تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وقال الملك}... {ائتوني به}، يعني: بيوسف، {فلما جاءه الرسول}، يعني: رسول الملك، وهو الساقي، {قال} له: {ارجع إلى ربك}، يعني: سيدك، {فسئله ما بال النسوة}... {التي قطعن أيديهن}، يعني: حززن أصابعهن بالسكين، {إن ربي بكيدهن}، يعني: بقولهن، {عليم}... وأراد يوسف، عليه السلام، أن يستبين عذره عند الملك قبل أن يخرج من السجن، ولو خرج يوسف حين أرسل إليه الملك قبل أن يبرئ نفسه، لم يزل متهما في نفس الملك، فمن ثم قال: {قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم}، فيشهدن أن امرأة العزيز قالت: {ولقد راودته عن نفسيه فاستعصم} [يوسف:32].
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فلما رجع الرسول الذي أرسلوه إلى يوسف، الذي قال:"أنا أُنَبّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فأرْسِلُونِ" فأخبرهم بتأويل رؤيا الملك عن يوسف، علم الملك حقيقة ما أفتاه به من تأويل رؤياه وصحة ذلك، وقال الملك: ائتوني بالذي عَبَر رؤياي هذه... وقوله: "فَلَمّا جاءَهُ الرّسُولُ "يقول: فلما جاءه رسول الملك يدعوه إلى الملك، "قالَ ارْجِعْ إلى رَبّكَ" يقول: قال يوسف للرسول: ارجع إلى سيدك "فاسألْهُ ما بالُ النّسْوَةِ اللاّتِي قَطّعْنَ أيْدِيَهُنّ"، وأبى أن يخرج مع الرسول وإجابة الملك حتى يعرف صحة أمره عندهم مما كانوا قذفوه به من شأن النساء، فقال للرسول: سل الملك ما شأن النسوة اللاتي قطّعن أيديهن، والمرأة التي سُجِنْتُ بسببها... حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن رجل، عن أبي الزناد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَرْحَمُ اللّهُ يُوسُفَ إنْ كانَ ذَا أناةٍ، لَوْ كُنْتُ أنا المَحْبُوسَ ثُمّ أُرْسِلَ إليّ لَخَرَجْتُ سَرِيعا، إنْ كان لَحَلِيما ذَا أناةٍ»...
عن ابن جريج، قوله: "ارْجِعْ إلى رَبّكَ فاسألْهُ ما بالُ النّسْوَةِ اللاّتِي قَطّعْنَ أيْدِيَهُنّ" قال: أراد يوسف العذر قبل أن يخرج من السجن.
وقوله: "إنّ رَبّي بكَيْدِهِنّ عَلِيمٌ" يقول: إن الله تعالى ذكره ذو علم بصنيعهنّ وأفعالهن التي فعلن بي ويفعلن بغيري من الناس، لا يخفى عليه ذلك كله، وهو من وراء جزائهنّ على ذلك...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) فيه دلالة أن قول يوسف للرجل: (اذكرني عند ربك) إنما طلب بذلك براءة نفسه في ما اتهم به، ليس كما قاله أهل التأويل؛ لأنه لو كان غير ذلك لكان لا يرد الرسول إليه...
