قوله عز وجل : { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } الآية . أخبر أن إيمان المؤمنين يفسد بموادة الكافرين وأن من كان مؤمناً لا يوالي من كفر ، وإن كان من عشيرته . قيل : نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة وسيأتي في سورة الممتحنة ، إن شاء الله عز وجل . وروى مقاتل بن حيان عن مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود في هذه الآية قال : { ولو كانوا آباءهم } يعني : أبا عبيدة ابن الجراح ، قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أحد { أو أبناءهم } يعني : أبا بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز ، وقال رسول الله دعني أكن في الرحلة الأولى ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : متعنا بنفسك يا أبا بكر ، { أو إخوانهم } يعني : مصعب ابن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد ، { أو عشيرتهم } يعني عمر قتل خاله العاص بن هشام بن المغيرة يوم بدر ، وعلياً وحمزة وعبيدة قتلوا يوم بدر عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عبة . { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } أثبت التصديق في قلوبهم فهي موقنة مخلصة ، وقيل : حكم لهم بالإيمان فذكر القلوب لأنها موضعه ، { وأيدهم بروح منه } قواهم بنصر منه . قال الحسن : سمى نصره إياهم روحاً لأن أمرهم يحيا به . وقال السدي : يعني بالإيمان . وقال الربيع : يعني بالقرآن وحجته ، كما قال : { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } ( الشورى- 52 ) وقيل برحمة منه . وقيل أمدهم بجبريل عليه السلام . { ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون } .
{ 22 } { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ { وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } .
يقول تعالى : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي : لا يجتمع هذا وهذا ، فلا يكون العبد مؤمنا بالله واليوم الآخر حقيقة ، إلا كان عاملا على مقتضى الإيمان{[1022]} ولوازمه ، من محبة من قام بالإيمان وموالاته ، وبغض من لم يقم به ومعاداته ، ولو كان أقرب الناس إليه .
وهذا هو الإيمان على الحقيقة ، الذي وجدت ثمرته والمقصود منه ، وأهل هذا الوصف هم الذين كتب الله في قلوبهم الإيمان أي : رسمه وثبته وغرسه غرسا ، لا يتزلزل ، ولا تؤثر فيه الشبه والشكوك .
وهم الذين قواهم الله بروح منه أي : بوحيه ، ومعونته ، ومدده الإلهي وإحسانه الرباني .
وهم الذين لهم الحياة الطيبة في هذه الدار ، ولهم جنات النعيم في دار القرار ، التي فيها من كل ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين ، وتختار ، ولهم أكبر النعيم وأفضله ، وهو أن الله يحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبدا ، ويرضون عن ربهم بما يعطيهم من أنواع الكرامات ، ووافر المثوبات ، وجزيل الهبات ، ورفيع الدرجات بحيث لا يرون فوق ما أعطاهم مولاهم غاية ، ولا فوقه نهاية{[1023]} .
وأما من يزعم أنه يؤمن بالله واليوم الآخر ، وهو مع ذلك مواد لأعداء الله ، محب لمن ترك الإيمان{[1024]} وراء ظهره ، فإن هذا إيمان زعمي لا حقيقة له ، فإن كل أمر لا بد له من برهان يصدقه ، فمجرد الدعوى ، لا تفيد شيئا ولا يصدق صاحبها .
ثم قال تعالى :{ لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } أي : لا يوادون المحادين ولو كانوا من الأقربين ، كما قال تعالى : { لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ }[ آل عمران : 28 ] الآية ، وقال تعالى :{ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }[ التوبة : 24 ] .
وقد قال سعيد بن عبد العزيز وغيره : أنزلت هذه الآية { لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } إلى آخرها في أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح ، حين قتل أباه يوم بدر ؛ ولهذا قال عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، حين جعل الأمر شورى بعده في أولئك الستة ، رضي الله عنهم : { ولو كان أبو عبيدة حيًّا لاستخلفته } .
وقيل في قوله : { وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ } نزلت في أبي عبيده قتل أباه يوم بدر{ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ } في{[28474]} الصديق ، هَمَّ يومئذ بقتل ابنه عبد الرحمن ، { أَوْ إِخْوَانَهُمْ } في مصعب بن عمير ، قتل أخاه عبيد بن عمير يومئذ { أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } في عمر ، قتل قريبا له يومئذ أيضًا ، وفي حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث ، قتلوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة يومئذ ، والله أعلم .
قلت : ومن هذا القبيل حين استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين في أسارى بدر ، فأشار الصديق بأن يفادوا ، فيكون ما يؤخذ منهم قوة للمسلمين ، وهم بنو العم والعشيرة ، ولعل الله أن يهديهم . وقال عمر : لا أرى ما رأى يا رسول الله ، هل{[28475]} تمكني من فلان - قريب لعمر - فأقتله ، وتمكن عليًا من عقيل ، وتمكن فلانًا من فلان ، ليعلم الله أنه ليست{[28476]} في قلوبنا هوادة للمشركين . . . القصة بكاملها .
وقوله : { أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } أي : من اتصف بأنه لا يواد من حاد الله ورسوله ولو كان أباه أو أخاه ، فهذا ممن كتب الله في قلبه الإيمان ، أي : كتب له السعادة وقررها في قلبه وزين الإيمان في بصيرته .
