معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَءَاتُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰٓ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَتَبَدَّلُواْ ٱلۡخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِۖ وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَهُمۡ إِلَىٰٓ أَمۡوَٰلِكُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حُوبٗا كَبِيرٗا} (2)

قوله تعالى : { وآتوا اليتامى أموالهم } . قال مقاتل والكلبي : نزلت في رجل من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم ، فلما بلغ اليتيم طلب المال فمنعه عمه فترافعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية فلما سمعها العم قال : أطعنا الله وأطعنا الرسول نعوذ بالله من الحوب الكبير ، فدفع إليه ماله فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فإنه يحل داره ، يعني جنته ، فلما قبض الفتى ماله أنفقه في سبيل الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ثبت الأجر وبقي الوزر ، فقالوا : كيف بقي الوزر ؟ فقال : ثبت الأجر للغلام ، وبقي الوزر على والده ، وقوله { وآتوا } خطاب للأولياء والأوصياء ، واليتامى : جمع يتيم ، واليتيم : اسم لصغير لا أب له ولا جد وإنما يدفع المال إليهم بعد البلوغ ، وسماهم يتامى ها هنا على معنى انهم كانوا يتامى .

قوله تعالى { ولا تتبدلوا } . لا تستبدلوا .

قوله تعالى : { الخبيث بالطيب } . أي : مالهم الذي هو حرام عليكم بالحلال من أموالكم ، واختلفوا في هذا التبديل ، قال سعيد بن المسيب والنخعي والزهري والسدي : كان أولياء اليتامى يأخذون الجيد من مال اليتيم ويجعلون مكانه الردئ فربما كان أحد يأخذ الشاة السمينة من مال اليتيم ويجعل مكانها المهزولة ، ويأخذ الدرهم الجيد ويجعل مكانه الزيف ويقول : درهم بدرهم ، فنهوا عن ذلك وقيل : كان أهل الجاهلية لا يورثون السناء والصبيان ويأخذ الأكبر الميراث ، فنصيبه من الميراث طيب ، وهذا الذي يأخذه خبيث ، وقال مجاهد : لا تتعجل الرزق الحرام قبل أن يأتيك الحلال .

قوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } . أي : مع أموالكم ، كقوله تعالى { من أنصاري إلى الله } ، أي : مع الله .

قوله تعالى : { إنه كان حوباً كبيراً } . إثماً عظيماً .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَءَاتُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰٓ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَتَبَدَّلُواْ ٱلۡخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِۖ وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَهُمۡ إِلَىٰٓ أَمۡوَٰلِكُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حُوبٗا كَبِيرٗا} (2)

{ وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا }

وقوله تعالى : { وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا } هذا أول ما أوصى به من حقوق الخلق في هذه السورة . وهم اليتامى الذين فقدوا آباءهم الكافلين{[183]}  لهم ، وهم صغار ضعاف لا يقومون بمصالحهم .

فأمر الرءوف الرحيم عباده أن يحسنوا إليهم ، وأن لا يقربوا أموالهم إلا بالتي هي أحسن ، وأن يؤتوهم أموالهم إذا بلغوا ورشدوا ، كاملة موفرة ، وأن لا { تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ } الذي هو أكل مال اليتيم بغير حق . { بِالطَّيِّبِ } وهو الحلال الذي ما فيه حرج ولا تبعة . { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ } أي : مع أموالكم ، ففيه تنبيه لقبح أكل مالهم بهذه الحالة ، التي قد استغنى بها الإنسان بما جعل الله له من الرزق في ماله . فمن تجرأ على هذه الحالة ، فقد أتى { حُوبًا كَبِيرًا } أي : إثمًا عظيمًا ، ووزرًا جسيمًا .

ومن استبدال الخبيث بالطيب أن يأخذ الولي من مال اليتيم النفيس ، ويجعل بدله من ماله الخسيس . وفيه الولاية على اليتيم ، لأن مِنْ لازم إيتاء اليتيم ماله ، ثبوت ولاية المؤتي على ماله .

وفيه الأمر بإصلاح مال اليتيم ، لأن تمام إيتائه ماله حفظه والقيام به بما يصلحه وينميه وعدم تعريضه للمخاوف والأخطار .


