قوله تعالى : { ود كثير من أهل الكتاب } . الآية نزلت في نفر من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بعد وقعة أحد : لو كنتم على الحق ما هزمتم ، فارجعا إلى ديننا فنحن أهدى سبيلا منكم فقال لهم عمار : كيف نقض العهد فيكم ؟ قالوا : شديدا ، قال : فإني قد عاهدت أن لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ما عشت . فقالت اليهود : أما هذا فقد صبأ ، وقال حذيفة : أما أنا فقد رضيت بالله رباً ، وبمحمد نبياً ، وبالإسلام ديناً ، وبالقرآن إماماً ، وبالكعبة قبلة ، وبالمؤمنين إخواناً ، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه بذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد أصبتما الخير وأفلحتما فأنزل الله تعالى : { ود كثير من أهل الكتاب } أي تمنى وأراد كثير من أهل الكتاب من اليهود .
قوله تعالى : { لو يردونكم } . يا معشر المؤمنين .
قوله تعالى : { من بعد إيمانكم كفاراً حسداً } . نصب على المصدر ، أي يحسدونكم حسداً .
قوله تعالى : { من عند أنفسهم } . أي من تلقاء أنفسهم ولم يأمرهم الله بذلك .
قوله تعالى : { من بعد ما تبين لهم الحق } . في التوراة أن قول محمد صلى الله عليه وسلم صدق ودينه حق .
قوله تعالى : { فاعفوا } . فاتركوا .
قوله تعالى : { واصفحوا } . وتجاوزوا ، فالعفو : المحو ، والصفح : الإعراض ، وكان هذا قبل آية القتال .
قوله تعالى : { حتى يأتي الله بأمره } . بعذابه : القتل والسبي لبني قريظة ، والجلاء والنفي لبني النضير ، قاله ابن عباس رضي الله عنهما : وقال قتادة : هو أمره بقتالهم في قوله ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) إلى قوله :{ وهم صاغرون } وقال ابن كيسان : بعلمه وحكمه فيهم حكم لبعضهم بالإسلام ، ولبعضهم بالقتل والسبي والجزية .
ثم أخبر عن حسد كثير من أهل الكتاب ، وأنهم بلغت بهم الحال ، أنهم ودوا { لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا } وسعوا في ذلك ، وأعملوا المكايد ، وكيدهم راجع عليهم [ كما ] قال تعالى : { وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } وهذا من حسدهم الصادر من عند أنفسهم .
فأمرهم الله بمقابلة من أساء إليهم غاية الإساءة بالعفو عنهم والصفح حتى يأتي الله بأمره .
ثم بعد ذلك ، أتى الله بأمره إياهم بالجهاد ، فشفى الله أنفس المؤمنين منهم ، فقتلوا من قتلوا ، واسترقوا من استرقوا ، وأجلوا من أجلوا { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
يحذر تعالى{[2516]} عباده المؤمنين عن سلوك طَرَائق الكفار من أهل الكتاب ، ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين ، مع علمهم بفضلهم وفضل نبيهم . ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو والاحتمال ، حتى يأتي أمر الله من النصر والفتح . ويأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة . ويحثهم على ذلك ويرغبهم فيه ، كما قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن سعيد بن جبير ، أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان حُيَيُّ بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهودَ للعرب حسدًا ، إذْ خَصهم الله برسوله صلى الله عليه وسلم وكانا جَاهدَين في ردِّ الناس عن الإسلام ما استطاعا ، فأنزل الله فيهما : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ } الآية .
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر عن الزهري ، في قوله تعالى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } قال : هو كعب بن الأشرف .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ، عن أبيه : أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرًا ، وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم . وفيه{[2517]} أنزل الله : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ } إلى قوله : { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا }
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : أن رسولا أميا يخبرهم بما في أيديهم من الكتب والرسل{[2518]} والآيات ، ثم يصدق بذلك كله مثل تصديقهم ، ولكنهم جحدوا ذلك كفرًا وحسدًا وبغيًا ؛ ولذلك قال
الله تعالى : { كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ } يقول : من بعد ما أضاء لهم الحق لم يجهلوا منه شيئا ، ولكن الحسد حملهم على الجحود ، فعيرَّهم ووبخهم ولامهم أشدَّ الملامة ، وشرع لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ما هم عليه من التصديق والإيمان والإقرار بما أنزل{[2519]} عليهم وما أنزل من قبلهم ، بكرامته وثوابه الجزيل ومعونته لهم .
وقال الربيع بن أنس : { مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } من قبل أنفسهم . وقال أبو العالية : { مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ } من بعد ما تبين [ لهم ]{[2520]} أن محمدا رسول الله يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، فكفروا به حسدا وبغيًا ؛ إذ كان من غيرهم . وكذا قال قتادة والربيع والسدي .
وقوله : { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } مثل قوله تعالى : { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ } [ آل عمران : 186 ] .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } نسخ ذلك قوله : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وقوله : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ } إلى قوله : { وَهُمْ صَاغِرُونَ } [ التوبة : 29 ] فنسخ هذا عفوه عن المشركين . وكذا قال أبو العالية ، والربيع بن أنس ، وقتادة ، والسدي : إنها منسوخة بآية السيف ، ويرشد إلى ذلك أيضًا قوله : { حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ }
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان{[2521]} أخبرنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني عُرْوَة بن الزبير : أن أسامة بن زيد أخبره ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب ، كما أمرهم الله ، ويصبرون على الأذى ، قال الله : { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأوَّل من العفو ما أمره الله به ، حتى أذن الله فيهم بقتل ، فقتل الله به من قتل من صناديد قريش{[2522]} .
وهذا إسناده{[2523]} صحيح ، ولم أره في شيء من الكتب الستة [ ولكن له أصل في الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما ]{[2524]} .
