اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَدَّ كَثِيرٞ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ لَوۡ يَرُدُّونَكُم مِّنۢ بَعۡدِ إِيمَٰنِكُمۡ كُفَّارًا حَسَدٗا مِّنۡ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلۡحَقُّۖ فَٱعۡفُواْ وَٱصۡفَحُواْ حَتَّىٰ يَأۡتِيَ ٱللَّهُ بِأَمۡرِهِۦٓۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (109)

سبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان ، وعمار بن ياسر بعد وقعة " أحد " : ألم تروا ما أصابكم ، ولو كنتم على الحق ما هزمتم ، فارجعوا إلى ديننا ، فهو خير لكم وأفضل ، ونحن أهدى منكم سبيلاً .

فقال عمار : كيف نقض العهد فيكم ؟ قالوا : شديد ، قال : فإني قد عاهدت أني لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم وبجل وعظم ما عشت .

فقالت اليهود : أما هذا فقد صبأ ، وقال حذيفة : وأما أنا فقد رضيت بالله ربّاً ، وبالإسلام ديناً ، وبالقرآن إماماً ، وبالكعبة قِبْلَةً ، وبالمؤمنين إخواناً ، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبراه فقال : أصبتما خيراً وأفلحتما فنزلت هذه الآية{[1718]} .

قوله تعالى : " لَوْ يَردُّونَكُمْ " الكلام في " لو " كالكلام فيها عند قوله : { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ } [ البقرة : 96 ] ، فمن جعلها مصدرية هناك جعلها كذلك هنا ، وقال : هي مفعول " يود " أي : ودّ كثير ردَّكم .

ومن أبي جعل جوابها محذوفاً تقديره : لو يردونكم كفاراً لسُرُّوا أو فرحوا بذلك .

وقال بعضهم : تقديره : لو يردونكم كفاراً لودّوا ذلك ، ف " وَدَّ " دَالَّة على الجواب ، وليست بجواب ؛ لأن " لو " لا يتقدمها جوابها كالشرط .

وهذا التقدير الذي قدره هذا القائل فاسد ، وذلك أن " لو " حرف لما كان سيقع لوقوع غيره ، فيلزم من تقديره ذلك أن وَدَادتهم ذلك لم تقع ؛ لأن الموجب لفظاً منفي معنى ، والغرض من وَدَادَتهم ذلك واقعة باتفاق ، فتقدير لسروا ونحوه هو الصحيح .

و " يرد " هنا فيه قولان .

أحدهما وهو الواضح أنها المتعدّية لمفعولين بمعنى " صَيَّر " ، فضمير المخاطبين مفعولٌ أول ، و " كفاراً " مفعول ثان ؛ ومن مجيء " رَدَّ " بمعنى " صَيَّر " قوله : [ الوافر ]

733- رَمَى الْحَدَثانُ نِسْوَةَ آلِ حَرْبٍ *** بِمِقْدَارٍ سَمَدْنَ لَهُ سُمُودَا

فَرَدَّ شُعُورَهُنَّ السُّودَ بِيضاً *** وَرَدَّ وُجُوهَهُنَّ البِيضَ سُودَا{[1719]}

وجعل أبو البقاء كفاراً حالاً من ضمير المفعول على أنها المتعدية لواحد ، وهو ضعيف ، لأن الحال يستغني عنها غالباً ، وهذا لا بد منه .

و " مِنْ بَعد " متعلق ب " يردُّونكم " و " من " لابتداء الغاية .

قوله تعالى : " حسداً " نصب على المفعول له ، وفيه الشروط المجوّزة لنصبه ، والعامل فيه " ود " أي : الحامل على ودادتهم رَدُّكم كُفَّاراً حَسَدُهُم لكم .

وجوزوا فيه وجهين آخرين :

أحدهما : أنه مصدر في موضع الحال ، وإنما لم يجمع لكونه مصدراً ، أي : حاسدين ، وهذا ضعيف ، لأن مجيء المصدر حالاً لا يطّرد .

الثاني : أنه منصوب على المصدرية بفعل من لفظه أي يحسدونكم حسداً [ والأول أظهر الثلاثة{[1720]} ] .

قوله تعالى : { مِنْ عِندِ أَنفُسِهِم } في هذا الجار ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه متعلّق ب " ود " أي : ودوا ذلك من قبل شهواتهم لا من قبل التدين [ والميل مع الحق ؛ لأنهم ودّوا ذلك من بعد ما تبيّن لهم أنكم على الحق ]{[1721]} و " من " لابتداء الغاية .