[183]:- كذا في ب، وفي أ: الذين فقدت آباؤهم الكافلون.
 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَءَاتُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰٓ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَتَبَدَّلُواْ ٱلۡخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِۖ وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَهُمۡ إِلَىٰٓ أَمۡوَٰلِكُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حُوبٗا كَبِيرٗا} (2)

يأمر تعالى بدفع أموال اليتامى إليهم إذا بلغوا الحُلُم كاملة موفرة ، وينهى عن أكلها وضَمِّها إلى أموالهم ؛ ولهذا قال : { وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ } قال سفيان الثوري ، عن أبي صالح : لا تعْجل بالرزق الحرام قبل أن يأتيك الرزق الحلال الذي قدر لك .

وقال سعيد بن جبير : لا تبَدَّلوا الحرام من أموال الناس بالحلال من أموالكم ، يقول : لا تبذروا أموالكم الحلال وتأكلوا أموالهم الحرام .

وقال سعيد بن المسيّب والزهري : لا تُعْط مهزولا وتأخذ سمينا .

وقال إبراهيم النَّخَعِي والضحاك : لا تعط زائفًا وتأخذ جيدًا .

وقال السُّدِّي : كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غَنم اليتيم ، ويجعل فيها مكانها الشاة المهزولة ، ويقول{[6531]} شاة بشاة ، ويأخذ الدرهم الجَيِّد ويطرح مكانه الزّيْف ، ويقول : درهم بدرهم .

وقوله : { وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ } قال مجاهد ، وسعيد بن جبَيْر ، ومقاتل بن حَيَّان ، والسّدي ، وسفيان بن حُسَين : أي لا تخلطوها فتأكلوها جميعا .

وقوله : { إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا } قال ابن عباس : أي إثمًا كبيرًا عظيما .

وقد رواه ابن مَرْدُويه ، عن أبي هريرة قال : سئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله : { حُوبًا كَبِيرًا } قال : " إثما كبيرًا " . ولكن في إسناده محمد بن يونس الكُدَيْمي وهو ضعيف{[6532]} وهكذا رُوي عن مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وابن سيرين ، وقتادة ، والضحاك ، ومقاتل بن حيان ، وأبي مالك ، وزيد بن أسلم ، وأبي سِنَان مثل قول ابن عباس .

وفي الحديث المروي في سنن أبي داود : " اغفر لنا حوبنا وخطايانا " .

وروى ابن مَرْدويه بإسناده إلى واصل ، مولى أبي عيينة ، عن محمد بن سِيرِين ، عن ابن عباس : أن أبا أيوب طَلَّق امرأته ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " يا أبا أيوب ، إن طلاق أم أيوب كان حوبا " قال{[6533]} ابن سيرين : الحوب الإثم{[6534]} .

ثم قال ابن مردويه : حدثنا عبد الباقي ، حدثنا بشر بن موسى ، أخبرنا هَوْذَة بن خليفة ، أخبرنا عَوْف ، عن أنس : أن أبا أيوب أراد طلاق أم أيوب ، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " إن طلاق أم أيوب لحوب فأمسكها " {[6535]} ثم رواه{[6536]} ابن مردويه والحاكم في مستدركه من حديث علي بن عاصم ، عن حُمَيد الطويل ، سمعت أنس بن مالك يقول : أراد أبو طلحة أن يطلق أم سُليم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن طلاق أم سليم لحوب " فكف{[6537]} .

والمعنى : إن أكلكم أموالهم مع أموالكم إثم عظيم وخطأ كبير فاجتنبوه .