يقال إن يوسف عليه السلام إنما لم يُجِبْهُمْ إلى الذهاب إلى الملك حتى ردَّ الرسول إليه بأن يسأل عن النسوة اللاتي قطّعن أيديهن لتظهر براءة ساحته، فيكون أجَلَّ في صدره عند حضوره وأقْرَبَ إلى قبول ما يدعوه إليه من التوحيد وقبول ما يشير به عليه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أراد عليه السلام ألا يلاحظه المِلكُ بعين الخيانة فيُسْقِطَه عيبُه من قلبه؛ فلا يؤثِّر فيه قوله، فلذلك توقَّفَ حتى يَظْهَرَ أمرُه للمَلِكِ وتنكشفَ براءةُ ساحته.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
إنما تأنى وتثبت في إجابة الملك، وقدّم سؤال النسوة ليظهر براءة ساحته عما قرف به وسجن فيه، لئلا يتسلق به الحاسدون إلى تقبيح أمره عنده، ويجعلوه سلماً إلى حط منزلته لديه، ولئلا يقولوا ما خلد في السجن سبع سنين إلا لأمر عظيم وجرم كبير حق به أن يسجن ويعذب ويستكف شرّه. وفيه دليل على أنّ الاجتهاد في نفي التهم واجب وجوب اتقاء الوقوف في مواقفها... وإنما قال: سل الملك عن حال النسوة ولم يقل سله أن يفتش عن شأنهن، لأنّ السؤال مما يهيج الإنسان ويحركه للبحث عما سئل عنه، فأراد أن يورد عليه السؤال ليجدّ في التفتيش عن حقيقة القصة وفصّ الحديث حتى يتبين له براءته بياناً مكشوفاً يتميز فيه الحق من الباطل... ومن كرمه وحسن أدبه: أنه لم يذكر سيدته مع ما صنعت به وتسببت فيه من السجن والعذاب، واقتصر على ذكر المقطعات أيديهنّ {إِنَّ رَبّي} إنّ الله تعالى: {بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} أراد أنه كيد عظيم لا يعلمه إلا الله، لبعد غوره. أو استشهد بعلم الله على أنهنّ كدنه، وأنه بريء مما قرف به، أو أراد الوعيد لهنّ، أي: هو عليم بكيدهنّ فمجازيهنّ عليه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وقال الملك} أي الذي العزيز في خدمته {ائتوني به} لأسمع ذلك منه وأكرمه، فأتاه الرسول ليأتي به إلى الملك {فلما جاءه} أي يوسف عليه الصلاة والسلام عن قرب من الزمان {الرسول} بذلك وهو الساقي {قال} له يوسف: {ارجع إلى ربك} أي سيدك الملك {فاسأله} بأن تقول له مستفهماً {ما بال النسوة} ولوح بمكرهن به ولم يصرح، ولا ذكر امرأة العزيز كرماً وحياء فقال: {التي قطعن أيديهن} أي ما خبرهن في مكرهن الذي خالطني، فاشتد به بلائي فإنهن يعلمن أن امرأة العزيز ما دعتهن إلا بعد شهادتهن بأنها راودتني، ثم اعترفت لهن بأنها راودتني، وأني عصيتها أشد عصيان، فإذا سألهن بان الحق، فإن ربك جاهل بأمرهن. ولما كان هذا موطناً يسأل فيه عن علم ربه سبحانه لذلك، قال مستأنفاً مؤكداً لأنهم عملوا في ذلك الأمر بالجهل عمل المكذب بالحساب الذي هو نتيجة العلم: {إن ربي} أي المدبر لي والمحسن إلي بكل ما أتقلب فيه من شدة ورخاء {بكيدهن} لي حين دعونني إلى طاعة امرأة العزيز {عليم} وأنا لا أخرج من السجن حتى يعلم ربك ما خفي عنه أمرهن الذي علمه ربي، لتظهر براءتي على رؤوس الأشهاد مما وصموني به من السجن الذي من شأنه أن لا يكون إلا عن جرم، وإن لم تظهر براءتي لم ينقطع عني كلام الحاسدين، ويوشك أن يسعوا في حط منزلتي عند الملك، ولئلا يقولوا: ما لبث هذا السجن إلا لذنب عظيم فيكون في ذلك نوع من العار لا يخفى، وفي هذا دليل على أن السعي في براءة العرض حسن، بل واجب، وأخرج الكلام على سؤال الملك عن أمرهن -لا على سؤاله في أن يفحص عن أمرهن- لأن سؤال الإنسان عن علم ما لم يعلم يهيجه ويلهبه إلى البحث عنه، بخلاف سؤاله في أن يفتش لغيره، ليعلم ذلك الغير، فأراد بذلك حثه لأن يجدّ في السؤال حتى يعلم الحق، ليقبل بعد ذلك جميع ما حدثه به؛ والكيد: الاحتيال في إيصال الضرر...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