الثاني : أنه صفة ل " حسداً " فهو في محلّ نصب ، ويتعلّق بمحذوف أي : حسداً كائناً من قبلهم وشهوتهم ، ومعناه قريب من الأول .

[ الثالث : أنه متعلّق ب " يردّونكم " ، و " من " للسببية . أي : يكون الردّ من تلقائهم وجهتهم وبإغوائهم ]{[1722]} .

قوله تعالى : " من بعد ما " متعلّق ب " وَدَّ " ، و " من " للابتداء ، أي : أنَّ ودادتهم ذلك ابتدأت من حين وضوح الحق ، وتبيّنه لهم ، فكفرهم عُنَادٌ ، و " ما " مصدرية أي : من بعد تبيين الحَقّ .

والحسد : تمنِّي زوال نعمة الإنسان . والمصدر حَسَدٌ .

فإن قيل : إنّ النَّفْرة القائمة بقلب الحاسد من المحسود أمر غير داخل في وسعه ، فكيف يعاقب عليه ؟

فالجواب : أن الذي هو في وسعه أمران :

أحدهما : كونه راضياً بتلك النَّفْرَة .

والثاني : إظهار آثار تلك النَّفْرَة من القَدْح فيه ، والقَصْد إلى إزالة تلك النعمة عنه وجدّ أسباب المحبة إليه ، فهذا هو الداخل تحت التكليف .

والحمد نوعان : مذموم ومحمود ، فالمذموم أن يتمنّى زوال نعمة الله عن المسلم ، سواء تمنيت مع ذلك أتعود إليك أم لا ؛ لأنه فيه تسفيه الحق سبحانه وتعالى وأنه أنعم على مَنْ لا يستحقّ .

والمحمود كقوله صلى الله عليه وسلم : " لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْن : رَجُل آتاهُ اللهُ تعالى القُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آناءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَار ، وَرَجُلٍ آتاهُ اللهُ مَالاً فَهُوَ يُنْفِقُ آناءَ اللَّيْلِ وَآنَاء النَّهَارِ " . . وهذا الحديث معناه " الغِبْطة " كذا ترجم عليه البُخَاري رحمه الله تعالى .

والصَّفْحُ قريب من العفو ، مأخوذ من الإعراض بصفحة العُنُق .

وقيل : معناه التجاوز ، من تصفّحت الكتاب أي : جَاوَزْتُ وَرَقَهُ ، والصَّفُوح من أسماء الله ، والصَّفُوح أيضاً : المرأة تستر وجْهَها إعراضاً ؛ قال الشاعر : [ الطويل ]

734- صَفُوحٌ فَمَا تَلْقَاكَ إلاَّ بِحِيلَةٍ *** فَمَنْ مَلَّ مِنْهَا ذَلِكَ الوَصْلَ مَلَّتِ{[1723]}

قال القرطبي رحمه الله تعالى : العفو : ترك المُؤَاخَذَة بالذَّنب .

والصّفح : إزالة أثره من النفس . يقال : صَفَحْتُ عن فلان إذا أعرضت عن ذنبه ، وقد ضربت عنه صَفْحاً إذا أعرضت عنه وتركته ، ومنه قوله تعالى : { أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً } [ الزخرف : 5 ] .

فصل في المراد بهذه الآية

[ المراد بهذه الآية أنهم كانوا يريدون رجوع المؤمنين عن الإيمان من بعد ما تبيّن لهم أن الإيمان صواب وحقّ ، والعالم بأن غيره على حقّ لا يجوز أن يريد ردّه عنه إلاَّ بشبهة يلقيها إليه ، لأن المحق لا يعدل عن الحق إلاَّ بشبهة ، والشبهة ضربان :

أحدهما : ما يتّصل بالدنيا ، وهو أن يقال لهم : قد علمتم ما نزل بكم من إخراجكم من دياركم ، وضيق الأمر عليكم ، واستمرار المخافة بكم ، فاتركوا الإيمان الذي ساقكم إلى هذه الأشياء .

والثاني : في باب الدين : بطرح الشبه في المُعْجزات ، أو تحريف ما في التوراة .