وقال السدي : { كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ } جعل في قلوبهم الإيمان .
وقال ابن عباس : { وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } أي : قواهم .
وقوله :{ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } كل هذا تقدم تفسيره غير مرة .
وفي قوله :{ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } سر بديع ، وهو أنه لما سخطوا على القرائب والعشائر في الله عوضهم الله بالرضا عنهم ، وأرضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم ، والفوز العظيم ، والفضل العميم .
وقوله :{ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي : هؤلاء حزبُ الله ، أي : عباد الله {[28477]} وأهل كرامته .
وقوله :{ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } تنويه بفلاحهم وسعادتهم ونصرهم{[28478]} في الدنيا والآخرة ، في مقابلة ما أخبر عن أولئك بأنهم حزب الشيطان . ثم قال :{ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ } .
وقد قال بن أبي حاتم : حدثنا هارون بن حميد الواسطي ، حدثنا الفضل بن عَنْبَسة ، عن رجل قد سماه - يقال{[28479]} هو عبد الحميد بن سليمان ، انقطع من كتابي - عن الذَيَّال بن عباد قال : كتب أبو حازم الأعرج إلى الزهري : أعلم أن الجاه جاهان ، جاه يجريه الله على أيدي أوليائه لأوليائه ، وأنهم الخامل ذكرهم ، الخفية شخوصهم ، ولقد جاءت صفتهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم . " إن الله يحب الأخفياء الأتقياء الأبرياء ، الذين إذا غابوا لم يُفتَقَدوا ، وإذا حضروا لم يُدْعَوا ، قلوبهم مصابيح الهدى ، يخرجون من كل فتنة سوداء مظلمة " {[28480]} فهؤلاء أولياء الله تعالى الذين قال الله : { أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } .
وقال نُعَيم بن حَمّاد : حدثنا محمد بن ثور ، عن يونس ، عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم ، لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي يدًا ولا نعمة ، فإني وجدت فيما أوحيته إلي : { لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } قال سفيان : يرون أنها نزلت فيمن يخالط السلطان . ورواه أبو أحمد العسكري .
القول في تأويل قوله تعالى : { لاّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ يُوَآدّونَ مَنْ حَآدّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوَاْ آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلََئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أُوْلََئِكَ حِزْبُ اللّهِ أَلاَ إِنّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { لا تَجِدُ قَوْما يُوءْمِنُونَ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ يُوَادّونَ مَنْ حادّ اللّهَ وَرَسُولَهُ }لا تجد يا محمد قوما يصدّقون الله ، ويقرّون باليوم الاَخر يوادّون من حادّ الله ورسوله وشاقّهما وخالف أمر الله ونهيه { وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ } يقول : ولو كان الذين حادّوا الله ورسوله آباءهم { أوْ أبْناءَهُمْ أوْ إخْوَانَهُمْ أوْ عَشِيرَتَهُمْ }وإنما أخبر الله جلّ ثناؤه نبيه عليه الصلاة والسلام بهذه الآية { ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم } ليسوا من أهل الإيمان بالله ولا باليوم الاَخر ، فلذلك تولّوُا الذين تولّوْهم من اليهود . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { لا تَجِدُ قَوْما يُوءْمِنُونَ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ يُوَادّونَ مَنْ حادّ اللّهَ وَرَسُولَهُ } لا تجد يا محمد قوما يؤمنون بالله واليوم الاَخر ، يوادّون من حادّ الله ورسوله : أي من عادى اللّهَ ورسولَه .
وقوله : { أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ }يقول جلّ ثناؤه : هؤلاء الذين لا يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم ، أو أبناءهم ، أو إخوانهم ، أو عشيرتهم ، كتب الله في قلوبهم الإيمان . وإنما عُنِي بذلك : قضى لقلوبهم الإيمان ، ففي بمعنى اللام ، وأخبر تعالى ذكره أنه كتب في قلوبهم الإيمان لهم ، وذلك لمّا كان الإيمان بالقلوب ، وكان معلوما بالخبر عن القلوب أن المراد به أهلها ، اجتزى بذكرها مِنْ ذكر أهلها .
وقوله : { وأيّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ }يقول : وقوّاهم بِبرْهان منه ونور وهدى { وَيُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ } يقول : ويدخلهم بساتين تجري من تحت أشجارها الأنهار { خالِدِينَ فِيها }يقول : ماكثين فيها أبدا { رِضِيَ اللّهُ عَنْهُمُ } بطاعتهم إياه في الدنيا { وَرَضُوا عَنْهُ }في الاَخرة بإدخاله إياهم الجنةَ{ أُولَئِكَ حِزْبُ اللّهِ } يقول : أولئك الذين هذه صفتهم جند الله وأولياؤه { ألا إنّ حِزْبَ اللّهِ }يقول : ألا إن جند الله وأولياءه { هُمُ المُفْلِحون } يقول : هم الباقون المُنْجَحون بإدراكهم ما طلبوا ، والتمسوا ببيعتهم في الدنيا ، وطاعتهم ربهم .