[6531]:في أ: "فيقول".
[6532]:وقال ابن عدي: قد اتهم بالوضع، وقال ابن حبان: لعله وضع أكثر من ألف حديث وقال أبو عبيد الآجري: رأيت أبا داود يطلق في الكديمي الكذب.
[6533]:في أ: "وقال".
[6534]:ورواه الطبراني في المعجم الكبير (12/196) من طريق يحيى الحماني عن حماد بن زيد عن واصل مولى أبي عيينة عن محمد بن سيرين عن ابن عباس أن أبا أيوب أراد أن يطلق أم أيوب فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن طلاق أم أيوب لحوب" قال ابن سيرين: الحوب الإثم، قال الهيثمي في المجمع (9/262): "فيه يحيى الحماني وهو ضعيف".
[6535]:هذا مرسل، وأخرجه أبو داود في المراسيل برقم (233) عن وهب بن بقية عن خالد عن عوف عن أنس بن سيرين به. وأخرجه إبراهيم الحربي في غريب الحديث كما في تخريج الكشاف للزيلعي (1/279) من طريق جرير عن واصل عن أنس بن سيرين به.
[6536]:في أ: "ورواه"
[6537]:المستدرك (2/302) ومن طريق البيهقي في السنن الكبرى (7/323) وقال الحاكم: صحيح وتعقبه الذهبي: "لا والله فيه على بن عاصم وهو واه".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَءَاتُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰٓ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَتَبَدَّلُواْ ٱلۡخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِۖ وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَهُمۡ إِلَىٰٓ أَمۡوَٰلِكُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حُوبٗا كَبِيرٗا} (2)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَآتُواْ الْيَتَامَىَ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطّيّبِ وَلاَ تَأْكُلُوَاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىَ أَمْوَالِكُمْ إِنّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً } .

قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره أوصياء اليتامى ، يقول لهم : وأعطوا يا معشر أوصياء اليتامى أموالهم ، إذا هم بلغوا الحلم وأونس منهم الرشد . { وَلا تَتَبَدّلُوا الخَبِيثَ بالطّيّبِ } يقول : ولا تستبدلوا الحرام عليكم من أموالهم بأموالكم الحلال لكم . كما :

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى : { وَلا تَتَبَدّلُوا الخَبِيثَ بالطّيّبِ } قال : الحلال بالحرام .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني سفيان ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : { وَلا تَتَبَدّلُوا الخَبِيثَ بالطّيّبِ } قال : الحرام مكان الحلال .

قال أبو جعفر : ثم اختلف أهل التأويل في صفة تبديلهم الخبيث بالطيب الذي نهوا عنه ومعناه ، فقال بعضهم : كان أوصياء اليتامى يأخذون الجيد من ماله والرفيع منه ، ويجعلون مكانه لليتيم الرديء والخسيس ، فذلك تبديلهم الذي نهاهم الله تعالى عنه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : { وَلا تَتَبَدّلُوا الخَبِيثَ بالطّيّبِ } قال : لا تعط زيفا وتأخذ جيدا .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن السديّ ، وعن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ومعمر ، عن الزهري ، قالوا : يعطي مهزولاً ويأخذ سمينا .

وبه عن سفيان ، عن رجل ، عن الضحاك ، قال : لا تعط فاسدا وتأخذ جيدا .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَلا تَتَبَدّلُوا الخَبِيثَ بالطّيّبِ } كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم ، ويجعل مكانها الشاة المهزولة ، ويقول : شاة بشاة . ويأخذ الدرهم الجيد ، ويطرح مكانه الزيف ، ويقول : درهم بدرهم .

وقال آخرون : معنى ذلك : لا تستعجل الرزق الحرام فتأكله قبل أن يأتيك الذي قدّر لك من الحلال . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَلا تَتَبَدّلُوا الخَبِيثَ بالطّيّبِ } قال : لا تعجل بالرزق الحرام قبل أن يأتيك الحلال الذي قدّر لك .

وبه عن سفيان ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح مثله .

وقال آخرون : معنى ذلك كالذي :

حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَلا تَتَبَدّلُوا الخَبِيثَ بالطّيّبِ } قال : كان أهل الجاهلية لا يورّثون النساء ، ولا يورّثون الصغار يأخذه الأكبر . وقرأ : { وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ } قال : إذا لم يكن لهم شيء ، { والمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الوِلْدَانِ } لا يورثوهم ، قال ، فنصيبه من الميراث طيب ، وهذا الذي أخذه خبيث .

