غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَدَّ كَثِيرٞ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ لَوۡ يَرُدُّونَكُم مِّنۢ بَعۡدِ إِيمَٰنِكُمۡ كُفَّارًا حَسَدٗا مِّنۡ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلۡحَقُّۖ فَٱعۡفُواْ وَٱصۡفَحُواْ حَتَّىٰ يَأۡتِيَ ٱللَّهُ بِأَمۡرِهِۦٓۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (109)

109

التفسير : هذا نوع آخر من مكايد اليهود . روي أن فنحاص بن عازوراء وزيد بن قيس ونفراً من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بعد وقعة أحد : ألم تروا ما أصابكم ، ولو كنتم على الحق ما هزمتم فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم وأفضل ونحن أهدى منكم سبيلاً . فقال عمار : كيف نقض العهد فيكم ؟ قالوا شديد . قال : فإني قد عاهدت أن لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ما عشت . فقالت اليهود : أما هذا فقد صبأ . وقال حذيفة : وأما أنا فقد رضيت بالله رباً وبمحمد نبياً وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخواناً . ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبراه فقال : أصبتما خيراً وأفلحتما فنزلت . و{ كفاراً } نصب على الحال ، أو مفعول ثانٍ ل " يردون " على أنه بمعنى " صير " والحسد من أقبح الخصال الذميمة قال صلى الله عليه وسلم " الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب " وقال : " إن لنعم الله أعداء قيل : وما أولئك ؟ قال : الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله " وقال " ستة يدخلون النار قبل الحساب : الأمراء بالجور ، والعرب بالعصبية ، والدهاقين بالتكبر ، والتجار بالخيانة ، وأهل الرستاق بالجهالة ، والعلماء بالحسد " وروي أن موسى لما ذهب إلى ربه رأى في ظل العرش رجلاً يغتبط بمكانه فقال : إن هذا لكريم على ربه ، فسأل ربه أن يخبره باسمه فلم يخبره باسمه وقال : أحدثك من عمله ثلاثاً : كان لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله ، وكان لا يعق والديه ، ولا يمشي بالنميمة ، ويحكى أن عبد الله بن عون دخل على الفضل بن المهلب ، وكان يومئذ على واسط فقال : إني أريد أن أعظك بشيء : إياك والكبر فإنه أول ذنب عصى الله به إبليس ثم قرأ { فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر } [ البقرة : 34 ] وإياك والحرص فإنه أخرج آدم من الجنة ، أمكنه الله من جنة عرضها السماوات والأرض فأكل منها فأخرجه الله ثم تلا { اهبطا منها } [ طه : 123 ] وإياك والحسد فإنه قتل ابن آدم أخاه حين حسده ثم قرأ { واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق } [ المائدة : 27 ] وقال ابن الزبير : ما حسدت أحداً على شيء من أمر الدنيا ، لأنه إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده على الدنيا وهي حقيرة في الجنة ، وإن كان من أهل النار فكيف أحسده على أمر الدنيا وهو يصير إلى النار ؟ واعلم أنه إذا أنعم الله على أخيك بنعمة فإن أردت زوالها فهذا هو الحسد المحرم الذي ذم الله تعالى صاحبه في هذه الآية وغيرها

{ أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله } [ النساء : 54 ] { إن تمسسكم حسنة تسؤهم } [ آل عمران : 120 ] { ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا } [ يوسف : 8 ] وإن اشتهيت لنفسك مثلها فهذا هو الغبطة والمنافسة المشتقة من النفاسة وليست بحرام لقوله تعالى { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } [ المطففين : 26 ] { سابقوا إلى مغفرة من ربكم } [ الحديد : 21 ] وقال صلى الله عليه وسلم " لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالاً وأنفقه في سبيل الله ، ورجل آتاه الله علماً فهو يعمل به ويعلم الناس " وهذا يدل على أن الحسد قد يطلق على المنافسة ، وقد تكون واجبة إذا كانت النعمة دينية واجبة كالإيمان والصلاة والزكاة ، وقد تكون مندوبة في نحو الإنفاق في سبيل الله وتشهي العلم والتعليم ، وقد تكون مباحة . وللحسد مراتب أربع : الأولى ، أن يحب زوال النعمة عنه وإن لم تحصل له وهذه أخبث . الثانية : أن يحب زوالها عنه إليه كرغبته في داره الحسنة أو امرأته أو ولايته فالمطلوب بالذات حصولها له ، فأما زوالها عن غيره فمطلوب بالعرض . الثالثة : أن لا يشتهي زوالها بل يشتهي لنفسه مثلها ، فإن عجز عن مثلها أحب زوالها كيلا يظهر التفاوت بينهما . الرابعة : أن يشتهي لنفسه مثلها فإن لم يحصل فلا يحب زوالها عنه . وهذا الأخير هو المعفو عنه إن كان في الدنيا ، والمندوب إليه إن كان في الدين ، والثالثة منها مذموم وغير مذموم ، والثانية أخف والأولى أخبث قال تعالى : { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض }

