فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{وَدَّ كَثِيرٞ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ لَوۡ يَرُدُّونَكُم مِّنۢ بَعۡدِ إِيمَٰنِكُمۡ كُفَّارًا حَسَدٗا مِّنۡ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلۡحَقُّۖ فَٱعۡفُواْ وَٱصۡفَحُواْ حَتَّىٰ يَأۡتِيَ ٱللَّهُ بِأَمۡرِهِۦٓۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (109)

{ فاعفوا } اتركوا العقوبة { واصفحوا } تجاوزوا عن التثريب وأعرضوا عنهم

{ ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا } تمنى وأحب كثير من اليهود -وفيهم نزلت التوراة- ومن النصارى -وفيهم أنزل الإنجيل- تمنوا ومازالوا يتمنون أن يرجع المسلمون إلى الكفر كما قال تقدست أسماؤه { ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء . . . }{[394]} وقال عز وجل { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم . . . }{[395]} يحذرنا سبحانه أن نأمن مكرهم أو نواليهم ونقفوا أثرهم يقول تباركت آلاؤه { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين }{[396]} وقد نبأنا العليم الخبير أنهم ملئوا ضغنا ومردوا على النفاق { ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ }{[397]} { حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق } وإنما يحب الكفار ضلالنا وإغوائنا ويسارعون في خبالنا لأنهم يحسدوننا على فضل وهداية مولانا لنا وهم يعلمون أنا على الحق وهم على الباطل لكن يكرهون أن ننجوا وهم يهلكون ومعنى { من عند أنفسهم } أي من تلقائهم من غير أن يجحدوه في كتاب ولا أمروا به . . . الحسد نوعان مذموم ومحمود فالمذموم أن تتولى زوال نعمة الله عن أخيك المسلم وسواء تمنيت مع ذلك أن تعود إليك أو لا وهذا النوع الذي ذمه الله تعالى في كتابه بقوله { أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله . . . }{[398]} وإنما كان مذموما لأن فيه تسفيه الحق سبحانه وأنه أنعم على من لا يستحق ، وأما المحمود فهو ما جاء في الصحيح من قوله عليه السلام ( لا حسد إلا في اثنين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار ) وهذا الحسد معناه الغبطة وكذلك ترجم عليه البخاري ( باب الاغتباط في العلم والحكمة ) وحقيقتها أن تتمنى أن يكون لك ما لأخيك المسلم من النعمة ولا يزول عنه خيره وقد يجوز أن يسمى هذا منافسة ومنه قوله تعالى : { . . . وفي ذلك فليتنافس المتنافسون }{[399]}-{[400]} .

{ فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره } العفو ترك المآخذة بالذنب والصفح الإعراض والترك وزوال أثره من النفس والأمر إما واحد الأوامر ، وإما واحد الأمور ، أمرنا الله تعالى بالعفو عن إساءتهم والإعراض عن سفاهاتهم ومتابعة نصحهم والإشفاق عليهم وحسن الاستدعاء وترك التشدد ؛ روى البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمار عليه قطيفة فدكية {[401]} وأسامة وراءه يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر فسارا حتى مرا بمجلس فيه عبد الله بن أبي ابن سلول{[402]}-وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي- فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود وفي المسلمين محمد بن رواحة فلما غشيت المجلس عجاجة{[403]} الدابة خمر{[404]} ابن أبي أنفة بردائه وقال : لا تغبروا علينا فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله تعالى وقرأ عليهم القرآن فقال عبد الله بن أبي بن سلول : أيها المرء لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا ارجع إلى رحلك{[405]} . فمن جاء فاقصص عليه قال عبد الله بن رواحة بلى يا رسول الله فاغشنا في مجالسنا فإنا نحب ذلك فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يا سعد ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب -يريد عبد الله بن أبي- قال كذا وكذا ) فقال أي رسول الله بأبي أنت وأمي اعف عنه واصفح فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك ولقد اصطلح عليه أهل البحيرة {[406]} على أن يتوجوه ويعصبوه بالعصابة فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاك شرق بذلك فلذلك فعل ما رأيت ، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عفى عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله تعالى ويصبرون على الأذى قال الله عز وجل { . . . ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن أشركوا أذى كثيرا . . . }{[407]} وقال { ود كثير من أهل الكتاب } فكان رسول الله يتأول في العفو عنهم ما أمره الله به حتى أذن لهم فيه{[408]} ، فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا فقتل الله به من قتل من صناديد الكفار وسادات قريش فقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه غانمين منصورين معهم أسارى من صناديد الكفار وسادات قريش قال عبد الله بن أبي بن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان هذا أمر قد توجه{[409]} فبايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام فأسلموا { إن الله على كل شيء قدير } إن شاء الانتقام انتقم وإن شاء الهداية هدى فإنه يفعل ما يشاء ولا يعجزه شيء أراد .


[394]:سورة النساء من الآية 89.
[395]:سورة البقرة من الآية 120.
[396]:سورة آل عمران من الآية 100.
[397]:سورة آل عمران من الآية 119..
[398]:سورة النساء من الآية 54
[399]:سورة المطففين من الآية 26.
[400]:ما بين العارضتين من الجامع لأحكام القرآن.
[401]:فدكية منسوبة إلى فدك قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان.
[402]:سلول: أم عبد الله بن أبي ولهذا لم تسقط الألف في الكتابة.
[403]:عجاجة غبار.
[404]:خمر: غطى.
[405]:رحلك منزلك.
[406]:البحيرة مدينة الرسول عليه السلام.
[407]:سورة آل عمران من الآية 186.وتمامها{.. وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور).
[408]:وعلى هذا لن تكون الآية منسوخة لكن ذهب بعض المفسرين إلى ان الآية منسوخة بآية القتال {.. فاقتلوا المشركين ..} ويقول المولى سبحانه {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}
[409]:توجه: ظهر وجهه.