السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَقَالَ ٱلۡمَلِكُ ٱئۡتُونِي بِهِۦۖ فَلَمَّا جَآءَهُ ٱلرَّسُولُ قَالَ ٱرۡجِعۡ إِلَىٰ رَبِّكَ فَسۡـَٔلۡهُ مَا بَالُ ٱلنِّسۡوَةِ ٱلَّـٰتِي قَطَّعۡنَ أَيۡدِيَهُنَّۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيۡدِهِنَّ عَلِيمٞ} (50)

{ وقال الملك } ، أي : الذي العزيز في خدمته { ائتوني به } لأسمع ذلك منه وأكرمه وهذا يدلّ على فضيلة العلم فإنه سبحانه وتعالى جعل علمه سبباً لخلاصه من المحنة الدنيوية ، فكيف لا يكون العلم سبباً للخلاص من المحن الأخروية ؟ فأتاه الرسول ليأتي به إلى الملك { فلما جاءه } ، أي : يوسف عليه السلام عن قرب من الزمان { الرسول } بذلك وهو الساقي وقال له : أجب الملك { قال } له يوسف عليه السلام { ارجع إلى ربك } ، أي : سيدك الملك ، ولم يخرج معه حتى يظهر برهانه للملك ولا يراه بعين النقص ولذلك قال : { فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهنّ } وإنما قال يوسف عليه السلام : فاسأله ما بال النسوة ، ولم يقل : فاسأله أن يفتش عن حالهنّ ؛ لأنّ قوله : فاسأله يحتمل أن يكون بمعنى المسألة ، أي : اسأله عن شأنهنّ وأن يكون بمعنى الطلب ، وهو أن يفتش عن شأنهنّ فحسن تقييده بلفظ ما التي يسأل بها عن حقيقة الشيء ليهيجه أن يتحرك للتفتيش عن حالهنّ ؛ لأنّ الإنسان حريص على تحقيق الشيء ويستنكف أن ينسب إلى الجهل به بخلاف ما لو قال : سله أن يفتش ، أي : اطلب منه فإنه لا يبالي بهذا الطلب ولا يلتفت إليه لاسيما الملوك .

وإنما لم يتعرّض لسيدته مع ما صنعته به كرماً ومراعاة للأدب ، وقدّم سؤال النسوة وفحص حالهنّ لتظهر براءة ساحته ؛ لأنه لو خرج في الحال لربما كان يبقى في قلب الملك من تلك التهمة أثر ، فلما التمس من الملك أن يفحص عن حال تلك الواقعة دل ذلك على براءته من تلك التهمة ، فبعد خروجه لا يقدر أحد أن يلطخه بتلك الرذيلة وأن يتوصل بها إلى الطعن فيه ، وفي ذلك دليل على أنه ينبغي للشخص أن يجتهد في نفي التهم ويتقي مواقعها وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : «لقد عجبت من يوسف وصبره والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه ما أجبتهم حتى اشترطت أن يخرجوني ، ولقد عجبت منه حيث أتاه الرسول فقال : ارجع إلى ربك ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث لأسرعت الإجابة وبادرتهم الباب ولما ابتغيت العذر ، إن كان لحليماً ذا أناة » . وأصل الحديث في الصحيحين مختصراً ، وإنما قال صلى الله عليه وسلم ذلك على سبيل التواضع لا أنه صلى الله عليه وسلم كان في الأمر منه مبادرة وعجلة لو كان مكان يوسف ، والتواضع لا يصغر كبيراً ولا يضع رفيعاً ولا يبطل لذي حق حقه ، لكنه يوجب لصاحبه فضلاً ويلبسه جلالة وقدراً ، وقوله : «والله يغفر له » مثل هذه المقدمة مشعرة بتعظيم المخاطب من توقيره وتوقير حرمته كما تقول لمن تعظمه : عفا الله عنك ما صنعت في أمري ، ورضي الله تعالى عنك ما جوابك عن كلامي ، وقوله : «إن كان لحليماً » إن هي المخففة من الثقيلة ، والأناة الوقار ، وقيل : هو اسم من التأني في الأمور . وقرأ ابن كثير والكسائي بفتح السين ولا همزة بعدها ، والباقون بسكون السين وهمزة مفتوحة بعدها { إنّ ربي } ، أي : الله { بكيدهنّ عليم } حين قلن أطع مولاتك ، وفيه تعظيم كيدهنّ والاستشهاد بعلم الله تعالى عليه وأنه بريء مما عيب به ، والوعيد لهنّ على كيدهنّ ، وقيل : المراد بربي الملك ، وجعله رباً لنفسه لكونه مربياً له ، وفيه إشارة إلى كون ذلك الملك عالماً بكيدهنّ ومكرهنّ .