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الاَية قول من قال : تأويل ذلك : ولا تتبدّلوا أموال أيتامكم أيها الأوصياء الحرام عليكم الخبيث لكم ، فتأخذوا رفائعها وخيارها وجيادها «بالطيب الحلال لكم من أموالكم » { وتجعلوا } الرديء الخسيس بدلاً منه . وذلك أن تَبَدّل الشيء بالشيء في كلام العرب أخذ شيء مكان آخر غيره ، يعطيه المأخوذ منه ، أو يجعله مكان الذي أخذ . فإذا كان ذلك معنى التبديل والاستبدال ، فمعلوم أن الذي قاله ابن زيد من أن معنى ذلك : هو أخذ أكبر ولد الميت جميع مال ميته ووالده دون صغارهم إلى ماله ، قول لا معنى له ، لأنه إذا أخذ الأكبر من ولده جميع ماله دون الأصاغر منهم ، فلم يستبدل مما أخذ شيئا . فما التبدّل الذي قال جلّ ثناؤه : { وَلا تَتَبَدّلُوا الخَبِيثَ بالطّيّبِ } ولم يبدّل الاَخذ مكان المأخوذ بدلاً ؟ وأما الذي قاله مجاهد وأبو صالح من أن معنى ذلك لا تتعجل الرزق الحرام قبل مجيء الحلال ، فإنهما أيضا إن لم يكونا أرادا بذلك نحو القول الذي روي عن ابن مسعود أنه قال : إن الرجل ليحرم الرزق بالمعصية يأتيها ، ففساده نظير فساد قول ابن زيد ، لأن من استعجل الحرام فأكله ، ثم آتاه الله رزقه الحلال فلم يبدّل شيئا مكان شيء ، وإن كانا أرادا بذلك أن الله جلّ ثناؤه نهى عباده أن يستعجلوا الحرام فيأكلوه قبل مجيء الحلال ، فيكون أكلهم ذلك سببا لحرمان الطيب منه ، فذلك وجه معروف ، ومذهب معقول يحتمله التأويل ، غير أن الأشبه في ذلك بتأويل الاَية ما قلنا ، لأن ذلك هو الأظهر من معانيه ، لأن الله جلّ ثناؤه إنما ذكر ذلك في قصة أموال اليتامى وأحكامها ، فلا يكون ذلك من جنس حكم أوّل الاَية ، فأخرجها من أن يكون من غير جنسه .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تَأْكُلُوا أمْوَالَهُمْ إلى أمْوَالِكُمْ } .

قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : ولا تخلطوا أموالهم يعني : أموال اليتامى بأموالكم فتأكلوها مع أموالكم . كما :

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وَلا تَأْكُلُوا أمْوَالهُمْ إلى أمْوَالِكُمْ } يقول : لا تأكلوا أموالكم وأموالهم ، تخلطوها فتأكلوها جميعا .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن مبارك ، عن الحسن ، قال : لما نزلت هذه الاَية في أموال اليتامى ، كرهوا أن يخالطوهم ، وجعل وليّ اليتيم يعزل مال اليتيم عن ماله ، فشكوا ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : { وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ اليَتامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإنْ تُخالِطُوهُمْ فاخْوَانُكُمْ } قال : فخالطوهم واتّقوا .

القول في تأويل قوله تعالى : { إنّهُ كانَ حُوبا كَبِيرا } .

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره ( بقوله ) : { إنّهُ كانَ حُوبا كَبِيرا } إن أكلكم أموال أيتامكم مع أموالكم حوب كبير . والهاء في قوله «إنّهُ » دالة على اسم الفعل ، أعني الأكل . وأما الحُوب : فإنه الإثم ، يقال منه : حاب الرجل يحوب حَوْبا وَحُوبا وحيابة ، ويقال منه : قد تحوّب الرجل من كذا ، إذا تأثم منه . ومنه قول أمية بن الأسكر الليثي :

وإنّ مُهاجِرَيْنِ تَكَنّفاهُ *** غَدَاتَئِذٍ لقَدْ خَطِئا وَحابا

ومنه قيل : نزلنا بَحوْبة من الأرض وبحيبة من الأرض : إذا نزلوا بموضع سَوء منها . والكبير : العظيم ، فمعنى ذلك : إن أكلكم أموال اليتامى مع أموالكم ، إثم عند الله عظيم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو وعمرو بن عليّ ، قالا : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : { حُوبا كَبِيرا } قال : إثما .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { إنّهُ كانَ حُوبا كَبِيرا } قال : إثما عظيما .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { كانَ حُوبا } أما حوبا : فإثما .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : { حُوبا } قال : إثما .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { إنّهُ كانَ حُوبا كَبِيرا } يقول : ظلما كبيرا .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعت ابن زيد ، يقول في قوله : { إنّهُ كانَ حُوبا كَبِيرا } قال : ذنبا كبيرا ، وهي لأهل الإسلام .

حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا قرة بن خالد ، قال : سمعت الحسن يقول : { حُوبا كَبِيرا } قال : إثما والله عظيما .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَءَاتُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰٓ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَتَبَدَّلُواْ ٱلۡخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِۖ وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَهُمۡ إِلَىٰٓ أَمۡوَٰلِكُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حُوبٗا كَبِيرٗا} (2)

وآتوا اليتامى أموالهم أي إذا بلغوا ، واليتامى جمع يتيم وهو الذي مات أبوه ، من اليتم وهو الانفراد . ومنه الدرة اليتيمة ، إما على أنه لما جرى مجرى الأسماء كفارس وصاحب جمع على يتائم ، ثم قلب فقيل يتامى أو على أنه جمع على يتمي كأسرى لأنه من باب الآفات . ثم جمع يتمي على يتامى كأسري وأسارى ، والاشتقاق يقتضي وقوعه على الصغار والكبار ، لكن العرف خصصه بمن لم يبلغ . وروده في الآية إما للبلغ على الأصل أو الاتساع لقرب عهدهم بالصغر ، حثا على أن يدفع إليهم أموالهم أول بلوغهم قبل أن يزول نهم هذا الاسم إن أونس منهم الرشد ، ولذلك أمر بابتلائهم صغارا أو لغير البلغ والحكم مقيد فكأنه قال ؛ وآتوهم إذا بلغوا . ويؤيد الأول ما روي : أن رجلا من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلما بلغ طلب المال منه فمنعه فنزلت . فلما سمعها العم قال : أطعنا الله ورسوله نعوذ بالله من الحوب الكبير . { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } ولا تستبدلوا الحرام من أموالهم بالحلال من أموالكم ، أو الأمر الخبيث وهو اختزال أموالهم بالأمر الطيب الذي هو حفظها . وقيل ولا تأخذوا الرفيع من أموالهم وتعطوا الخسيس مكانها ، وهذا تبديل وليس بتبدل . { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } ولا تأكلوها مضمومة إلى أموالكم ، أي لا تنفقوهما معا ولا تسووا بينهما ، وهذا حلال وذاك حرام وهو فيما زاد على قدر أجره لقوله تعالى : { فليأكل بالمعروف } { إنه } الضمير للأكل . { كان حوبا كبيرا } ذنبا عظيما . وقرئ حوبا وهو مصدر حاب { حوبا } وحابا كقال قولا وقالا .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَءَاتُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰٓ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَتَبَدَّلُواْ ٱلۡخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِۖ وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَهُمۡ إِلَىٰٓ أَمۡوَٰلِكُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حُوبٗا كَبِيرٗا} (2)

مناسبة عطف الأمر على ماقبله أنّه من فروع تقوى الله في حقوق الأرحام ، لأنّ المتصرّفين في أموال اليتامى في غالب الأحوال هم أهل قرابتهم ، أو من فروع تقوى الله الذي يتساءلون به وبالأرحام فيجعلون للأرحام من الحظّ ما جعلهم يقسمون بها كما يقسمون بالله . وشيء هذا شأنه حقيق بأن تُراعى أواصره ووشائجه وهم لم يرقبوا ذلك . وهذا ممَّا أشار إليه قوله تعالى : { وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء . . . } [ النساء : 1 ] .

والإيتاء حقيقته الدفع والإعطاء الحسي ، ويطلق على تخصيص الشيء بالشيء وجعله حقّاً له ، مثل إطلاق الإعطاء في قوله تعالى : { إنا أعطيناك الكوثر } [ الكوثر : 1 ] وفي الحديث : « رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هَلَكَتِه في الحقّ ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها » . واليتامى جمع يتيم وجمع يتيمة ، فإذا جمعت به يتيمة فهو فعائل أصله يَتَائِم ، فوقع فيه قلب مَكَانِيّ فقالوا يَتَامِىءُ ثم خفّفوا الهمزة فصارت ألفاً وحرّكت الميم بالفتح ، وإذا جمع به يتيم فهو إمّا جَمْع الجمع بأن جمع أوّلاً على يَتْمَى ، كما قالوا : أسير وأسْرى ، ثم جمع على يتامى مثل أسارى بفتح الهمزة ، أو جمع فعيل على فعائل لكونه صار اسماً مثل أفيل وأفائل ، ثم صنع به من القلب ما ذكرناه آنفاً . وقد نطقت العرب بجمع يتيمة على يتائم ، وبجمع فعيل على فعائل في قول بشر النجدي :