وإنما لم يتعرض لامرأة العزيزِ مع ما لقِيَ من مقاساة الأحزان ومعاناة الأشجانِ محافظةً على مواجب الحقوق واحترازاً عن مكرها حيث اعتقدها مقيمةً في عُدوة العداوة، وأما النسوةُ فقد كان يطمع في صَدْعهن بالحق وشهادتِهن بإقرارها بأنها راودتْه عن نفسه فاستعصم ولذلك اقتصر على وصفهن بتقطيع الأيدي ولم يصرّح بمراودتهن له وقولِهن: أطع مولاتك واكتفى بالإيماء إلى ذلك بقوله: {إِنَّ رَبّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} مجاملةً معهن واحترازاً عن سوء قالتِهن عند الملكِ وانتصابِهن للخصومة مدافعةً عن أنفسهن متى سمعن بنسبته لهن إلى الفساد...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وقال الملك ائتوني به} لأسمع كلامه بأذني، واختبر تفصيل رأيه ودرجة عقله بنفسي {فلما جاءه الرسول} وبلغه أمر الملك {قال ارجع إلى ربك فاسأله} قبل شخوصي إليه ووقوفي بين يديه {ما بال النسوة التي قطعن أيديهن} أي ما حقيقة أمرهن معي، فالبال الأمر الذي يهتم به ويبحث عنه، فهو يقول سله عن حالهن ليبحث عنه ويعرف حقيقته فلا أحب أن آتيه وأنا متهم بقضية عوقبت عليها أو عقبها بالسجن وطال مكثي فيه وأنا غير مذنب فأقبل منه العفو {إن ربي بكيدهن عليم} وقد صرفه عني فلم يمسني منه سوء معهن، وربك لا يعلم ما علم ربي منه. وفي هذا التريث والسؤال فوائد جليلة في أخلاق يوسف عليه السلام وعقله وأدبه في سؤاله [منها] دلالته على صبره وأناته، وجدير بمن لقي ما لقي من الشدائد أن يكون صبورا حليما، فكيف إذا كان نبيا وارثا لإبراهيم الذي وصفه الله بالأواه الحليم؟ وفي حديث أبي هريرة في المسند والصحيحين مرفوعا (ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي) وفي لفظ لأحمد (لو كنت أنا لأسرعت الإجابة وما ابتغيت العذر)... [ومنها] عزة نفسه وحفظ كرامتها إذ لم يرض أن يكون منها بالباطل حتى يظهر براءته ونزاهته، [ومنها] وجوب الدفاع عن النفس وإبطال التهم التي تخل بالشرف كوجوب اجتناب مواقفها، [ومنها] مراعاته النزاهة بعدم التصريح بشيء من الطعن على النسوة وترك أمر التحقيق إلى الملك يسألهن ما بالهن قطعن أيديهن وينظر ما يجبن به، [ومنها] أنه لم يذكر سيدته معهن وهي أصل الفتنة وفاء لزوجها ورحمة بها، لأن أمر شغفها به كان وجدانا قاهرا لها، وإنما اتهمها أولا عند وقوفه موقف التهمة لدى سيدها وطعنها فيه دفاعا عن نفسه، فهو لم يكن له بد منه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهنا كذلك ينتقل السياق إلى المشهد التالي. تاركا فجوة بين المشهدين يكمل التصور ما تم فيها من حركة. ويرفع الستار مرة أخرى على مجلس الملك. ويحذف السياق ما نقله الساقي من تأويل الرؤيا، وما تحدث به عن يوسف الذي أولها. وعن سجنه وأسبابه والحال التي هو فيها.. كل أولئك يحذفه السياق من المشهد، لنسمع نتيجته من رغبة الملك في رؤية يوسف، وأمره أن يأتوه به: (وقال الملك: ائتوني