{ ود كثير من أهل الكتاب } يعني أحبارهم . { لو يردونكم } أن يردوكم ، فإن لو تنوب عن إن في المعنى دون اللفظ : { من بعد إيمانكم كفارا } مرتدين ، وهو حال من ضمير المخاطبين { حسدا } علة ود . { من عند أنفسهم } يجوز أن يتعلق بود ، أي تمنوا ذلك من عند أنفسهم وتشهيهم ، لا من قبل التدين والميل مع الحق أو بحسدا أي حسدا بالغا منبعثا من أصل نفوسهم { من بعد ما تبين لهم الحق } بالمعجزات والنعوت المذكورة في التوراة { فاعفوا واصفحوا } العفو ترك عقوبة المذنب ، والصفح ترك تثريبه . { حتى يأتي الله بأمره } الذي هو الإذن في قتالهم وضرب الجزية عليهم ، أو قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه منسوخ بآية السيف ، وفيه نظر إذ الأمر غير مطلق { إن الله على كل شيء قدير } فيقدر على الانتقام منهم .
{ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }( 109 )
وقوله تعالى : { ود كثير من أهل الكتاب } ، { كثير } مرتفع ب { ود } ، وهو نعت لنكرة ، وحذف الموصوف النكرة قلق ، ولكن جاز هنا لأنها صفة متمكنة ترفع الإشكال بمنزلة فريق( {[1110]} ) ، قال الزهري عنى ب { كثير } واحد ، وهو كعب بن الأشرف ، وهذا تحامل( {[1111]} ) ، وقوله تعالى { يردونكم } يرد عليه ، وقال ابن عباس : المراد ابنا أخطب ، حيي وأبو ياسر . ( {[1112]} )
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وفي الضمن الاتباع ، فتجيء العبارة متمكنة ، و { الكتاب } هنا التوراة ، و { لو } هنا بمنزلة «إن » لا تحتاج إلى جواب ، وقيل يتقدر جوابها في { ود } ، التقدير لو يردونكم لودوا ذلك .
قال القاضي أبو محمد : ف «ود » دالة على الجواب ، لأن من شرطه أن يكون متأخراً عن { لو } ، و { كفاراً } مفعول ثان ، ويحتمل أن يكون حالاً ، و { حسداً } مفعول له( {[1113]} ) ، وقيل : هو مصدر في موضع الحال .
واختلف في تعلق قوله { من عند أنفسهم } : فقيل يتعلق ب { ود }( {[1114]} ) لأنه بمعنى ودوا ، وقيل : يتعلق بقوله { حسداً } فالوقف على قوله { كفاراً } ، والمعنى على هذين القولين أنهم لم يجدوا ذلك في كتاب ولا أمروا به فهو من تلقائهم ، ولفظة الحسد تعطي هذا ، فجاء من عند أنفسهم تأكيداً وإلزاماً ، كما قال تعالى : { يقولون بأفواههم } [ آل عمران : 167 ] ، و { يكتبون الكتاب بأيديهم } [ البقرة : 79 ] ، { ولا طائر يطير بجناحيه }( {[1115]} ) [ الأنعام : 38 ] ، وقيل يتعلق بقوله { يردونكم } ، فالمعنى أنهم ودوا الرد بزيادة أن يكون من تلقائهم أي بإغوائهم وتزيينهم .
واختلف في سبب هذه الآية ، فقيل : إن حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر( {[1116]} ) أتيا بيت المدراس ، فأراد اليهود صرفهم عن دينهم( {[1117]} ) ، فثبتا عليه ونزلت الآية ، وقيل : إنما هذه الآية تابعة في المعنى لما تقدم من نهي الله عن متابعة أقوال اليهود في { راعنا }
[ البقرة : 104 ] وغيره ، وأنهم لا يودون أن ينزل خير ، ويودون أن يردوا المؤمنين كفاراً .
و { الحق } : المراد به في هذه الآية نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وصحة ما المسلمون عليه ، وهذه الآية من الظواهر في صحة الكفر عناداً( {[1118]} ) ، واختلف أهل السنة في جواز ذلك ، والصحيح عندي جوازه عقلاً وبعده وقوعاً ، ويترتب في كل آية تقتضيه أن المعرفة تسلب في ثاني حال من العناد ، والعفو ترك العقوبة وهو من «عفت الآثار » والصفح الإعراض عن المذنب كأنه يولي صفحة العنق .
وقال ابن عباس هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون } [ التوبة : 29 ] إلى قوله { صاغرون }( {[1119]} ) [ التوبة : 29 ] ، وقيل : بقوله { اقتلوا المشركين }( {[1120]} ) ، وقال قوم : ليس هذا حد المنسوخ ، لأن هذا في نفس الأمر كان التوقيف على مدته . ( {[1121]} )
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا على من يجعل الأمر المنتظر أوامر الشرع أو قتل قريظة وإجلاء النضير( {[1122]} ) ، وأما من يجعله آجال بني آدم فيترتب النسخ في هذه بعينها ، لأنه لا يختلف أن آيات الموادعة المطلقة قد نسخت كلها ، والنسخ هو مجيء الأمر في هذه المقيدة( {[1123]} ) ، وقيل : مجيء الأمر هو فرض القتال ، وقيل : قتل قريظة وإجلاء النضير ، وقال أبو عبيدة في هذه الآية : إنها منسوخة بالقتال( {[1124]} ) ، لأن كل آية فيها ترك القتال فهي مكية منسوخة .
قال القاضي أبو محمد : وحكمه بأن هذه الآية مكية ضعيف ، لأن معاندات اليهود إنما كانت بالمدينة ، وقوله تعالى : { إن الله على كل شيء قدير } مقتضاه في هذا الموضوع وعد للمؤمنين .