فصل في المقصود بأمر الله

قوله : { فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمرِهِ } يحتمل أمرين :

الأول : أن المراد ترك المقابلة والإعراض عن الجواب ، لأن ذلك أقرب إلى تَسْكين الثائرة في الوقت ، فكأنه تعالى أمر الرسول بالعَفْو والصفح عن اليهود ، فكذا أمره بالعفو والصفح عن مشركي العرب بقوله تعالى : { قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ } [ الجاثية : 14 ] وقوله : { وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً } [ المزمل : 10 ] ولذلك لم يأمر بذلك على الدوام ، بل علّقه بغاية فقال : { حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } .

وذكروا فيه وجوهاً :

أحدها : أنه المُجَازاة يوم القيامة عن الحسن .

وثانيها : أنه ]{[1724]} قوة الرسول صلوات الله وسلامه عليه وكثرة أمته .

وثالثها : وهو قول أكثر الصحابة والتابعين رضي الله عنهم ، أنه الأمر بالقتال ؛ لأن عنده يتعين أحد أمرين :

إما الإسلام ، وإما الخضوع لدفع الجزية ، وتحمل الذل والصَّغَار ، فلهذا قال العلماء : إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : { قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ } [ التوبة : 29 ] .

ورُويَ أنَّه لم يؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال حتى نزل جبريل عليه الصلاة والسلام بقوله : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ }

[ الحج : 39 ] وقلّده سيفاً فكان أول قتال قاتل أصحاب عبد الله بن جَحْش ب " بطن نخل " ، وبعده غزوة " بدر " .

فإن قيل : كيف يكون منسوخاً وهو معلق بغاية كقوله : { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الّلَيْلِ } [ البقرة : 187 ] . وإن لم يكن ورود الليل ناسخاً ، فكذا هاهنا .

فالجواب : أن الغاية التي تعلق بها الأمر إذا كانت لا تعلم إلا شرعاً لم يخرج ذلك الوارد شرعاً عن أن يكون ناسخاً ، ويحلّ محل قوله تعالى :

{ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ } إلى أن أنسخه عنكم .

فإن قيل : كيف يعفون ويصفحون ، والكفار كانوا أصحاب الشوكة والقوة ، والصفح لا يكون إلا عن قدرة ؟

فالجواب : أن الرجل من المسلمين كان ينال بالأذى ، فيقدر في تلك الحالة قبل اجتماع الأعداء أن يدفع عداوتهم عن نفسه وأن يستعين بأصحابه ، فأمر الله سبحانه وتعالى عند ذلك بالعَفْوِ والصفح كي لا يهيّجوا شراً وقتالاً .

قال القرطبي رحمه الله : [ قال أبو عبيدة : ]{[1725]} كل آية فيها ترك للقتال فهي مكّية منسوخة بالقتال .

قال ابن عطية : [ الحكم ]{[1726]} بأن هذه الآية مكّية ضعيف : لأن مُعَاندات اليهود أنما كانت ب " بالمدينة " .

قال القرطبي : " وهو الصحيح " .

[ التفسير الثاني : العفو والصفح ]{[1727]} أنه حسن الاستدعاء ، واستعمال ما يلزم فيهم من النصح والإشْفَاق ، والتشدّد فيه ، وهذا لا يجوز نسخه .

وقوله : { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } تحذير لهم بالوعيد ، سواء حمل على الأمر بالقتال أو غيره .


[1718]:- انظر تفسير الفخر الرازي: (3/213).
[1719]:- البيتان لعبد الله بن الزبير. ينظر ملحق ديوانه: ص 143- 144، ونسبا أيضا للكميت بن معروف ينظر شرح ديوان الحماسة للمرزوقي: ص 941، المقاصد النحوية: 2/417، عيون الأخبار: 3/76، معجم الشعراء: ص 309، ذيل الأمالي: ص 115، شرح الأشموني: 1/159، شرح ابن عقيل: ص 217، لسان العرب (سمد)، أمالي القالي: 3/128، الأضداد: (36)، مجالس ثعلب: 2/439، الدر المصون:: 1/341.
[1720]:- سقط في ب.
[1721]:- سقط في ب.
[1722]:- سقط في أ.
[1723]:- البيت لكثير. ينظر ديوانه: (1/43)، البحر المحيط: 1/506، الدر المصون: 1/342.
[1724]:- سقط في أ.
[1725]:- سقط في ب.
[1726]:- في ب: وحكمه.
[1727]:- سقط في أ.