أأطْلالَ حُسْن في البِراق اليَتَائِم *** سَلام على أطلالِكُنّ القَدَائِم

واشتقاق اليتيم من الإنفراد ، ومنه الدرّة اليتيمة أي المنفردة بالحسن ، وفعله من باب ضرب وهو قاصر ، وأطلقه العرب على من فُقد أبوه في حال صغره كأنّه بقي منفرداً لا يجد من يدفع عنه ، ولم يعتدّ العرب بفقد الأمّ في إطلاق وصف اليتيم إذ لا يعدم الولد كافلة ، ولكنّه يعدم بفقد أبيه من يدافع عنه وينفقه . وقد ظهر ممّا راعَوه في الاشتقاق أنّ الذي يبلغ مبلغ الرجال لا يستحقّ أن يسمّى يتيماً إذ قد بلغ مبلغ الدفع عن نفسه ، وذلك هو إطلاق الشريعة لا سم اليتيم ، والأصل عدم النقل .

وقيل : هو في اللغة من فُقد أبوه ، ولو كان كبيراً ، أو كان صغيراً وكَبر ، ولا أحسب هذا الإطلاق صحيحاً . وقد أريد باليتامى هنا ما يشمل الذكور والإناث وغُلب في ضمير التذكير في قوله : { أموالهم } .

وظاهر الآية الأمر بدفع المال لليتيم ، ولا يجوز في حكم الشرع أن يدفع المال له ما دام مطلقاً عليه اسم اليتيم ، إذ اليتيم خاصّ بمن لم يبلغ ، وهو حينئذ غير صالح للتصرّف في ماله ، فتعيّن تأويل الآية إمّا بتأويل لفظ الإيتاء أو بتأويل اليتيم ، فلنا أن نؤوّل { آتوا } بغير معنى ادفعوا . وذلك بما نقل عن جابر بن زيد أنّه قال : نزلت هذه الآية في الذين لا يُورّثون الصغار مع وجود الكبار في الجاهلية ، فيكون { آتوا } بمعنى عيّنوا لهم حقوقهم ، وليكون هذا الأمر وما يذكر بعده تأسيسات أحكام ، لا تأكيد بعضها لبعض ، أو تقييد بعضها لبعض .

وقال صاحب « الكشاف » : « يراد بإيتائهم أموالهم أن لا يطمع فيها الأولياء والأوصياء وولاة السوء وقضاته ويكفّوا عنها أيديهم الخاطفة حتّى تأتي اليتامى إذا بلغوا سالمة » فهو تأويل للإيتاء بلازمه وهو الحفظ الذي يترتّب عليه الإيتاء كناية بإطلاق اللازم وإرادة الملزوم ، أو مجاز بالمآل إذ الحفظ يؤول إلى الإيتاء ، وعليه فيكون هو معنى قوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } . وعلى هذين الوجهين فالمراد هنا الأمر بحفظ حقوق اليتامى من الإضاعة لا تسليم المال إليهم وهو الظاهر من الآية إذ سيجيء في قوله : { وابتلوا اليتامى } [ النساء : 6 ] الآية . ولنا أن نؤوّل اليتامى بالذين جاوزوا حدّ اليُتْم ويبقى الإيتاء بمعنى الدفع ، ويكون التعبير عنهم باليتامى للإشارة إلى وجوب دفع أموالهم إليهم في فور خروجهم من حدّ اليتيم ، أو يبقى على حاله ويكون هذا الإطلاق مقيّداً بقوله الآتي : { حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم } [ النساء : 6 ] . ومن الناس من قال : اليتيم يطلق على الصغير والكبير لأنّه مشتقّ من معنى الانفراد أي انفراده عن أبيه ، ولا يخفى أنّ هذا القول جمود على توهّم أنّ الانفراد حقيقيّ وإنّما وضع اللفظ للانفراد المجازي ، وهو انعدام الأب المنزّل منزلة بقاء الولد منفرداً وما هو بمنفرد فإنّ له أمّا وقوماً .

