قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم } ، نزلت في المنافقين تولوا اليهود وناصحوهم ونقلوا أسرار المؤمنين إليهم . وأراد بقوله : { غضب الله عليهم } اليهود ، { ما هم منكم ولا منهم }يعني المنافقين ليسوا من المؤمنين في الدين والولاية ، ولا من اليهود والكافرين ، كما قال :{ مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء }( النساء- 143 ) . { ويحلفون على الكذب وهم يعلمون } ، قال السدي ومقاتل : نزلت في عبد الله بن نبتل المنافق كان يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يرفع حديثه إلى اليهود ، " فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرة من حجراته إذ قال : يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار وينظر بعيني شيطان ، فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق العينين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :علام تشتمني أنت وأصحابك ؟ فحلف بالله ما فعل وجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه ، فأنزل الله عز وجل هذه الآيات ، فقال :{ ويحلفون على الكذب وهم يعلمون } أنهم كذبة " .
{ 14-19 }{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ * اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ } .
يخبر تعالى عن شناعة حال المنافقين الذين يتولون الكافرين ، من اليهود والنصارى وغيرهم ممن غضب الله عليهم ، ونالوا من لعنة الله أوفى نصيب ، وأنهم ليسوا من المؤمنين ولا من الكافرين ، { مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ } ، فليسوا مؤمنين ظاهرا وباطنا لأن باطنهم مع الكفار ، ولا مع الكفار ظاهرا وباطنا ، لأن ظاهرهم مع المؤمنين ، وهذا وصفهم الذي نعتهم الله به ، والحال أنهم يحلفون على ضده الذي هو الكذب ، فيحلفون أنهم مؤمنون ، وهم يعلمون{[1019]} أنهم ليسوا مؤمنين .
يقول تعالى منكرا على المنافقين في موالاتهم الكفار في الباطن ، وهم في نفس الأمر لا معهم ولا مع المؤمنين ، كما قال تعالى :{ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا } [ النساء : 143 ] وقال ها هنا :{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } يعني : اليهود ، الذين كان المنافقون يمالئونهم ويوالونهم في الباطن . ثم قال :{ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ } أي : هؤلاء المنافقون ، ليسوا في الحقيقة لا منكم أيها المؤمنون ، ولا من الذين تولوهم وهم اليهود .
ثم قال :{ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } يعني : المنافقين يحلفون على الكذب وهم عالمون بأنهم كاذبون فيما حلفوا ، وهي اليمين الغموس ، ولا سيما في مثل حالهم اللعين ، عياذًا بالله منه{[28464]} ، فإنهم كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا : آمنا ، وإذا جاءوا الرسول حلفوا بالله [ له ]{[28465]} أنهم مؤمنون ، وهم في ذلك يعلمون أنهم يكذبون فيما حلفوا به ؛ لأنهم لا يعتقدون صدق ما قالوه ، وإن كان في نفس الأمر مطابقًا ؛ ولهذا شهد الله بكذبهم في أيمانهم وشهادتهم لذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ تَوَلّوْاْ قَوْماً غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِم مّا هُم مّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ألم تنظر بعين قلبك يا محمد ، فترى إلى القوم الذين . تولّوْا قوما غضب الله عليهم ، وهم المنافقون تولّوا اليهود وناصحوهم ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ تَوَلّوْا قَوْما غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِمْ }إلى آخر الآية ، قال : هم المنافقون تولّوا اليهود وناصحوهم .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة{ تَوَلّوْا قَوْما غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ }قال : هم اليهود تولاهم المنافقون .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله عزّ وجلّ { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ تَوَلّوْا قَوْما غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ } قال : هؤلاء كفرة أهل الكتاب اليهود والذين تولوهم المنافقون تولوا اليهود ، وقرأ قول الله : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لإخْوَانِهِمُ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أهْلِ الكِتابِ حتى بلغ وَاللّهُ يَشْهَدُ إنّهُمْ لَكاذِبُونَ }لئن كانَ ذلكَ لا يَفْعَلُونَ وقال : هؤلاء المنافقون قالوا : لا ندع حلفاءنا وموالينا يكونوا معا لنصرتنا وعزّنا ، ومن يدفع عنا نخشى أن تصيبنا دائرة ، فقال الله عزّ وجلّ : { فَعَسَى اللّهُ أنْ يأتِي بالفَتْحِ أوْ أمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ حتى بلغ : فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللّهِ }وقرأ حتى بلغ : { أوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرِ }قال : لا يَبرزون .
قوله : { ما هُمْ مِنْكُمْ }يقول تعالى ذكره : ما هؤلاء الذين تولّوا هؤلاء القوم الذين غضب الله عليهم ، منكم يعني : من أهل دينكم وملتكم ، ولا منهم ولا هم من اليهود الذين غضب الله عليهم ، وإنما وصفهم بذلك منكم جلّ ثناؤه لأنهم منافقون إذا لقوا اليهود ، { قالوا إنّا مَعَكمْ إنّما نَحنُ مُسْتَهزئون وَإذا لَقُوا الذّين آمَنُوا قَالوَا آمَنّا } .
وقوله{ ويَحْلِفُونَ على الكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }يقول تعالى ذكره : ويحلفون على الكذب ، وذلك قولهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم : { نشهد إنك لرسول الله }وهم كاذبون غير مصدّقين به ، ولا مؤمنين به ، كما قال جلّ ثناؤه : { وَاللّهُ يَشْهَدُ إنّ المُنافِيِنَ لَكاذِبُونَ }وقد ذُكِر أن هذه الآية نزلت في رجل منهم عاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر بلغه عنه ، فحلف كذبا . ذكر الخبر الذي رُوي بذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن سماك ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يَدْخُلُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ يَنْظُرُ بعَيْنِ شَيْطانٍ ، أو بعَيْنَيْ شَيْطانٍ » ، قال : فدخل رجل أزرق ، فقال له : «علامَ تسبني أو تشتمني ؟ » قال : فجعل يحلف ، قال : فنزلت هذه الآية التي في المجادلة : { وَيحْلِفُونَ على الكَذِبِ وَهَمْ يَعْلَمُونَ }والآية الأخرى .
{ ألم تر إلى الذين تولوا }والوا { قوما غضب الله عليهم }يعني اليهود { ما هم منكم ولا منهم } ، لأنهم منافقون مذبذبون بين ذلك { ويحلفون على الكذب }وهو ادعاء الإسلام { وهم يعلمون }أن المحلوف عليه كذب كمن يحلف بالغموس ، وفي هذا التقييد دليل على أن الكذب يعم ما يعلم المخبر عدم مطابقته وما لا يعلم وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان في حجرة من حجراته ، فقال يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار وينظر بعين شيطان ، فدخل عبد الله بن نبتل المنافق وكان أزرق فقال صلى الله عليه وسلم له : علام تشتمني أنت وأصحابك فحلف بالله ما فعل ثم جاء بأصحابه فحلفوا فنزلت .