[ النساء : 32 ] تمنيه لمثل ذلك غير مذموم وتمنيه لعين ذلك مذموم . وأسباب الحسد سبعة : أولها العداوة والبغضاء ، فإن من آذاه إنسان أبغضه قلبه وغضب عليه وتولد منه الحقد المنشئ للتشفي والانتقام ، فإن عجز المبغض عن أن يتشفى منه بنفسه أحب أن يتشفى منه الزمان كما قال عز من قائل { إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها } [ آل عمران : 120 ] . وربما أفضى هذا الحسد إلى التنازع والتقاتل ، وثانيها التعزز فإن واحداً من أمثاله إذا نال منصباً عالياً فترفع عليه وهو لا يمكنه تحمل ذلك ، أراد زوال ذلك المنصب عنه . وليس من غرضه أن يتكبر بل غرضه أن يدفع كبره فإنه قد رضي بمساواته . وثالثها : أن يكون في طبعه أن يستخدم غيره فيريد زوال النعمة من ذلك الغير ليقدر على ذلك الغرض { وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } [ الزخرف : 31 ] { أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا } [ الأنعام : 53 ] كالاستحقار لهم والأنفة منهم . ورابعها : التعجب

{ أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم } [ الأعراف : 63 ] وخامسها : الخوف من فوت المقاصد وذلك يتحقق من المتزاحمين على مقصود واحد ، كتحاسد الضرائر في التزاحم على مقاصد الزوجية ، وتحاسد الإخوة في التزاحم على نيل المنزلة عند الأبوين ، وتحاسد الوعاظ المتزاحمين على أهل بلدة . وسادسها : حب الرياسة كمن يريد أن يكون عديم النظير في فن من الفنون ، فإنه لو سمع بنظير له في أقصى العالم ساءه ذلك وأحب موته ، فإن الكمال محبوب لذاته وضد المحبوب مكروه . ومن جملة أنواع الكمال التفرد بالكمال لكن هذا يمتنع حصوله إلا لله تعالى ، ومن طمع في المحال خاب وخسر . وسابعها : شح النفس بالخير على عباد الله ، فإنك تجد من لا يشتغل برياسة ولا تكبر ولا طلب مال إذا وصف عنده حسن حال عبد من عباد الله شق عليه ذلك ، وإذا وصف اضطراب أمور الناس وإدبارهم فرح به ، فهو أبداً يحب الإدبار لغيره ويبخل بنعمة الله على عباده كأنهم يأخذون ذلك من ملكه وخزائنه ، وهذا ليس له سبب ظاهر سوى خبث النفس كما قيل : البخيل من بخل بمال غيره . وقد يجتمع بعض هذه الأسباب فيعظم الحسد ويتقوى بحسبه ، وقلما يقع التحاسد إلا في الأمور الدنيوية ، لأن الدنيا لا تفي بالمتزاحمين . وأما الآخرة فلا ضيق فيها فلهذا لا يكون تحاسد بين أرباب الدين وأصحاب اليقين ، وإنما يكونون بلقاء إخوانهم مستأنسين وببقاء أقرانهم فرحين

{ ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين } [ الحجر : 47 ] وأما علاج الحسد فأمران : العلم والعمل . أما العلم ففيه مقامان : إجمالي وهو أن يعلم أن الكل بقضاء الله وقدره ، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، لا يرده كراهية كاره ولا يجره إرادة مريد . وتفصيلي وهو العلم بأن الحسد قذى في عين الإيمان حيث كره حكم الله وقسمته في عباده وغش للإخوان ، وعذاب أليم ، وحزن مقيم ، ومورث للوسواس ، ومكدر للحواس . ولا ضرر على المحسود في دنياه لأن النعمة لا تزول عنه بحسدك ، ولا في دينه بل ينتفع به لأنه مظلوم من جهتك فيثيبه الله على ذلك . وقد ينتفع في دنياه أيضاً من جهة أنك عدوه ، ولا يزال يزيد غمومك وأحزانك إلى أن يقضي بك إلى الدنف والتلف .

اصبر على مضض الحسو *** د فإن صبرك قاتله

النار تأكل نفسها *** إن لم تجد ما تأكله

وقد يستدل بحسد الحاسد على كونه مخصوصاً من الله تعالى بمزيد الفضائل .

