فكما أن المنافقين في الدنيا يموهون على المؤمنين ، ويحلفون لهم أنهم مؤمنون ، فإذا كان يوم القيامة وبعثهم الله جميعا ، حلفوا لله كما حلفوا للمؤمنين ، ويحسبون في حلفهم هذا أنهم على شيء ، لأن كفرهم ونفاقهم وعقائدهم الباطلة ، لم تزل ترسخ في أذهانهم شيئا فشيئا ، حتى غرتهم وظنوا أنهم على شيء يعتد به ، ويعلق عليه الثواب ، وهم كاذبون في ذلك ، ومن المعلوم أن الكذب لا يروج على عالم الغيب والشهادة .
ثم قال :{ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا } أي : يحشرهم يوم القيامة عن آخرهم فلا يغادر منهم أحدًا ، { فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ } أي : يحلفون بالله{[28467]} عز وجل ، أنهم كانوا على الهدى والاستقامة ، كما كانوا يحلفون للناس في الدنيا ؛ لأن من عاش على شيء مات عليه وبعث عليه ، ويعتقدون أن ذلك ينفعهم عند الله كما كان ينفعهم عند الناس ، فيجرون عليهم الأحكام الظاهرة ؛ ولهذا قال :{ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ } أي : حلفهم ذلك لربهم ، عز وجل .
ثم قال منكرًا عليهم حسبانهم{[28468]}{ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ } فأكد الخبر عنهم بالكذب .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن نفيل ، حدثنا زهير ، عن{[28469]} سمَاك بن حرب ، حدثني سعيد بن جُبَير ؛ أن ابن عباس حدثه : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في ظل حجرة من حُجَره ، وعنده نفر من المسلمين قد كان يَقلصُ عنهم الظل ، قال : " إنه سيأتيكم إنسان ينظر بعيني شيطان ، فإذا أتاكم فلا تكلموه " . فجاء رجل أزرق ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه ، فقال : " علام تشتمني أنت وفلان وفلان ؟ " - نفر دعاهم بأسمائهم - قال : فانطلق الرجل فدعاهم ، فحلفوا له واعتذروا إليه ، قال فأنزل الله ، عز وجل :{ فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ } . وهكذا رواه الإمام أحمد من طريقين ، عن سماك ، به{[28470]} ، ورواه ابن جرير ، عن محمد بن المثنى ، عن غُنْدَر ، عن شعبة ، عن سماك ، به نحوه{[28471]} ، وأخرجه أيضًا من حديث سفيان الثوري ، عن سماك ، بنحوه . إسناد جيد ولم يخرجوه .
وحال هؤلاء كما أخبر الله تعالى عن المشركين حيث يقول :{ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } [ الأنعام : 23 ، 24 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّهِ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنّهُمْ عَلَىَ شَيْءٍ أَلاَ إِنّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ } .
يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين ذكرهم هم أصحاب النار ، يوم يبعثهم الله جميعا ، فيوم من صلة أصحاب النار ، وعُني بقوله { يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ اللّهُ جَمِيعا }من قبورهم أحياء كهيئاتهم قبل مماتهم ، فيحلفون له كما يحلفون لكم كاذبين مبطلين فيها ، كما حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : فَيَحْلِفُونَ لَهُ قال : إن المنافق حلف له يوم القيامة كما حلف لأوليائه في الدنيا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّهُ جَمِيعا . . . }الآية ، والله حالفَ المنافقون ربهم يوم القيامة ، كما حالفوا أولياءه في الدنيا .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن سماك بن حرب البكري ، عن سعيد بن جُبَير ، قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم في ظلّ حجرة قد كاد يَقْلِصُ عنه الظلّ ، فقال : «إنّهُ سَيأْتِيكُمْ رَجُلٌ ، أو يَطْلُعُ رَجُلٌ بعَيْنِ شَيْطانٍ فَلا تُكَلّمُوهُ » فلم يلبث أن جاء ، فاطلع فإذا رجل أزرق ، فقال له : «عَلامَ تَشْتُمُنِي أنْتَ وَفُلانٌ وَفُلانٌ » ؟ قال : فذهب فدعا أصحابه ، فحلفوا ما فعلوا ، فنزلت : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ اللّهُ جَمِيعا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيحْسَبُونَ أنّهُمْ على شَيْءٍ ألا إنّهُمْ هُمُ الكاذبُونَ } .
وقوله : { وَيحْسَبُونَ أنّهُمْ على شَيْءٍ }يقول : ويظنون أنهم في أيمانهم وحلفهم بالله كاذبين على شيء من الحقّ ، { ألا إنّهُمْ هُمُ الكاذِبُونَ }فيما يحلفون عليه .
والعامل في قوله { يوم يبعثهم } ، { أصحاب } على تقدير فعل ، وأخبر الله تعالى عنهم في هذه الآية أنه ستكون لهم أيمان يوم القيامة وبين يدي الله يخيل إليهم بجهلهم أنها تنفعهم وتقبل منهم ، وهذا هو حسابهم { أنهم على شيء } ، أي على فعل نافع لهم ، وقال ابن عباس في كتاب الثعلبي : قال النبي عليه السلام : «ينادي مناد يوم القيامة : أين خصماء الله ، فتأتي القدرية مسودة وجوههم زرقة أعينهم ، فيقولون والله ما عبدنا شمساً ولا قمراً ولا صنماً ولا اتخذنا من دونك ولياً » ، قال ابن عباس : صدقوا والله ولكن أتاهم الإشراك من حيث لا يعلمون ، ثم تلا ابن عباس هذه الآية .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.