قوله تعالى : { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم } الآية . قال محمد بن كعب القرظي : " لما بايعت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة بمكة وهم سبعون نفساً ، قال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله اشترط لربك ولنفسك ما شئت . فقال : أشترط لربي عز وجل : أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأشترط لنفسي ، أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم . قالوا : فإذا فعلنا ذلك فما لنا ؟ قال :الجنة ، قالوا : ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل فنزلت : { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } . وقرأ الأعمش : { بالجنة } . { يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون } ، قرأ حمزة والكسائي : " فيقتلون " بتقديم المفعول على الفاعل بمعنى يقتل بعضهم بعضا ، ويقتل الباقون . وقرأ الآخرون بتقديم الفاعل . { وعدا عليه حقا } أي : ثواب الجنة لهم وعد وحق { في التوراة والإنجيل والقرآن } ، يعني أن الله عز وجل وعدهم هذا الوعد ، وبينه في هذه الكتب . وقيل فيه دليل على أن أهل الملل كلهم أمروا بالجهاد على ثواب الجنة ، ثم هنأهم فقال : { ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا } ، فافرحوا { ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم } ، قال عمر رضي الله عنه : إن الله عز وجل بايعك وجعل الصفقتين لك . وقال قتادة ثامنهم الله عز وجل فأغلى لهم . وقال الحسن : اسمعوا إلى بيعة ربيحة بايع الله بها كل مؤمن . وعنه أنه قال : إن الله أعطاك الدنيا فاشتر الجنة ببعضها .
{ 111 } { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }
يخبر تعالى خبرا صدقا ، ويعد وعدا حقا بمبايعة عظيمة ، ومعاوضة جسيمة ، وهو أنه { اشْتَرَى ْ } بنفسه الكريمة { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ْ } فهي المثمن والسلعة المبيعة .
{ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ْ } التي فيها ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين من أنواع اللذات والأفراح ، والمسرات ، والحور الحسان ، والمنازل الأنيقات .
وصفة العقد والمبايعة ، بأن يبذلوا للّه نفوسهم وأموالهم في جهاد أعدائه ، لإعلاء كلمته وإظهار دينه ف { يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ْ } فهذا العقد والمبايعة ، قد صدرت من اللّه مؤكدة بأنواع التأكيدات .
{ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ ْ } التي هي أشرف الكتب التي طرقت العالم ، وأعلاها ، وأكملها ، وجاء بها أكمل الرسل أولو العزم ، وكلها اتفقت على هذا الوعد الصادق .
{ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا ْ } أيها المؤمنون القائمون بما وعدكم اللّه ، { بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ ْ } أي : لتفرحوا بذلك ، وليبشر بعضكم بعضا ، ويحث بعضكم بعضا .
{ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ْ } الذي لا فوز أكبر منه ، ولا أجل ، لأنه يتضمن السعادة الأبدية ، والنعيم المقيم ، والرضا من اللّه الذي هو أكبر من نعيم الجنات ، وإذا أردت أن تعرف مقدار الصفقة ، فانظر إلى المشتري من هو ؟ وهو اللّه جل جلاله ، وإلى العوض ، وهو أكبر الأعواض وأجلها ، جنات النعيم ، وإلى الثمن المبذول فيها ، وهو النفس ، والمال ، الذي هو أحب الأشياء للإنسان .
وإلى من جرى على يديه عقد هذا التبايع ، وهو أشرف الرسل ، وبأي كتاب رقم ، وهي كتب اللّه الكبار المنزلة على أفضل الخلق .
يخبر تعالى أنه عاوض عباده المؤمنين عن أنفسهم وأموالهم إذ بذلوها في سبيله بالجنة ، وهذا من فضله وكرمه وإحسانه ، فإنه قبل العوض عما يملكه بما تفضل به على عباده المطيعين له ؛ ولهذا قال الحسن البصري وقتادة : بايعهم والله فأغلى ثمنهم .
وقال شَمِر بن عطية : ما من مسلم إلا ولله ، عز وجل ، في عُنُقه بيعة ، وفَّى بها أو مات عليها ، ثم تلا هذه الآية .
ولهذا يقال : من حمل في سبيل الله بايع الله ، أي : قَبِل هذا العقد ووفى به .
وقال محمد بن كعب القُرَظي وغيره : قال عبد الله بن رواحة ، رضي الله عنه ، لرسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني ليلة العقبةِ - : اشترط لربك ولنفسك ما شئت ! فقال : " أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم " . قالوا : فما لنا إذا فعلنا ذلك ؟ قال : " الجنة " . قالوا : رَبِح البيعُ ، لا نُقِيل ولا نستقيل ، فنزلت :{[13877]} { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } الآية .
