غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ ٱشۡتَرَىٰ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَنفُسَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلۡجَنَّةَۚ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقۡتُلُونَ وَيُقۡتَلُونَۖ وَعۡدًا عَلَيۡهِ حَقّٗا فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ وَٱلۡقُرۡءَانِۚ وَمَنۡ أَوۡفَىٰ بِعَهۡدِهِۦ مِنَ ٱللَّهِۚ فَٱسۡتَبۡشِرُواْ بِبَيۡعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعۡتُم بِهِۦۚ وَذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ} (111)

111

التفسير : لما شرح فضائح المنافقين وقبائحهم بسبب تخلفهم عن غزوة تبوك ، وذكر أقسامهم وفرع على كل قسم ما كان لائقاً به ، عاد إلى بيان فضيلة الجهاد والتغريب فيه فقال : { إن الله اشترى } الآية . قال محمد بن كعب القرظي : لما بايعت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة - وهم سبعون نفساً - قال عبد الله بن رواحة : اشترط لربك ولنفسك ما شئت . فقال : أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم . قالوا : فإذا فعلنا ذلك فما لنا ؟ قال : الجنة ، قالوا : ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل فنزلت { إن الله اشترى } الآية . قال مجاهد والحسن ومقاتل : ثامنهم فأغلى ثمنهم . وقال جعفر الصادق عليه السلام : والله ما لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها . واعلم أن هذا الاشتراء وقع مجازاً عن الجزاء لأن المشتري إنما يشتري ما لا يملك والعبد وما يملكه لمولاه . ولهذا قال الحسن : اشترى أنفساً هو خلقها وأموالاً هو رزقها . والمراد بأنفسهم النفوس المجاهدة وبأموالهم التي ينفقونها في أسباب الجهاد وعلى أنفسهم وأهليهم وعيالهم على الوجه المشروع . وهاهنا نكتة هي أن قيم الطفل له أن يبيع مال الطفل من نفسه بشرط رعاية الغبطة ، ففي هذه الآية البائع والمشتري هو الله ففيه تنبيه على أن العبد كالطفل الذي لا يهتدي إلى مصالح نفسه وأنه تعالى هو المراعي لمصالحه حتى يوصله إلى أنواع الخيرات وأصناف العادات . وبوجه آخر الإنسان بالحقيقة عبارة عن الجوهر المجرد الذي هو من عالم الأرواح وهذا البدن وما يحتاج إليه من ضرورات المعاش كالآلات والوسائط لتحصيل الكمالات الموصلة إلى الدرجات العاليات ؛ فالبائع هو جوهر الروح القدسي ، والمشتري هو الله ، وأحد العوضين الجسد البالي والمال الفاني ، والعوض الآخر الجنة الباقية والسعادات الدائمة ، فالربح حاصل والخسران زائل ولهذا قال { فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به } وفي قوله { يقاتلون } معنى الأمر كقوله { وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم }

[ الصف : 11 ] وهو كالتفسير لتلك المبايعة { فيقتلون ويقتلون } أي إنهم يقتلون الكفار فلا يرجعون عنهم حتى يصيروا مقتولين . ومن قرأ بتقديم المجهول فمعناه أن طائفة منهم إذا صاروا مقتولين لم يصر ذلك رادعاً للباقين عن المقاتلة بقدر الإمكان . ومن العلماء من خصص هذا الوعد بجهاد السيف لظاهر قوله : { يقاتلون } . والتحقيق أن كل أنواع الجهاد يدخل فيه لأن الجهاد بالحجة والدعوة إلى دلائل التوحيد أكمل أثراً من القتال ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لعلي عليه السلام : «لأن يهدي الله على يدك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس » ولأن الجهاد بالسيف لا يحسن إلا بعد تقديم الجهاد بالحجة ، ولأن الإنسان جوهر شريف فمتى أمكن إزالة صفاته الرذيلة مع إبقاء ذاته الشريفة كان أولى من إفناء ذاته ، ألا ترى أن جلد الميتة لما كان منتفعاً به من بعض الوجوه حث الشرع على إبقائه فقال : «هلا أخذتم اهابها فدبغتموه فانتفعتم به » قوله { وعداً عليه } قال الزجاج : إنه منصوب بمعنى قوله : { بأن لهم الجنة } كأنه قيل : وعدهم الجنة وعداً فهو مصدر مؤكد ، وكذا قوله { حقاً } أو هو نعت للمصدر مؤكد وما الذي حصل { في التوراة والإنجيل والقرآن } قيل : وعد المجاهدين على الإطلاق ، وقيل : ذكر هذا البيع لأمة محمد ، وقيل : الأمر بالقتال { ومن أوفى } استفهام بمعنى الإنكار أي لا أحد أوفى بما وعد { من الله } لأنه الغني عن كل الحاجات القدر على كل المقدورات . وفي الآية أنواع من التوكيدات فأولها قوله : { إن الله اشترى } وإذا كان المشتري هو الإله الواجب الذات المتصف بجميع الكمالات المفيض لك الخيرات فما ظنك به ، ومنها أنه عبر عن إيصال الثواب بالبيع والشراء حتى يكون حقاً مؤكداً . ومنها أنه قال { بأن لهم الجنة } بحرف التحقيق وبلام التمليك دون أن يقول بالجنة . ومنها قوله { وعداً } و{ إنه لا يخلف الميعاد } . ومنها قوله { عليه } وكلمة «على » للوجوب ظاهراً . ومنها قوله : { حقاً } وهو تأكيد التحقيق . ومنها قوله : { في التوراة والإنجيل والقرآن } وإنه يجري مجرى الإشهاد لجميع الكتب الإلهية وجميع الأنبياء والرسل هذه المبايعة . ومنها قوله : { ومن أوفى بعهده من الله } وفيه تنبيه على أنه لا يكذب ولا يخلف البتة . ومنها قوله : { فاستبشروا } والبشارة الخبر الصدق الأول . ومنها قوله : { وذلك هو الفوز } ثم وصف الفوز ب { العظيم } واعلم أن هذه الخاتمة تقع على ثلاثة أوجه : أحدها { ذلك الفوز } بغير «هو » وإنه في ستة مواضع : في «براءة » موضعان ، وفي «النساء والمائدة والصف والتغابن » وما في «النساء » بزيادة واو . والآخر { وذلك هو الفوز } بزيادة «هو » وذلك في ستة مواضع أخرى في «براءة » موضعان و«يونس » و«المؤمن » و«الدخان » و«الحديد » وما في براءة أحدهما بزيادة الواو وهو خاتمة هذه الآية ، وكذلك ما في «المؤمن » . وسبب هذا الاختلاف أن الجملة إذا جاءت بعد جملة من غير تراخٍ بنزول جاءت مربوطة إما بواو العطف وإما بكناية تعود من الثانية إلى الأولى وإما بإشارة فيها إليها . وربما جمع بين الشيئين منها والثلاثة للدلالة على المبالغة . وقد جمع في هذه الخاتمة بين الثلاثة لغاية التوكيد والمبالغة ، أو لأنه ذكر الكتب الثلاثة فكل رابطة في مقابلة كتاب واحد . وكذلك في «المؤمن » وقع الثلاثة في مقابلة ثلاثة أدعية { فاغفر } { وقهم } { وأدخلهم } قال أبو القاسم البلخي : لا بد من حصول الأعواض على الآلام للأطفال والبهائم قياساً على ما أثبته الله تعالى للمكلفين من العوض على ألم القتل وهو الجنة .

/خ119