تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{وَدَّ كَثِيرٞ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ لَوۡ يَرُدُّونَكُم مِّنۢ بَعۡدِ إِيمَٰنِكُمۡ كُفَّارًا حَسَدٗا مِّنۡ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلۡحَقُّۖ فَٱعۡفُواْ وَٱصۡفَحُواْ حَتَّىٰ يَأۡتِيَ ٱللَّهُ بِأَمۡرِهِۦٓۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (109)

تحذير

( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير( 109 ) وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعلمون بصير( 110 )(

المفردات :

ود : تمنى وأحب .

فاعفوا واصفحوا : العفو : ترك العقوبة على الذنب ، والصفح ترك اللوم عليه ، وهو أبلغ من العفو ، إذ قد يعفو ولا يصفح .

حتى يأتي الله بأمره : بإذنه ومعونته .

تجدوه عند الله : تجدوا ثوابه عنده .

109

متعلقات المعنى :

1- قوله تعالى : ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا . بيان للون من ألوان الشرور التي يضمرها أهل الكتاب ، وعلى رأسهم اليهود ، وهو تمنيهم ارتداد المسلمين عن دينهم الحق الذي أنقذهم الله منه ، وإنما أسند سبحانه هذا التمني الذميم إلى الكثرة منهم ، إنصافا للقلة المؤمنة التي لم ترض أن ينتقل المسلمون إلى الكفر بعد أن هداهم الله على الإسلام .

2- يشير قوله تعالى : حسدا من عند أنفسهم : إلى أن تمني كفر المؤمنين لم يكن له من سبب أو علة سوى الحسد الذي استولى على نفوس اليهود ، واستحوذ على قلوبهم فجعلهم يحسدون المؤمنين على نعمة الإيمان ، ويتمنون التحول عنه إلى الكفر ، والجملة الكريمة علة لما تضمنته الجملة السابقة من محبتهم نقل المؤمنين إلى الكفر .

( والحسد ) : قلق النفس لرؤية نعمة يصيبها الإنسان ، وينشأ عن هذا القلق تمني زوال تلك النعمة عن الغير ، وتمني زوال النعم مذموم بكل لسان ، إلا نعمة أصابها فاجر أو جائر يستعين بها على الشر والفساد ، فأن تمني زوالها كراهة للجور والفساد لا يدخل في قبيل الحسد المذموم ، فإن لم تتمن زوال النعمة عن شخص وإنما تمنيت لنفسك مثلها فهي الغبطة والمنافسة ، وهي محمودة لأنها تنتهي بالشخص إلى اكتساب محامد لولا المنافسة لظل في غفلة عنها ، والحسد قد يهجم على الإنسان ولا يكون في وسعه دفعه لشدة النفرة بينه وبين المحسود ، وإنما يؤاخذ الإنسان على رضاه به ، وإظهار ما يستدعيه من القدح في المحسود ، والقصد إلى إزالة النعمة عنه ) ( 271 ) .

وفي الحديث الشريف : «ثلاث لا ينجو منهن أحد : الحسد والطيرة ، والظن ، قيل : فما المخرج منهن يا رسول الله ؟ قال : إذا حسدت فلا تبغ ، وإذا تطيرت فلا ترجع ، وإذا ظننت فلا تتبع » ( 272 ) .

فهذه الأشياء تهجم على الإنسان ، والمؤمن مطالب بألا يسترسل فيها فإذا حسد أو أحس ببوادر الحسد فلا ينبغي له العدوان أو القدح أو البغي على المحسود .

وإذا تطير وتشاءم من شيء فلا يرجع ولا يسترسل في تشاؤمه بل يقل : «اللهم لا يأتي بالخير إلا أنت ، ولا يذهب السوء إلا أنت اللهم اكفني السوء بما شئت إنك على ما تشاء قدير » .

وإذا ظن الإنسان بآخر فلا يسترسل في تتبعه ، ولا يتابعه بالتجسس عليه ، وبذلك يسلم المسلم من بوادر هذه الأمور الثلاثة حيث يوقفها عند حدها ، ولا يسمح لها بالتعدي على الآخرين .

3- قوله تعالى : من بعد ما تبين لهم الحق . يدل على أن محبة اليهود لتحويل المؤمنين من الكفر إلى الإيمان وقعت بعد أن ظهر لهم صدق النبي صلى الله عليه وسلم ، وبعد أن تبين لهم أن الصفات التي وردت في التوراة بشأن النبي المبشر به ، لا تنطبق عليه ، وإذا فكفرهم به لم يكن عن جهل وإنما كان عن عناد وجمود على الباطل ، ذلك هو الشأن أحبارهم الذين كانوا على علم بالتوراة ، وتبشيرها بالنبي صلى الله عليه وسلم .

4- قوله تعالى : فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير . أي لا تعاقبوهم ولا تلوموهم حتى يأذن الله بالقتال في الوقت الذي يختاره لكم ، وقد أنزل الله تعالى بعد ذلك الإذن بقتال اليهود في قوله : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية على يد وهم صاغرون . ( التوبة : 29 ) . كما أذن بإجلائهم عن المدينة .

5- قال السيد رشيد رضا في تفسير المنار :

قال الأستاذ الإمام : وفي أمره تعالى لهم بالعفو والصفح إشارة إلى أن المؤمنين على قتلهم هم أصحاب القدرة والشوكة ، لأن الصفح إنما يطلب من القادر على خلافه ، كأنه يقول :

لا يغرنكم أيها المؤمنين كثرة أهل الكتاب مع باطلهم ، فإنكم على قتلكم أقوى منهم بما أنتم عليه من الحق ، فعاملوهم معاملة القوي العادل ، للقوى الجاهل ، وفي إنزال المؤمنين على ضعفهم منزلة الأقوياء ووضع أهل الكتاب على كثرتهم موضع الضعفاء ، إيذان بأن أهل الحق هم المؤيدون بالعناية الإلهية ، وأن العزة لهم ما ثبتوا على حقهم ، ومهما يتصارع الحق والباطل فإن الحق هو الذي يصرع الباطل كما قلنا غير مرة ، وإنما بقاء الباطل في غفلة الحق عنه( 273 ) .