به).. ومرة ثالثة في المشهد يحذف السياق جزئيات تفصيلية في تنفيذ الأمر. ولكنا نجد يوسف يرد على رسول الملك الذي لا نعرف: إن كان هو الساقي الذي جاءه أول مرة. أو رسولا تنفيذيا مكلفا بمثل هذا الشأن. نجد يوسف السجين الذي طال عليه السجن لا يستعجل الخروج حتى تحقق قضيته، ويتبين الحق واضحا في موقفه، وتعلن براءته -على الأشهاد- من الوشايات والدسائس والغمز في الظلام.. لقد رباه ربه وأدبه. ولقد سكبت هذه التربية وهذا الأدب في قلبه السكينة والثقة والطمأنينة. فلم يعد معجلا ولا عجولا! "إن أثر التربية الربانية شديد الوضوح في الفارق بين الموقفين: الموقف الذي يقول يوسف فيه للفتى: اذكرني عند ربك، والموقف الذي يقول له فيه: ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن، والفارق بين الموقفين بعيد.. (قال: ارجع إلى ربك فاسأله: ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن؟ إن ربي بكيدهن عليم) لقد رد يوسف أمر الملك باستدعائه حتى يستوثق الملك من أمره، وحتى يتحقق من شأن النسوة اللاتي قطعن أيديهن.. بهذا القيد.. تذكيرا بالواقعة وملابساتها وكيد بعضهن لبعض فيها وكيدهن له بعدها.. وحتى يكون هذا التحقق في غيبته لتظهر الحقيقة خالصة، دون أن يتدخل هو في مناقشتها.. كل أولئك لأنه واثق من نفسه، واثق من براءته، مطمئن إلى أن الحق لا يخفى طويلا، ولا يخذل طويلا. ولقد حكى القرآن عن يوسف استعمال كلمة (رب) بمدلولها الكامل، بالقياس إليه وبالقياس إلى رسول الملك إليه. فالملك رب هذا الرسول لأنه هو حاكمه الذي يدين لسلطانه. والله رب يوسف لأنه هو حاكمه الذي يدين لسلطانه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قال الملك: ائتوني به لما أبلغه الساقي صورة التعبير. والخطاب للملأ ليرسلوا مَن يعينونه لجلبه. ولذلك فرع عليه {فلما جاءه الرسول}. فالتقدير: فأرسلوا رسولاً منهم. وضميرا الغائب في قوله: {به} وقوله: {جاءه} عائدان إلى يوسف عليه السّلام. وضمير {قال} المستتر كذلك. وقد أبى يوسف عليه السّلام الخروج من السجن قبل أن تثبت براءته مما رمي به في بيت العزيز، لأن ذلك قد بلغ الملك لا محالة لئلا يكون تبريزه في التعبير الموجب لإطلاقه من السجن كالشفيع فيه فيبقى حديث قرفه بما قرف به فاشياً في الناس فيتسلق به الحاسدون إلى انتقاص شأنه عند الملك يوماً ما، فإن تبرئة العرض من التهم الباطلة مقصد شرعي، وليكون حضوره لدى الملك مرموقاً بعين لا تنظر إليه بشائبة نقص. وجعل طريق تقرير براءته مفتتحةً بالسؤال عن الخبر لإعادة ذكره من أوله، فمعنى {فاسألْه} بلَغ إليه سؤالاً من قِبلي. وهذه حكمة عظيمة تحق بأن يؤتسى بها. وهي تطلب المسجون باطلاً أن يَبقى في السجن حتى تتبين براءته من السبب الذي سجن لأجله، وهي راجعة إلى التحلي بالصبر حتى يظهر النصر. وقال النبي صلى الله عليه وسلم « لو لبثت ما لبث يوسف في السجن لأجبت الداعي» أي داعيَ الملك وهو الرسول الذي في قوله تعالى: {فلما جاءه الرسول}، أي لما راجعت الملك. فهذه إحدى الآيات والعبر التي أشار إليها قوله تعالى: {لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين} [سورة يوسف: 7]. والسؤال: مستعمل في التنبيه دون طلب الفهم، لأن السائل عالم بالأمر المسؤول عنه وإنما يريد السائل حث المسؤول عن علم الخبر. وقريب منه قوله