لا مات أعداؤك بل خلدوا *** حتى يروا منك الذي يكمد

لا زلت محسوداً على نعمة *** فإنما الكامل من يحسد

والحاسد مذموم بين الخلق ، ملعون عند الخالق ، مشكور عند إبليس وأصدقائه ، مدحور عند الخالق وأوليائه ، فهل هو إلا كمن رمى حجراً إلى عدو ليصيب به مقتله فلا يصيبه بل يرجع على حدقته اليمنى فيقلعها ، فيزداد غضبه فيعود ثانياً فيرميه أشد من الأول فيرجع على عينه الأخرى فيعميه فيزداد غيظه ، فيعود ثالثاً فيرجع على رأسه فيشدخه ، وعدوه سالم في كل الأحوال وقد عاد عليه الوبال وأعداؤه حواليه يفرحون ويضحكون ؟ هذا له في الدنيا ولعذاب الآخرة أشد وأبقى . وأما العمل فهو أن يأتي بالأفعال المضادة لمقتضيات الحسد ، فإن بعثه الحسد على القدح فيه كلف لسانه المدح له ، وإن حمله على التكبر عليه كلف نفسه التواضع له ، وإن حمله على قطع أسباب الخير سعى في إيصال الخير إليه حتى يصير المحسود محبوباً محباً له ،

{ فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم } [ فصلت : 34 ] ، وذلك التكلف يصير بالآخرة طبعاً والله الموفق . واعلم أن النفرة القائمة بقلب الحاسد من المحسود أمر غير داخل في وسعه ، فكيف يعاقب عليه ؟ وإنما الاخل تحت التكليف رضاه بتلك النفرة ثم إظهار آثارها من القدح فيه والقصد إلى إزالة النعمة عنه وجر أسباب المحنة إليه ، ثم إن اليهود كانوا يريدون رجوع المؤمنين عن الإيمان من بعدما تبين لهم أن الإيمان صواب وحق ، فألقوا إليهم ضربين من الشبهة لعلمهم أن المحق لا يعدل عن الحق إلا بالشبهة أحدهما ما يتصل بالدنيا وهو قولهم لهم قد علمتم ما نزل بكم من إخراجكم من دياركم وذهاب أموالكم واستمرار الخوف عليكم ، فاتركوا إيمانكم الذي ساقكم إلى هذه . الثاني في باب الدين بالقدح في المعجزات وتحريف التوراة .

قوله { من عند أنفسهم } إما أن يتعلق ب { ودّ } أي تمنوا ذلك من قبل شهوتهم لا من قبل التدين والميل مع الحق ، لأنهم ودوا ذلك من بعدما تبين لهم أنكم على الحق ، وإما أن يتعلق ب { حسداً } أي منبعثاً من أصل نفوسهم { فاعفوا واصفحوا } فاسلكوا معهم سبيل العفو والصفح بترك المقابلة والإعراض عن الجواب ، لأن ذلك أقرب إلى تسكين الثائرة لا دائماً بل { حتى يأتي الله بأمره } عن الحسن أنه المجازاة يوم القيامة ، وقيل قوة الإسلام وكثرة المسلمين ، والأكثرون على أنه الأمر بالقتال فعنده يتعين إما الإسلام وإما قبول الجزية ، وتحمل الذل والصغار . والآية منسوخة لأن الآية التي علق بها غير معلومة شرعاً فليس كقوله { ثم أتموا الصيام إلى الليل } [ البقرة : 187 ] بل يحل محل قوله { فاعفوا واصفحوا } إلى أن أنسخه عنكم . عن الباقر عليه السلام : إنه لم يؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال حتى نزل جبريل بقوله { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظُلموا } [ الحج : 39 ] وقلده سيفاً فكان أول قتال قتال أصحاب عبد الله بن جحش ببطن نخل وبعده غزوة بدر . فإن قيل : كيف يعفون ويصفحون والكفار حينئذ أصحاب قوة وشوكة ، والصفح لا يكون إلا عن قدرة ؟ قلنا : إن الرجل من المسلمين كان ينال الأذى فيقدر على بعض التشفي والإستعانة بسائر أصحابه ، فأمروا أن لا يهيجوا قتالاً وفتنة . وأيضاً القليل منهم كان يقاوم الكثير من المشركين { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } [ الأنفال : 65 ] وأيضاً جعل الصابر إلى القوة قوياً ليظهره على الدين كله . وقيل : المراد بالعفو والصفح حسن الاستدعاء واستعمال ما يلزم فيهم من النصح والإشفاق وترك التشدد ، وعلى هذا لا تكون الآية منسوخة . وكذا لو قيل : المراد بأمر الله قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير وإذلالهم بضرب الجزية عليهم { إن الله على كل شيء قدير } فهو يقدر على الانتقام منهم .