وقوله : { يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } أي : سواء قتلوا أو قُتلوا ، أو اجتمع لهم هذا وهذا ، فقد وجبت لهم الجنة ؛ ولهذا جاء في الصحيحين : " وتكفل الله لمن خرج في سبيله ، لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي ، وتصديق برسلي ، بأن توفاه أن يدخله الجنة ، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه ، نائلا ما نال من أجر أو غنيمة " . {[13878]} وقوله : { وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ } تأكيد لهذا الوعد ، وإخبار بأنه قد كتبه على نفسه الكريمة ، وأنزله على رسله في كتبه الكبار ، وهي{[13879]} التوراة المنزلة على موسى ، والإنجيل المنزل على عيسى ، والقرآن المنزل على محمد ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
وقوله : { وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ } [ أي : ولا واحد أعظم وفاءً بما عاهد عليه من الله ]{[13880]} فإنه لا يخلف الميعاد ، وهذا كقوله تعالى : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا } [ النساء : 87 ] { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا } [ النساء : 122 ] ؛ ولهذا قال : { فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } أي : فليستبشر من قام بمقتضى هذا العقد ووفى بهذا العهد ، بالفوز العظيم ، والنعيم{[13881]} المقيم .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ اللّهَ اشْتَرَىَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنّ لَهُمُ الّجَنّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىَ بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } .
يقول تعالى ذكره : إن الله ابتاع من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بالجنة وعدا عليه حقّا ، يقول : وعدهم الجنة جلّ ثناؤه ، وعدا عليه حقّا أن يوفي لهم به في كتبه المنزّلة التوراة والإنجيل والقرآن ، إذا هم وفوا بما عاهدوا الله فقاتلوا في سبيله ونصرة دينه أعداءه فَقَتلوا وقُتلوا وَمَنْ أوْفَى بِعَهدِهِ مِنَ اللّهِ يقول جلّ ثناؤه : ومن أحسن وفاء بما ضمن وشرط من الله . فاسْتَبْشِرُوا يقول ذلك للمؤمنين : فاستبشروا أيها المؤمنون الذين صدقوا الله فيما عاهدوا بِبَيْعِكُمْ أنفسكم وأموالكم بالذي بعتموها من ربكم ، فإن ذلك هو الفوز العظيم . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن حفص بن حميد ، عن شمر بن عطية ، قال : ما من مسلم إلا ولله في عنقه بيعة وفى بها أو مات عليها في قول الله : إنّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ المُوءْمِنِينَ . . . إلى قوله : وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ ثم حَلاّهم فقال : التّائِبُونَ العابِدُونَ . . . إلى : وَبَشّرِ المُوءْمِنِينَ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : إنّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ المُوءْمِنِينَ أنْفُسَهُمْ وأمْوَالَهُمْ يعني بالجنة .
قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن محمد بن يسار ، عن قتادة أنه تلا هذه الآية : إنّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ المُوءْمِنِينَ أنْفُسَهُمْ وأمْوَالَهُمْ بأنّ لَهُمُ الجَنّةَ قال : ثَامَنَهُم الله فأغلى لهم الثمن .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني منصور بن هارون ، عن أبي إسحاق الفزاري ، عن أبي رجاء ، عن الحسن أنه تلا هذه الآية : إنّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ المُوءْمِنِينَ أنْفُسَهُمْ وأمْوَالَهُمْ قال : بايعهم فأغلى لهم الثمن .
حدثنا الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب القرظي وغيره ، قالوا : قال عبد الله بن رواحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : اشترط لربك ونفسك ما شئت قال : «أشْتَرِطُ لرَبي أنْ تَعْبُدُوهُ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا ، وأشْتَرِطُ لِنَفْسِي أنْ تَمْنَعُونِي ممّا تَمْنَعونَ مِنْهُ أنْفُسَكُمْ وأمْوَالَكُمْ » قالوا : فإذا فعلنا ذلك فماذا لنا ؟ قال : «الجَنّة » قالوا : ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل فنزلت : إنّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ المُوءْمِنِينَ . . . الآية .
قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا عبيد بن طفيل العبسي ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم ، وسأله رجل عن قوله : إنّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ المُوءْمِنِينَ أنْفُسَهُمْ . . . الآية ، قال الرجل : ألا أحمل على المشركين فأقاتل حتى أقتل ؟ قال : ويلك أين الشرط : التّائِبُونَ العابِدُونَ ؟ .