اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ تَوَلَّوۡاْ قَوۡمًا غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مَّا هُم مِّنكُمۡ وَلَا مِنۡهُمۡ وَيَحۡلِفُونَ عَلَى ٱلۡكَذِبِ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ} (14)

قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِم } ، قال قتادة : هم المنافقون تولّوا اليهود{[55771]} .

وقال السدي ومقاتل : هم اليهود . { مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ }{[55772]} يعني : المنافقين ليسوا من المؤمنين في الدين والولاء ، ولا من اليهود والكافرين ، كما قال جل ذكره : { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء } [ النساء : 143 ] .

{ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ } ، قال السدي ومقاتل رضي الله عنهما : نزلت في عبد الله بن أبيّ ابن سلول ، وعبد الله بن نبتل المنافقين ، كان أحدهما يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يرفع حديثه إلى اليهود ، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حُجْرة من حُجَره ، إذ قال : «يَدْخُلُ الآنَ عَليْكُم رجُلٌ قلبهُ قَلْبُ جبَّارٍ ، وينْظرُ بِعَيْني شَيْطانٍ » ، فدخل عبد الله بن نبتل ، وكان أزرق ، أسمر قصيراً ، خفيف اللحية ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : «علاَمَ تَشْتُمنِي أنْتَ وأصْحَابُكَ » ؟ فحلف بالله ما فعل ، وجاء بأصحابه ، فحلفوا بالله ما شتموه ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية فقال عز وجل : { وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أنهم كذبة{[55773]} .

قال ابن الخطيب{[55774]} رحمه الله : والمراد من هذا الكذب ، إما ادِّعاؤهم كونهم مسلمين ، وإما أنهم كانوا يسبُّون الله - تعالى - ورسوله صلى الله عليه وسلم ويكيدون المسلمين ، وإذا قيل : إنكم فعلتم ذلك خافوا على أنفسهم من القتل ، فيحلفون أنهم ما قالوا ذلك وما فعلوه ، فهذا هو الكذب الذي يحلفون عليه ، وهذه الآية تدلّ على فساد قول الجاحظ : إن الكذب هو الخبرُ المخالف لاعتقاد المخبر .

قوله : { مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ } يجوز في هذه الجملة ثلاثة أوجه{[55775]} :

أحدها : أنها مستأنفة ، لا موضع لها من الإعراب ، أخبر عنهم بأنهم ليسوا من المؤمنين الخُلَّص ، بل كقوله تعالى : { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إلى هؤلاء } [ النساء : 143 ] فالضمير في «ما هم » عائد على { الذين تَوَلَّوْاْ } ، وهم المنافقون ، وفي «مِنْهُمْ » عائد على اليهود ، وهم الكافرون الخلص .

والثاني : أنها حالٌ من فاعل «تولوا » والمعنى على ما تقدم أيضاً .

والثالث : أنها صفة ثانية ل «قوماً » فعلى هذا يكون الضمير في «ما هم » عائداً على «قوماً » وهم اليهود ، والضمير في «منهم » عائد على «الذين تولّوا » يعني اليهود ليسوا منكم أيها المؤمنون ، ولا من المنافقين ، ومع ذلك تولاَّهم المنافقون . قاله ابن عطية{[55776]} .

إلا أن فيه تنافر الضمائر ، فالضمير في «وَيَحْلِفُونَ » عائد على «الذين تولّوا » فعلى الوجهين الأولين تتحد الضمائر لعودها على «الَّذيْنَ تولّوا » وعلى الثالث : تختلف كما عرفت .

وقوله : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } جملة حالية ، أي : يعلمون أنه كذب ، فيمينهم يمين غَمُوس ولا عُذر لهم فيها{[55777]} .


[55771]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/23)، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/273)، وعزاه إلى عبد بن حميد.
[55772]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (17/197).
[55773]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/273)، عن السدي مختصرا وعزاه إلى ابن أبي حاتم. وذكره بتمامه البغوي (4/311)، والقرطبي (17/197)، والرازي (29/238).
[55774]:ينظر: التفسير الكبير 29/238.
[55775]:ينظر: الدر المصون 6/289.
[55776]:المحرر الوجيز 5/280.
[55777]:ينظر: الدر المصون 6/290.