أو البَرَد والجليد حاصبا...

" وَمِنْهُمْ مَنْ أخَذَتْهُ الصّيْحَةُ". اختلف أهل التأويل في الذين عُنوا بذلك؛ فقال بعضهم: هم ثمود قوم صالح...

وقال آخرون: بل هم قوم شعيب...

والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله قد أخبر عن ثمود وقوم شعيب من أهل مدين أنه أهلكهم بالصيحة في كتابه في غير هذا الموضع، ثم قال جلّ ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم: فمن الأمم التي أهلكناهم من أرسلنا عليهم حاصبا، ومنهم مَنْ أخذته الصيحة، فلم يخصُصِ الخبر بذلك عن بعض مَنْ أخذته الصيحة من الأمم دون بعض، وكلا الأمتين أعني ثمود ومَدين قد أخذتهم الصّيحة.

وقوله: "وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الأرْضَ": يعني بذلك قارون...

"وَمِنْهُمْ مَنْ أغْرَقْنا" يعني: قوم نوح وفرعون وقومه... وقال آخرون: بل هم قوم فرعون...

والصواب من القول في ذلك، أن يُقال: عُني به قوم نوح وفرعونُ وقومه، لأن الله لم يخصص بذلك إحدى الأمتين دون الأخرى، وقد كان أهلكهما قبل نزول هذا الخبر عنهما، فهما مَعْنيتان به.

وقوله: "وَما كانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كانُوا أنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ" يقول تعالى ذكره: ولم يكن الله ليهلك هؤلاء الأمم الذين أهلكهم بذنوب غيرهم، فيظلمَهم بإهلاكه إياهم بغير استحقاق، بل إنما أهلكهم بذنوبهم، وكفرهم بربهم، وجحودهم نعمه عليهم، مع تتابع إحسانه عليهم، وكثرة أياديه عندهم، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون بتصرّفهم في نعم ربهم، وتقلبهم في آلائه وعبادتهم غيره، ومعصيتهم من أنعم عليهم.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

ذكر الله أربعة أشياء: العذاب بالحاصب، وقيل إنه كان بحجارة محماة يقع على واحد منهم وينفذ من الجانب الآخر، وفيه إشارة إلى النار.

والعذاب بالصيحة وهو هواء متموج، فإن الصوت قيل سببه تموج الهواء ووصوله إلى الغشاء الذي على منفذ الأذن وهو الصماخ فيقرعه فيحس. والعذاب بالخسف، وهو الغمر في التراب.

والعذاب بالإغراق وهو بالماء.

فحصل العذاب بالعناصر الأربعة والإنسان مركب منها وبها قوامه وبسببها بقاؤه ودوامه، فإذا أراد الله هلاك الإنسان جعل ما منه وجوده سببا لعدمه، وما به بقاؤه سببا لفنائه.

ثم قال تعالى: {وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} يعني لم يظلمهم بالهلاك، وإنما هم ظلموا أنفسهم بالإشراك وفيه وجه آخر ألطف وهو أن الله ما كان يظلمهم أي ما كان يضعهم في غير موضعهم فإن موضعهم الكرامة كما قال تعالى: {ولقد كرمنا بنى آدم} لكنهم ظلموا أنفسهم حيث وضعوها مع شرفهم في عبادة الوثن مع خسته.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

{فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} أي: كانت عقوبته بما يناسبه، {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا}، وهم عاد، وذلك أنهم قالوا: مَنْ أشدُّ منا قوة؟ فجاءتهم ريح صرصر باردة شديدة البرد، عاتية شديدة الهبوب جدا، تحمل عليهم حصباء الأرض فتقلبها عليهم، وتقتلعهم من الأرض فترفع الرجل منهم إلى عَنَان السماء، ثم تنكسه على أم رأسه فتشدخه فيبقى بدنًا بلا رأس، كأنهم أعجاز نخل منقعر. {وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ}، وهم ثمود، قامت عليهم الحجة وظهرت لهم الدلالة، من تلك الناقة التي انفلقت عنها الصخرة، مثل ما سألوا سواء بسواء، ومع هذا ما آمنوا بل استمروا على طغيانهم وكفرهم، وتهددوا نبي الله صالحا ومَنْ آمن معه، وتوعَّدوهُم بأن يخرجوهم ويرجموهم، فجاءتهم صيحة أخمدت الأصوات منهم والحركات.

{وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرْضَ}، وهو قارون الذي طغى وبغى وعتا، وعصى الرب الأعلى، ومشى في الأرض مرحًا، وفرح ومرح وتاه بنفسه، واعتقد أنه أفضل من غيره، واختال في مشيته، فخسف الله به وبداره الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.

{وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا}، وهم فرعون ووزيره هامان، وجنوده عن آخرهم، أغرقوا في صبيحة واحدة، فلم ينج منهم مخبر...

ثم قال: {فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [الآية]، أي: من هؤلاء المذكورين، وإنما نبهتُ على هذا لأنه قد روي أن ابن جريج قال: قال ابن عباس في قوله: {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا}، قال: قوم لوط. {وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا}، قال: قوم نوح. وهذا منقطع عن ابن عباس؛ فإن ابن جُرْيَج لم يدركه. ثم قد ذكر في هذه السورة إهلاك قوم نوح بالطوفان، وقوم لوط بإنزال الرجز من السماء، وطال السياقُ والفصلُ بين ذلك وبين هذا السياق. وقال قتادة: {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا} قال: قوم لوط، {وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ}، قوم شعيب. وهذا بعيد أيضا لما تقدم، والله أعلم.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

أفادت الفاء التفريع على الكلام السابق لما اشتمل عليه من أن الشيطان زين لهم أعمالهم ومن استكبار الآخرين، أي فكان من عاقبة ذلك أن أخذهم الله بذنوبهم العظيمة الناشئة عن تزيين الشيطان لهم أعمالهم وعن استكبارهم في الأرض، وليس المفرّع هو أخذ الله إياهم بذنوبهم، لأن ذلك قد أشعر به ما قبل التفريع، ولكنه ذكر ليفضى بذكره إلى تفصيل أنواع أخذهم وهو قوله {فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً} إلى آخره، فالفاء في قوله {فمنهم من أرسلنا عليه} الخ لتفريع ذلك التفصيل على الإجمال الذي تقدمه فتحصل خصوصية الإجمال ثم التفصيل، وللدلالة على عظيم تصرف الله...

فجعل الحاصب مما أصاب عاداً. وليس المراد بهم قوم لوط كالذي في قوله تعالى {إنا أرسلنا عليهم حاصباً إلا ءال لوط} [القمر: 34] لأن قوم لوط مر آنفاً الكلام على عذابهم مفصلاً فلا يدخلون في هذا الإجمال...

والذين أخذتهم الصيحة هم ثمود. والذين خسفت بهم الأرض هو قارون وأهله، والذين أغرقهم: فرعون وهامان ومن معهما من قومهما. وقد جاء هذا على طريقة النشر على ترتيب اللف...

والأخذ: الإتلاف والإهلاك؛ شبه الإعدام بالأخذ بجامع إزالة الشيء من مكانه فاستعير له فعل {أخذنا}...

وقد نُفي عن الله تعالى ظلم هؤلاء لأن إيلامهم كان جزاء على أعمالهم وكل ما كان من نوع الجزاء يوصف بالعدل وقد نفى الله عن نفسه الوصف بالظلم فوجب الإيمان به سمعاً لا عقلاً في مقام الجزاء، وأما في مقام التكوين فلا.

وظلمهم أنفسهم هو تسببهم في عذاب أنفسهم فجرُّوا إليها العقاب لأن النفس أولى الأشياء برأفة صاحبها بها وتفكيره في أسباب خيرها.

والاستدراك ناشئ عن نفي الظلم عن الله في عقابهم لأنه يتوهم منه انتفاء موجب العقاب فالاستدراك لرفع هذا التوهم...

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

{وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} إشارة إلى أن الله تعالى إنما يستأصل شأفة الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، رحمة ببقية الجماعات والأفراد، حتى ينعموا من جديد بحياة كريمة سليمة، مطبوعة بطابع الاستقامة والصلاح والرشاد.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

... {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} لأن الله لا يظلم أحداً، فإن الضعيف هو الذي يحتاج إلى الظلم، ليأخذ ما ليس له بحق، أو ليدفع عن نفسه ضرر الآخرين، أمّا القويّ، فإنه يستطيع أن يصل إلى ما يريد دون أن يخاف من أحد، لأن وجود الآخرين لا يضايق وجوده في قليلٍ أو في كثير. وقد حذّرهم الله وأنذرهم بعقابه، في ما أنزله على رسوله، فلم يظلمهم بعد إقامة الحجة عليهم {وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} لأنهم ابتعدوا عن الحق وأهله، فاستحقوا العقاب.