اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَقَالَ ٱلۡمَلِكُ ٱئۡتُونِي بِهِۦۖ فَلَمَّا جَآءَهُ ٱلرَّسُولُ قَالَ ٱرۡجِعۡ إِلَىٰ رَبِّكَ فَسۡـَٔلۡهُ مَا بَالُ ٱلنِّسۡوَةِ ٱلَّـٰتِي قَطَّعۡنَ أَيۡدِيَهُنَّۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيۡدِهِنَّ عَلِيمٞ} (50)

قوله تعالى : { وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ } الآية .

اعلم أنَّ الساقي لما رجع إلى الملك ، وأخبره بما أفتاه يوسف من تأويل رؤياه ، وعرف الملك أنَّ الذي قاله كائنٌ قال ائتُونِي به ، فلمَّا جَاءه الرسُول قال : أجب الملكَ ، فأبى أن يخرج مع الرسول ، حتَّى تظهر براءته ، فقال للرسول : ارْجِعْ إلى ربِّكَ ، أي : سيِّدك ، قال عليه الصلاة السلام : " عَجِبْتُ مِن يُوسفَ وكَرمهِ وصَبْرهِ واللهُ يَغْفرُ لهُ حِينَ سُئِلَ عَنِ البَقراتِ العِجِافِ والسِّمانِ ، ولوْ كُنْتُ مَكانَهَ ما أخْبرْتُهمْ حتَّى أشْترطَ أنْ يُخْرِجُونِي ولقَدْ عِجِبْتُ منهُ حِينَ أتاهُ الرَّسولُ فقَال لَهُ : ارْجِعْ إلى ربِّك ، ولوْ كُنْتُ مَكَانَهُ ولَبِثْتُ في السِّحن طول ما لبِثَ لأسْرعْتُ إلى الإجَابةِ وبَادرتُهثم البَابَ " .

قال ابن الخطيب : الذي فعله يوسف عليه الصلاة والسلام ت من الصَّبر ، والتَّوقٌُّف إلى أن يفحص الملك عن حاله ، هو الأليقُ بالحزم والعقل ، وبيانه من وجوه :

الأول : أنه لو خرج في الحالِ ، فربما كان يبقى في قلب الملك أثر ما ، فلما التمس من الملكِ أن يفحص عن حال تلك الواقعةِ ، دلَّ ذلك على براءته من التهمةِ ، فبعد خروجه لا يقدر أحدٌ أن يلطِّخه بتلك الرذيلة ، وأن يتوصل بها إلى الطعن فيه .

والثاني : أن الإنسان الذي يبقى في [ السجن ] اثنتي عشرة سنةً ، إذا طلبه الملك ، وأمر بأخراجه ، فالظاهر أنه يبادرُ إلى الخروكج ، فحيث يخرج ، عرف منه أنه في نهايةِ العقلِ ، والصَّبر ، والثباتِ ؛ وذلك [ يكون ] سبباً لاعتقادِ البراءةِ فيه عن جميع أنواع التهم ، وأن يحكم بأنَّ كلَّ ما قيل فيه ، كان كذباً .

الثالث : أن التماسهُ من الملك أن يفحص عن حاله من تلك النسوةِ ، يدل أيضاً على شدَّة طهارته ، إذ لو كان ملوثاً بوجه ما ، لكان يخاف أن يذكر ما سبق .

الرابع : أنه قال للشَّرابي : " اذكُرْنِي عندَ ربِّكَ " فبقي بسبب هذه الكلمة في السجن [ بضع ] سنين ، وهنا طلبهُ الملك فلم يلتفت إليه ، ولم يقمْ لطلبه وزناً ، واشتغل بإظهار براءته من التُّهمةِ ، ولعلَّه كان غرضه عليه الصلاة والسلام من ذلك ألاَّ يبقى في قلبه التفاتٌ إلى ردِّ الملك وقبوله ، وكان هذا العمل جارياً مجرى التَّلافي ، لما صدر منه من التوسُّلِ إليه ، في قوله : " اذْكُرنِي عِندَ ربِّك " ، وليظهر هذا المعنى لذلك الشرابي ؛ فإنه هو الذي كان واسطةً في الحالين معاً .

قوله : { فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النسوة } قرأ ابن كثير ، والكسائي : " فَسَلهُ " ، بغير همز ، والباقون : بالهمز ؛ وهما لغتان .

والعامة على كسر نونِ " النِّسوةِ " وضمها عاصم في رواية أبي بكرٍ رضي الله عنهما وليست بالمشهورة ، وكذلك قرأها أبو حيوة .

وقرىء " اللاَّئِي " بالهمز ، وكلاهما جمع ل : " الَّتي " ، و " الخَطْبُ " : الأمْرُ والشَّأن الذي فيه خطرٌ ؛ وأنشد [ الطويل ]

3115 ومَا المَرْءُ ما دَامتْ حُشَاشَةُ نَفْسهِ *** بمُدْرِك أطرْافِ الخُطوبِ ولا آلِ

وهو في الأصل مصدر : خَطَبَ يُخْطبُ وإنَّما يُخْطَبُ في الأمور العظام .

فصل ما في الآية من لطائف

أولها : أنَّ المعنى ؛ قوله تعالى { فَاسْأَلْهُ } سئل الملك { مَا بَالُ النسوة } ليعلم براءتي من تلك التهمة إلا أنَّه اقتصر على سؤال الملك عن تلك الواقعة ؛ لئلاًَ يشتمل اللفظ على ما يجرى مجرى أمر الملك بعمل أو فعلٍ .

وثانيها : أنَّه لم يذكر سيدته مع أنها التي سعت في إلقائه في السجن الطويل ، بل اقتصر على ذكر سائر النسوة .

وثالثها : أنَّ الظاهر أن أولئك النسوة نسبنه إلى عملٍ قبيحٍ عند الملك ، فاقتصر يوسف عليه الصلاة والسلام على مجرَّد قوله : { مَا بَالُ النسوة اللاتي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } ، وما شكى منهم على سبيل التَّعيين ، والتفصيل .

ثم قال يوسف عليه الصلاة والسلام { إنّ ربي بكيدهن عليم } .

وفي المراد بقوله " إنَّ ربِّي " وجهان :

أحدهما : أنه هو الله تعالى فإنه هو العالم بخفيَّات الأمور .

والثاني : المراد به الملك ، وجعله ربًّا ؛ لكونه مربِّياً ، وفيه إشارةٌ إلى كون ذلك الملك عالماً بمكرهنَّ وكيدهنَّ .

واعلم أنَّ كيدهن في حقه يحتمل وجوهاً :

أحدها : أنَّ كل واحدٍ منهن طمعت فيه ، فلما لم يجدن المطلوب أخذن يطعن فيه ، وينسبنه إلى القبيح .

وثانيها : لعلَّ كلَّ واحدةٍ منهمن بالغت في ترغيب يوسف في موافقته سيدته على مرادها ، ويوسف علم أنَّ مثل هذه الخيانة في حقِ السَّيِّد المنعم لا تجوزُ .

وثالثها : أنه استخرجد منهنَّ وجوهاً من المكرِ والحيل في تقبيح صورة يوسف عند الملك ، فكان المراد منهم اللفظ ذلك .