تعالى: {عم يتساءلون} [سورة النبإ: 1]. وجعل السؤال عن النسوة اللاتي قطعن أيديهن دون امرأة العزيز تسهيلاً للكشف عن أمرها، لأن ذكرها مع مكانة زوجها من الملك ربما يصرف الملك عن الكشف رعياً للعزيز، ولأن حديث المُتّكأ شاع بين الناس، وأصبحت قضية يوسف عليه السّلام مشهورة بذلك اليوم، كما تقدم عند قوله تعالى: {ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه} [سورة يوسف: 35]، ولأن النسوة كن شواهد على إقرار امرأة العزيم بأنها راودت يوسف عليه السّلام عن نفسه. فلا جرم كان طلب الكشف عن أولئك النسوة منتهى الحكمة في البحث وغاية الإيجاز في الخطاب. وجملة {إن ربي بكيدهن عليم} من كلام يوسف عليه السّلام. وهي تذييل وتعريض بأن الكشف المطلوب سينجلي عن براءته وظهور كيد الكائدات له ثقة بالله ربه أنه ناصره. وإضافة كيد إلى ضمير النسوة لأدنى ملابسة لأن الكيد واقع من بعضهن، وهي امرأة العزيز في غرضها من جمع النسوة فأضيف إلى ضمير جماعتهن قصداً للإبهام المعين على التبيان...
ومعنى ذلك أن الساقي ذهب إلى مجلس الملك مباشرة، ونقل له تأويل الرؤيا، وأصر الملك أن يأتوا له بهذا الرجل؛ فقد اقتنع بأنه يجب الاستفادة منه؛ وعاد الساقي ليخرج يوسف من السجن الذي هو فيه. لكنه فوجئ برفض يوسف للخروج من السجن، وقوله لمن جاء يصحبه إلى مجلس الملك: {ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم (50)} [يوسف] وهكذا حرص يوسف على ألا يستجيب لمن جاء يخلصه من عذاب السجن الذي هو فيه؛ إلا إذا برئت ساحته براءة يعرفها الملك؛ فقد يكون من المحتمل أنهم ستروها عن أذن الملك. وأراد يوسف عليه السلام بذلك أن يحقق الملك في ذلك الأمر مع هؤلاء النسوة اللاتي قطعن أيديهن؛ ودعونه إلى الفحشاء. واكتفى يوسف بالإشارة إلى ذلك بقوله: {إن ربي بكيدهن عليم} ويخفي هذا القول في طياته ما قالته النسوة من قبل ليوسف بضرورة طاعة امرأة العزيز في طلبها للفحشاء. وهكذا نجد القصص القرآني وهو يعطينا العبرة التي تخدمنا في واقع الحياة؛ فليست تلك القصص للتسلية، بل هي للعبرة التي تخدمنا في قضايا الحياة. وبراءة ساحة أي إنسان هو أمر مهم؛ كي تزول أي ريبة من الإنسان قبل أن يسند إليه أي عمل. وهكذا طلب يوسف عليه السلام إبراء ساحته، حتى لا يقولن قائل في وشاية أو إشاعة "همزا أو لمزا ": أليس هذا يوسف صاحب الحكاية مع امرأة العزيز، وهو من راودته عن نفسه. وها هو رسولنا صلى الله عليه وسلم يقول: "عجبت لصبر أخي يوسف وكرمه –والله يغفر له- حيث أرسل إليه ليستفتي في الرؤيا، وإن كنت أنا لم أفعل حتى أخرج؛ وعجبت من صبره وكرمه –والله يغفر له- أتي ليخرج فلم يخرج حتى أخبرهم بعذره، ولو كنت أنا لبادرت الباب، ولكنه أحب أن يكون له العذر". وشاء نبينا صلى الله عليه وسلم أن يوضح لنا مكانة يوسف من الصبر وعزة النفس والنزاهة والكرامة فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الكريم، ابن الكريم، ابن الكريم، ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. قال –لو لبثت في السجن ما لبث، ثم جاءني الرسول أجبت ثم قرأ صلى الله عليه وسلم -. {فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن} وهكذا بين لنا الرسول صلى الله عليه وسلم مكانة يوسف من الصبر والنزاهة، وخشيته أن يخرج من السجن فيشار إليه: هذا