البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ ٱشۡتَرَىٰ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَنفُسَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلۡجَنَّةَۚ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقۡتُلُونَ وَيُقۡتَلُونَۖ وَعۡدًا عَلَيۡهِ حَقّٗا فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ وَٱلۡقُرۡءَانِۚ وَمَنۡ أَوۡفَىٰ بِعَهۡدِهِۦ مِنَ ٱللَّهِۚ فَٱسۡتَبۡشِرُواْ بِبَيۡعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعۡتُم بِهِۦۚ وَذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ} (111)

{ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم } :

نزلت في البيعة الثانية وهي بيعة العقبة الكبرى ، وهي التي أناف فيها رجال الأنصار على السبعين ، وكان أصغرهم سناً عقبة بن عمرو .

وذلك أنهم اجتمعوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة فقالوا : اشترط لك ولربك ، والمتكلم بذلك عبد الله بن رواحة ، فاشترط صلى الله عليه وسلم حمايته مما يحمون منه أنفسهم ، واشترط لربه التزام الشريعة وقتال الأحمر والأسود في الدفع عن الحوزة فقالوا : ما لنا على ذلك ؟ قال : الجنة ، فقالوا : نعم ربح البيع ، لا تقيل ولا نقائل .

وفي بعض الروايات : ولا نستقيل ، فنزلت .

والآية عامة في كل من جاهد في سبيل الله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة ، وعن جابر بن عبد الله : " نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فكبر الناس ، فأقبل رجل من الأنصار ثانياً طرف ركابه على أحد عاتقيه فقال : يا رسول الله أنزلت هذه الآية ؟ قال : «نعم » فقال : بيع ربح لا تقيل ولا نستقيل " وفي بعض الروايات : فخرج إلى الغزو فاستشهد .

وقال الحسن : لا والله إن في الأرض مؤمن إلا وقد أحدث بيعته .

وقرأ عمر بن الخطاب والأعمش : وأموالهم بالجنة ، مثّل تعالى إثابتهم بالجنة على بذل أنفسهم وأموالهم في سبيله بالشراء ، وقدم الأنفس على الأموال ابتداء بالأشرف وبما لا عوض له إذا فقد .

وفي لفظة اشترى لطيفة وهي : رغبة المشتري فيما اشتراه واغتباطه به ، ولم يأت التركيب أن المؤمنين باعوا ، والظاهر أنّ هذا الشراء هو مع المجاهدين .

وقال ابن عيينة : اشترى منهم أنفسهم أن لا يعملوها إلا في طاعة ، وأموالهم أن لا ينفقوها إلا في سبيل الله ، فالآية على هذا أعم من القتل في سبيل الله .

وعلى هذا القول يكون يقاتلون مستأنفاً ، ذكر أعظم أحوالهم ، ونبه على أشرف مقامهم .

وعلى الظاهر وقول الجمهور يكون يقاتلون ، في موضع الحال .

وقرأ الحسن ، وقتادة ، وأبو رجاء ، والعربيان ، والحرميان ، وعاصم : أولاً على البناء للفاعل ، وثانياً على البناء للمفعول .

وقرأ النخعي وابن وثاب وطلحة والأعمش والإخوان بعكس ذلك ، والمعنى واحد ، إذ الغرض أنّ المؤمنين يقاتلون ويؤخذ منهم من يقتل ، وفيهم من يقتل ، وفيهم من يجتمع له الأمران ، وفيهم من لا يقع له واحد منهما ، بل تحصل منهم المقاتلة .

وقال الزمخشري : يقاتلون فيه معنى الأمر لقوله تعالى : { تجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم } انتهى .

فعلى هذا لا تكون الجملة في موضع الحال ، لأن ما فيه معنى الأمر لا يقع حالاً .

وانتصب وعداً على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة ، لأنّ معنى اشترى بأن لهم الجنة وعدهم الله الجنة على الجهاد في سبيله ، والظاهر من قوله : في التوراة والإنجيل والقرآن ، أنّ كل أمة أمرت بالجهاد ووعدت عليه بالجنة ، فيكون في التوراة متعلقاً بقوله : اشترى .

ويحتمل أن يكون متعلقاً بتقدير قوله مذكوراً ، وهو صفة فالعامل فيه محذوف أي : وعداً عليه حقاً مذكوراً في التوراة ، فيكون هذا الوعد بالجنة إنما هدى هذه الأمة قد ذكر في التوراة والإنجيل والقرآن .

وقيل : الأمر بالجهاد والقتال موجود في جميع الشرائع ، ومن أوفى استفهام على جهة التقرير أي : لا أحد ، ولما أكد الوعد بقوله عليه حقاً أبرزه هنا في صورة العهد الذي هو آكد وأوثق من الوعد ، إذ الوعد في غير حق الله تعالى جائز إخلافه ، والعهد لا يجوز إلا الوفاء به ، إذ هو آكد من الوعد .

قال الزمخشري : ومن أوفى بعهده من الله ، لأن إخلاف الميعاد قبيح لا يقدم عليه الكرام من الخلق مع جوازه عليهم لحاجتهم ، فكيف بالغني الذي لا يجوز عليه قبيح قط ؟ ولا ترى ترى غيباً في الجهاد أحسن منه وأبلغ انتهى .

وفيه دسيسة الاعتزال ، واستعمال قط في غير موضوعة ، لأنه أتى به مع قوله : لا يجوز عليه قبيح قط .

وقط ظرف ماض فلا يعمل فيه إلا الماضي .

ثم قال : فاستبشروا ، خاطبهم على سبيل الالتفات لأنّ في مواجهته تعالى لهم بالخطاب تشريف لهم ، وهي حكمة الالتفات هنا .

وليست استفعل هنا للطلب ، بل هي بمعنى أفعل كاستوقد وأوقد .

والذي بايعتم به وصف على سبيل التوكيد ، ومحيل على البيع السابق .

ثم قال : وذلك هو الفوز العظيم أي : الظفر للحصول على الربح التام ، والغبطة في البيع لحط الذنب ودخول الجنة .