قيل : نزلت هذه الآية في رجل من غطفان كان له ابن أخ في حجره ، فلمّا بلغ طلب ماله ، فمنعه عمّه ، فنزلت هذه الآية ، فرَدّ المال لابن أخيه ، وعلى هذا فهو المراد من قوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالهم } .

وقوله : { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } أي لا تأخذوا الخبيث وتعطوا الطيّب . والقول في تعدية فعل تبدّل ونظائره مضى عند قوله تعالى في سورة فالبقرة ( 61 ) قال : { أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير } وعلى ما تقرّر هناك يتعيّن أن يكون الخبيث هو المأخوذ ، والطيّب هو المتروك .

والخبيث والطيّب أريد بهما الوصف المعنوي دون الحسي ، وهما استعارتان ؛ فالخبيث المذموم أو الحرام ، والطيّب عكسه وهو الحلال : وتقدّم في قوله تعالى : { يأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً } في البقرة ( 168 ) . فالمعنى : ولا تكسبوا المال الحرام وتتركوا الحلال أي لو اهتممتم بإنتاج أموالكم وتوفيرها بالعمل والتجر لكان لكم من خلالها ما فيه غنية عن الحرام ، فالمنهي عنه هنا هو ضدّ المأمور به من قبل تأكيداً للأمر ، ولكنّ النهي بيَّن ما فيه من الشناعة إذا لم يمتثل الأمر ، وهذا الوجه ينبىء عن جعل التبدّل مجازاً والخبيث والطيّب كذلك ، ولا ينبغي حمل الآية على غير هذا المعنى وهذا الاستعمال . وعن السديّ ما يقتضي خلاف هذا المعنى وهو غير مرضي .

وقوله : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } نهي ثالث عن أخذ أموال اليتامى وضمّها إلى أموال أوليائهم ، فينتسق في الآية أمر ونهيان : أمروا أن لا يمنعوا اليتامى من مواريثهم ثم نهوا عن اكتساب الحرام ، ثم نهوا عن الاستيلاء على أموالهم أو بعضها ، والنهي والأمر الأخير تأكيدان للأمر الأول .

والأكل استعارة للانتفاع المانع من انتفاع الغير وهو الملك التامّ ، لأنّ الأكل هو أقوى أحوال الاختصاص بالشيء لأنّه يحرزه في داخل جسده ، ولا مطمع في إرجاعه ، وضمّن ( تأكلوا ) معنى تضمّوا فلذلك عدي بإلى أي : لا تأكلوها بأن تضمّوها إلى أموالكم .

وليس قيد { إلى أموالكم } محطّ النهي ، بل النهي واقع على أكل أموالهم مطلقاً سواء كان للآكل مال يَضُمّ إليه مالَ يتيمه أم لم يكن ، ولكن لمّا كان الغالب وجود أموال للأوصياء ، وأنّهم يريدون من أكل أموال اليتامى التكثّر ، ذكر هذا القيد رعياً للغالب ، ولأنّه أدخل في النهي لما فيه من التشنيع عليهم حيث يأكلون حقوق الناس مع أنّهم أغنياء ؛ على أنّ التضمين ليس من التقييد بل هو قائم مقام نهيين ، ولذلك روي : أنّ المسلمين تجنّبوا بعد هذه الآية مخالطة أموال اليتامى فنزلت آية البقرة ( 220 ) : { وإن تخالطوهم فإخوانكم } فقد فهموا أنّ ضمّ مال اليتيم إلى مال الوصيّ حرام ، مع علمهم بأنّ ذلك ليس مشمولاً للنهي عن الأكل ولكن للنهي عن الضمّ . وهما في فهم العرب نهيان ، وليس هو نهياً عن أكل الأغنياء أموال اليتامى حتى يكون النهي عن أكل الفقراء ثابتاً بالقياس لا بمفهوم الموافقة إذ ليس الأدْوَنُ بصالح لأن يكون مفهوم موافقة .

والحُوب بضمّ الحاء لغة الحجاز ، و بفتحها لغة تميم ، وقيل : هي حبشية ، ومعناه الإثم ، والجملة تعليل للنهي : لموقع إنّ منها ، أي نهاكم الله عن أكل أموالهم لأنّه إثم عظيم . ولكون إنّ في مثله لمجرد الاهتمام لتفيد التعليل أكِّد الخبر بكان الزائدة .