قوله تعالى : { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ } .
«يوادُّون » هو المفعول الثاني ل «تَجِدُ » ، ويجوز أن تكون المتعدية لواحد بمعنى «صادق ولقي » ، فيكون «يوادّون » حالاً ، أو صفة ل «قوماً »{[55804]} .
ومعنى «يوادُّون » أي : يحبون ويوالون { مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ } . وقد تقدم الكلام على المُحَادّة .
والمعنى : أنه لا يجتمع الإيمان مع ودادةِ أعداء الله .
فإن قيل{[55805]} : أجمعت الأمة على أنه تجوز مخالطتهم ومعاملتهم ومعاشرتهم فما هذه الموادة المحرمة ؟ .
فالجواب أن الموادّة المحرمة هي إرادة منافعه ديناً ودُنْيا مع كونه كافراً ، فأما سوى ذلك فلا حَظْر فيه .
قوله تعالى : «ولو كانوا » هذه «واو » الحال .
وقدّم أولاً الآباء ؛ لأنهم تجب طاعتهم على أبنائهم ، ثم ثنَّى بالأبناء ؛ لأنهم أعلقُ بالقلوب وهم حياتها ، {[55806]} قال الحماسي في معنى ذلك ، رحمة الله عليه رحمة واسعة : [ السريع ]
وإنَّمَا أوْلادُنَا بَيْنَنَا *** أكْبَادُنَا تَمْشِي عَلَى الأرْضِ{[55807]}
ثم ثلَّث بالإخوان ؛ لأنهم هم الناصرون بمنزلة العضُد من الذِّراع .
أخَاكَ أخَاكَ إنَّ مَنْ لا أخَا لَهُ *** كَسَاعٍ إلى الهَيْجَا بِغَيْرِ سِلاحِ
وإنَّ ابْنَ عَمِّ المَرْءِ - فَاعْلمْ – جَنَاحُهُ *** وهَلْ يَنْهَضُ البَازِي بِغَيْرِ جَنَاحِ{[55808]}
ثم ربع بالعشيرة ؛ لأن بها يستعان وعليها يعتمد .
قال بعضهم ، رحمة الله عليه : [ البسيط ]
لا يَسْألُونَ أخَاهُمْ حِيْنَ يَنْدُبُهُمْ *** في النَّائِبَاتِ عَلَى مَا قَالَ بُرْهَانَا{[55809]}
وقرأ أبو رجاء : «عَشِيْراتهم » ، بالجمع{[55810]} ، كما قرأها أبو بكر في «التوبة » كذلك .
لما بالغ في المنع من هذه الموادة في الآية الأولى من حيث أن الموادة مع الإيمان لا يجتمعان ، بالغ هاهنا أيضاً من وجوه ، وهي قوله تعالى : { وَلَوْ كانوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } والمعنى : أن الميل إلى هؤلاء أعظم أنواع المحبة ، ومع هذا فيجب أن يكون هذا الميل مطرحاً بسبب الدين{[55811]} .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت هذه الآية في أبي عبيدة بن الجراح قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم «أحد » ، وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قتل خاله العاص بن هشام بن المغيرة يوم «بدر » ، وأبي بكر - رضي الله عنه - قال ابن جريح : حدثت أن أبا قحافة سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم فصكّه أبو بكر - رضي الله عنه - صكَّة سقط منها على وجهه ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فقال : «أو فَعَلْتَهُ لا تَعُدْ إليْهِ » ، فقال : والذي بعثك بالحق نبيًّا لو كان السيف منِّي قريباً لقتلته{[55812]} ، ومصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير ، وعلي بن أبي طالب وحمزة وعبيدة - رضي الله عنهم - قتلوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة يوم «بدر » أخبر أن هؤلاء لم يوادُّوا أقاربهم وعشائرهم غضباً لله تعالى ودينه .
فصل في الاستدلال بالآية على معاداة القدرية :
قال القرطبي{[55813]} : استدل مالك - رحمه الله - بهذه الآية على معاداة القدرية ، وترك مجالستهم .
قال أشهب عن مالك : لا تجالسوا القدرية ، وعادوهم في الله ، لقول الله عز وجل :{ لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ } .
قال القرطبي{[55814]} : وفي معنى أهل القدر جميع أهل الظُّلم والعدوان .
وعن الثوري - رضي الله عنه - أنه قال : كانوا يرون أنها نزلت فيمن يصحب السلطان .
وعن عبد العزيز بن أبي رواد : أنه لقي المنصور في الطّواف فلما عرفه هرب منه ، وتلا هذه الآية .
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : «اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْ لفَاجِرِ عِنْدِي نِعْمَةً ، فإنِّي وجَدْتُ فِيْمَا أوْحَيْتَ إليَّ : { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر } » الآية{[55815]} . قوله : { أولئك كَتَبَ } ، قرأ العامّة : «كَتَبَ » مبنيًّا للفاعل ، وهو الله - سبحانه وتعالى - «الإيمان » نصباً ، وأبو حيوة{[55816]} في رواية المفضل : «كُتِبَ » مبنيًّا للمفعول «الإيمان » رفع به ، والضمير في «منه » لله تعالى ، وقيل : يعود على «الإيمان » ؛ لأنه روح يحيا به المؤمنون في الدارين . قاله السدي ، أي : أيدهم بروح من الإيمان{[55817]} ، يدل عليه قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا }[ الشورى : 52 ] .
فصل في معنى كتب الإيمان{[55818]} :
معنى «كتب الإيمان » أي : خلق في قلوبهم التصديق ، يعني من لم يُوالِ من حاد الله .
وقيل : «كَتَبَ » : أثبت . قاله الربيع بن أنس .
وقيل : جعل كقوله تعالى :{ فاكتُبنا مَعَ الشاهدين }[ آل عمران : 53 ] أي : اجعلنا ، وقوله تعالى :{ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة }[ الأعراف : 156 ] .
وقيل «كتب » أي : جمع ، ومنه الكتيبة ، أي :لم يكونوا ممن يقول : نؤمن ببعض ، ونكفر ببعض . وقيل :{ كتب في قلوبهم الإيمان } أي : على قلوبهم الإيمان ، كقوله تعالى :{ فِي جُذُوعِ النخل } [ طه : 71 ] . وخص القلوب بالذكر ، لأنها موضع الإيمان . قوله : «وأيَّدهُمْ » ، أي : قوَّاهم ونصرهم بروح منه .
قال ابن عباس : نصرهم على عدوهم ، وسمى تلك النصرة روحاً ؛ لأنه به يحيا أمرهم .
وقال الربيع بن أنس رضي الله عنه : بالقرآن وحججه .
وقال ابن جريح : بنُورٍ وبُرهان وهدى .
وقيل : أيَّدهم بجبريل صلوات الله وسلامه عليه .
قوله : { وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ الله عَنْهُمْ } أي : قبل أعمالهم { وَرَضُواْ عَنْهُ } فرحوا بما أعطاهم { أولئك حِزْبُ الله أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون } .
وهذه في مقابلة قوله تعالى :{ أولئك حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ } ، وهذه الآية زجر عن التودّد إلى الكُفَّار والفُسَّاق ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم بالصواب .
روى الثعلبي في تفسيره عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ قَرَأ سُورَةَ المُجادلةِ كُتِبَ مِنْ حِزْبِ الله - تعالى - يَوْمَ القِيَامَةِ »{[1]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.