قوله تعالى : { وقال الملك ائتوني به } ، وذلك أن الساقي لما رجع إلى الملك وأخبره بما أفتاه يوسف من تأويل رؤياه ، وعرف الملك أن الذي قاله كائن ، قال : ائتوني به . { فلما جاءه الرسول } ، وقال له : أجب الملك ، أبى أن يخرج مع الرسول حتى تظهر براءته ثم ، { قال } ، للرسول : { ارجع إلى ربك } ، يعني : سيدك الملك ، { فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن } ، ولم يصرح بذكر امرأة العزيز أدبا واحتراما . قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي " . { إن ربي بكيدهن عليم } ، أي : إن الله بصنيعهن عالم ، وإنما أراد يوسف بذكرهن بعد طول المدة حتى لا ينظر إليه الملك بعين التهمة ، ويصير إليه بعد زوال الشك عن أمره ، فرجع الرسول إلى الملك من عند يوسف برسالته ، فدعا الملك النسوة وامرأة العزيز
{ 50 - 57 } { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ * قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ }
يقول تعالى : { وَقَالَ الْمَلِكُ } لمن عنده { ائْتُونِي بِهِ } أي : بيوسف عليه السلام ، بأن يخرجوه من السجن ويحضروه إليه ، فلما جاء يوسف الرسول وأمره بالحضور عند الملك ، امتنع عن المبادرة إلى الخروج ، حتى تتبين براءته التامة ، وهذا من صبره وعقله ورأيه التام .
ف { قَالَ } للرسول : { ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ } يعني به الملك . { فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } أي : اسأله ما شأنهن وقصتهن ، فإن أمرهن ظاهر متضح { إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } .
يقول تعالى إخبارًا عن الملك لما رجعوا إليه بتعبير رؤياه ، التي كان رآها ، بما أعجبه وأينقه ، فعرف فضل يوسف ، عليه السلام ، وعلمه [ وحسن اطلاعه على رؤياه ]{[15200]} وحسن أخلاقه على من ببلده من رعاياه ، فقال { ائْتُونِي بِهِ } أي : أخرجوه من السجن وأحضروه . فلما جاءه الرسول بذلك امتنع من الخروج حتى يتحقق الملك ورعيته براءة ساحته ، ونزاهة عرضه ، مما نسب إليه من جهة امرأة العزيز ، وأن هذا السجن لم يكن على أمر يقتضيه ، بل كان ظلما وعدوانا ، قال : { ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ }
وقد وردت السنة بمدحه على ذلك ، والتنبيه على فضله وشرفه ، وعُلُوّ قدره وصبره ، صلوات الله وسلامه عليه ، ففي المسند والصحيحين من حديث الزهري ، عن سعيد وأبي سلمة ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [ البقرة : 260 ] ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي " {[15201]} وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو كنت أنا لأسرعت الإجابة ، وما ابتغيت العذر " {[15202]} .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا ابن عُيَيْنَة ، عن عمرو بن دينار ، عن عِكْرِمة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه ، والله يغفر له ، حين سُئل عن البقرات العِجاف والسِّمان ، ولو كنت مكانه ما أجبتهم حتى أشترط أن يخرجوني . ولقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه ، والله يغفر له ، حين أتاه الرسول ، ولو كنت مكانه لبادرتهم الباب ، ولكنه أراد أن يكون له العذر " . هذا حديث مرسل{[15203]}
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمّا جَآءَهُ الرّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىَ رَبّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النّسْوَةِ اللاّتِي قَطّعْنَ أَيْدِيَهُنّ إِنّ رَبّي بِكَيْدِهِنّ عَلِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : فلما رجع الرسول الذي أرسلوه إلى يوسف ، الذي قال : أنا أُنَبّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فأرْسِلُونِ فأخبرهم بتأويل رؤيا الملك عن يوسف ، علم الملك حقيقة ما أفتاه به من تأويل رؤياه وصحة ذلك ، وقال الملك : ائتوني بالذي عَبَر رؤياي هذه . كالذي :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : فخرج «نبو » من عند يوسف بما أفتاهم به من تأويل رؤيا الملك حتى أتى الملك ، فأخيره بما قال ، فلما أخبره بما في نفسه كمثل النهار وعرف أن الذي قال كائن كما قال ، قال : ائتوني به .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ ، قال : لما أتى الملكَ رسولُه ، قال : ائتوني به .