من راود امرأة سيده. وفي قول الرسول صلى الله عليه وسلم إشارة إلى مبالغة يوسف في ذلك الأمر، وكان من الأحوط أن يخرج من السجن، ثم يعمل على كشف براءته. ومعنى ذلك أن الكريم لا يستغل المواقف استغلالا أحمق، بل يأخذ كل موقف بقدره ويرتب له؛ وكان يوسف واثقا من براءته، ولكنه أراد ألا يكون الملك آخر من يعلم. وصدق رسولنا صلى الله عليه وسلم حين قال: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة). وكان صلى الله عليه وسلم يرى أن الإيمان بالله يقتضي ألا يقف المؤمن موقف الريبة؛ لأن بعض الناس حين يرون نابها، قد تثير الغيرة من نباهته البعض؛ فيتقولون عليه. لذلك فعليك أن تحتاط لنفسك؛ بألا تقف موقف الريبة، والأمر الذي تأتيك منه الريبة؛ عليك أن تبتعد عنه. ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فقد جاءته زوجه صفية بن حيي تزوره وهو معتكف في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثت عنده ساعة من العشاء، ثم قامت تنقلب –أي: تعود إلى حجرتها- فقام معها رسول الله، صلى الله عليه وسلم حتى إذا بلغت باب المسجد الذي عند مسكن أم سلمة زوج رسول صلى الله عليه وسلم، مر بهما رجلان من الأنصار فسلما على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نفذا، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على رسلكما، إنما هي صفية بنت حيي، قالا: سبحان الله يا رسول الله، وكبر عليهما ما قال. قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مبلغ الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما"...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لقد كان تعبير يوسف لرؤيا الملك كما قُلنا دقيقاً ومدروساً ومنطقياً إلى درجة أنّه جذب الملك وحاشيته إليه، إذ كان يرى أنّ سجيناً مجهولا عبّر رؤياه بأحسن تعبير وتحليل، دون أن ينتظر أيّ أجر أو يتوقّع أمراً ما.. كما أنّه أعطى للمستقبل خطّة مدروسة أيضاً. لقد فهم الملك إجمالا أنّ يوسف لم يكن رجلا يستحقّ السجن، بل هو شخص أسمى مقاماً من الإنسان العادي، دخل السجن نتيجة حادث خفيّ، لذلك تشوّق لرؤيته، ولكن لا ينبغي للملك أن ينسى غروره ويسرع إلى زيارته، بل أمر أن يُؤتى به إليه كما يقول القرآن: (وقال الملك ائتوني به فلمّا جاءه الرّسول) لم يوافق يوسف على الخروج من السجن دون أن يثبت براءته، فالتفت إلى رسول الملك و (قال ارجع إلى ربّك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطّعن أيديهنّ) إذن.. فيوسف لم يرغب أن يكون كأي مجرم، أو على الأقل كأي متّهم يعيش مشمولا ب«عفو الملك».. لقد كان يرغب أوّلا أن يُحقّق في سبب حبسه، وأن تثبت براءته وطهارة ذيله، ويخرج من السجن مرفوع الرأس، كما يُثبت ضمناً تلوّث النظام الحكومي وما يجري في قصر وزيره!. أجل لقد اهتمّ بكرامة شخصيته وشرفه قبل خروجه من السجن، وهذا هو نهج الأحرار. الطريف هنا أنّ يوسف في عبارته هذه أبدى سمواً في شخصيته إلى درجة أنّه لم يكن مستعدّاً لأنّ يصرّح باسم امرأة العزيز التي كانت السبب المباشر في اتهامه وحبسه، بل اكتفى بالإشارة إلى جماعة النسوة اللاتي لهنّ علاقة بهذا الموضوع فحسب. ثمّ يضيف يوسف: إذا لم يعلم سبب سجني شعب مصر ولا جهازه الحكومي وبأي سبب وصلت السجن، فالله مطّلع على ذلك (إنّ ربّي بكيدهن عليم).