وقوله : فَلَمّا جاءَهُ الرّسُولُ يقول : فلما جاءه رسول الملك يدعوه إلى الملك ، قالَ ارْجِعْ إلى رَبّكَ يقول : قال يوسف للرسول : ارجع إلى سيدك فاسألْهُ ما بالُ النّسْوَةِ اللاّتِي قَطّعْنَ أيْدِيَهُنّ . وأبى أن يخرج مع الرسول وإجابة الملك حتى يعرف صحة أمره عندهم مما كانوا قذفوه به من شأن النساء ، فقال للرسول : سل الملك ما شأن النسوة اللاتي قطّعن أيدَيهن ، والمرأة التي سُجِنتُ بسببها كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : فَلَمّا جاءَهُ الرّسُولُ قالَ ارْجِعْ إلى رَبّكَ فاسألْهُ ما بالُ النّسْوَةِ اللاّتِي قَطّعْنَ أيْدِيَهُنّ والمرأة التي سجنت بسبب أمرها عما كان من ذلك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ ، قال : لما أتى الملك رسوله فأخبره قالَ ائْتُونِي بِهِ فلما أتاه الرسول ودعاه إلى الملك أبى يوسف الخروج معه ، وقال : ارْجِعْ إلى رَبّكَ فاسألْهُ ما بالُ النّسْوَةِ اللاّتِي قَطّعْنَ أيْدِيَهُنّ . . . الآية ، قال السديّ ، قال ابن عباس : لو خرج يوسف يومئذ قبل أن يعلم الملك بشأنه ، ما زالت في نفس العزيز منه حاجة ، يقول : هذا الذي راود امرأته .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن رجل ، عن أبي الزناد ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يَرْحَمُ اللّهُ يُوسُفَ إنْ كانَ ذَا أناةٍ ، لَوْ كُنْتُ أنا المَحْبُوسَ ثُمّ أُرْسِلَ إليّ لَخَرَجْتُ سَرِيعا ، إنْ كان لَحَلِيما ذَا أناةٍ » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، قال : حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو سلمة ، عن أبي هريرة قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لَوْ لَبِثْتُ فِي السّجْنِ ما لَبِثَ يُوسُفُ ثُمّ جاءَنِي الدّاعِي لأَجَبْتُهُ ، إذْ جاءَهُ الرّسُولُ فَقالَ ارْجِعْ إلى رَبّكَ فاسألْهُ ما بالُ النّسْوَةِ اللاّتِي قَطّعْنَ أيْدِيَهُنّ » . . . الآية .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني سليمان بن بلاد ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، بمثله .
حدثنا زكريا بن أبان المقريء ، قال : حدثنا سعيد بن تليد ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن القاسم ، قال : ثني بكر بن مُضَر ، عن عمرو بن الحارث ، عن يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لَوْ لَبِثْتُ فِي السّجْنِ ما لَبِثَ يُوسُفُ لاَءَجَبْتُ الدّاعِيَ » .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، وسعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، بمثله .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عفان بن مسلم ، قال : حدثنا حماد ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقرأ هذه الآية : ارْجِعْ إلى رَبّكَ فاسألْهُ ما بالُ النّسْوَةِ اللاّتِي قَطّعْنَ أيْدِيَهُنّ إنّ رَبّي بكَيْدِهُنّ عَليمٌ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لَوْ كُنْت أنا لأَسْرَعْتُ الإجابَةَ ، وَما ابْتَغَيْتُ العُذْرَ » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد ، عن ثابت ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم . ومحمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قرأ : ارْجِعْ إلى رَبّكَ فاسألْهُ ما بالُ النّسْوَةِ اللاّتِي قَطّعْنَ أيْدِيَهُنّ . . . . الآية ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لَوْ بُعِثَ إليّ لأَسْرَعْتُ فِي الإجابَةِ وَما ابْتَغَيْتُ العُذْرَ » .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَقَدْ عَجبْتُ مِنْ يُوسُفَ وَصَبْرِهِ وكَرَمِهِ ، وَاللّهُ يَغْفِرُ لَهُ حِينَ سُئِلَ عَن البَقَرَاتِ العِجافِ والسّمانِ ، وَلَوْ كُنْتُ مَكانَهُ ما أخْبَرْتُهُمْ بِشَيْءٍ حتى أشْتَرِطَ أنْ يُخْرِجُونِي وَلَقَدْ عَجِبْتُ مِنْ يُوسفَ وَصَبْرِهِ وكرَمِهِ واللّهُ يَغْفِرُ لَهُ حِينَ أتاهُ الرّسُولُ ، وَلَوْ كُنْتُ مَكانَهُ لَبادَرْتُهُمُ البابَ ، وَلكنّهُ أرَادَ أنْ يَكُونَ لَهُ العُذْرُ » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ارْجِعْ إلى رَبكَ فاسألْهُ ما بالُ النّسْوَةِ أراد نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أن لا يخرج حتى يكون له العذر .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : ارْجِعْ إلى رَبّكَ فاسألْهُ ما بالُ النّسْوَةِ اللاّتِي قَطّعْنَ أيْدِيَهُنّ قال : أراد يوسف العذر قبل أن يخرج من السجن .
وقوله : إنّ رَبّي بكَيْدِهِنّ عَلِيمٌ يقول : إن الله تعالى ذكره ذو علم بصنيعهنّ وأفعالهن التي فعلن بي ويفعلن بغيري من الناس ، لا يخفي عليه ذلك كله ، وهو من وراء جزائهنّ على ذلك . وقيل : إن معنى ذلك : إن سيدي إطفير العزيز زوج المرأة التي راودتني عن نفسي ذو علم ببراءتي مما قذفتني به من السوء .
في تضاعيف هذه الآية محذوفات يعطيها ظاهر الكلام ويدل عليها ، والمعنى هنا : فرجع الرسول إلى الملأ والملك فقص عليهم مقالة يوسف ، فرأى الملك وحاضروه نبل التعبير وحسن الرأي وتضمن الغيب في أمر العام الثامن ، مع ما وصفه به الرسول من الصدق في المنامة المتقدمة ، فعظم يوسف في نفس الملك ، { وقال ائتوني به } ، فلما وصل الرسول في إخراجه إليه ، وقال : إن الملك قد أمر بأن تخرج ، قال له : { ارجع إلى ربك } - أي الملك - وقل له : { ما بال النسوة } ومقصد يوسف عليه السلام إنما كان - وقل له : يستقصي عن ذنبي وينظر في أمري ، هل سجنت بحق أو بظلم . فرسم قصته بطرف منها إذا وقع النظر عليه بان الأمر كله . ونكب عن ذكر امرأة العزيز حسن عشرة ورعاية لذمام ملك العزيز له .
وقرأ أبو بكر عن عاصم وأبو حيوة «النُّسوة » بضم النون ، وقرأ الباقون «النِّسوة » بكسر النون . وهما لغتان في تكسير نساء الذي هو اسم جمع لا واحد له من لفظة . وقرأت فرقة «اللايي » بالياء ، وقرأ فرقة «اللاتي » بالتاء وكلاهما جمع التي .
وكان هذا الفعل من يوسف عليه السلام أناة وصبراً وطلباً لبراءة الساحة ، وذلك أنه فيما روي خشي أن يخرج وينال من الملك مرتبة ويسكت عن أمر ذنبه صفحاً ، فيراه الناس بتلك العين أبداً ، ويقولون : هذا الذي راود امرأة مولاه ، فأراد يوسف عليه السلام أن تبين براءته وتتحقق منزلته من العفة والخير ، وحينئذ يخرج للأخطاء والمنزلة ؛ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «يرحم الله أخي يوسف ، لقد كان صابراً حليماً ، ولو لبثت في السجن لبثه لأجبت الداعي ولم ألتمس العذر حينئذ »{[6724]} ، وروي نحو هذا الحديث من طريق عبد الرحمن بن القاسم صاحب مالك في كتاب التفسير من صحيح البخاري ، وليس لابن القاسم في الديوان غيره .
وهنا اعتراض ينبغي أن ينفصل عنه ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ، إنما ذكر هذا الكلام على جهة المدح ليوسف ، فما باله هو ، يذهب بنفسه عن حالة قد مدح بها غيره ، فالوجه في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخذ لنفسه وجهاً آخر من الرأي له جهة أيضاً من الجودة ، أي لو كنت أنا لبادرت بالخروج ثم حاولت بيان عذري بعد ذلك ؛ وذلك أن هذه القصص والنوازل إنما هي معرضة ليقتدي الناس بها يوم القيامة ، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم حمل الناس على الأحزم من الأمور ، وذلك أن المتعمق في مثل هذه النازلة التارك فرصة الخروج من مثل ذلك السجن ، ربما تنتج له من ذلك البقاء في سجنه ، وانصرفت نفس مخرجه عنه ، وإن كان يوسف عليه السلام أمن من ذلك بعلمه من الله فغيره من الناس لا يأمن ذلك ؛ فالحالة التي ذهب النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه إليها حالة حزم ومدح ، وما فعله يوسف عليه السلام صبر عظيم وجلد .
وقوله { إن ربي بكيدهن عليم } يحتمل أن يريد بالرب الله عز وجل ، وفي الآية وعيد - على هذا - وتهديد ، ويحتمل أن يريد بالرب العزيز مولاه ، ففي ذلك استشهاد به وتقريع له .
والضمير في { كيدهن } ل { النسوة } المذكورات لا للجنس لأنها حالة توقيف على ذنب .