فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ ٱشۡتَرَىٰ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَنفُسَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلۡجَنَّةَۚ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقۡتُلُونَ وَيُقۡتَلُونَۖ وَعۡدًا عَلَيۡهِ حَقّٗا فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ وَٱلۡقُرۡءَانِۚ وَمَنۡ أَوۡفَىٰ بِعَهۡدِهِۦ مِنَ ٱللَّهِۚ فَٱسۡتَبۡشِرُواْ بِبَيۡعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعۡتُم بِهِۦۚ وَذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ} (111)

{ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } لما شرح الله تعالى فضائح المنافقين وقبائحهم بسبب تخلفهم عن غزوة تبوك ، وذكر أقسامهم وفرع على كل قسم منها ما هو لائق به ، عاد على بيان فضيلة الجهاد والترغيب فيه وقد بالغ في ذلك على وجه لا مزيد عليه حيث عبر عن قبوله أنفسهم وأموالهم التي بذلوها في سبيله وإثباته إياهم بمقابلتها بالجنة بالشراء ، فذكر الشراء تمثيل على طريقة الاستعارة التبعية كما في قوله : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } .

ثم جعل المبيع الذي هو العمدة والمقصد ، أنفس المؤمنين وأموالهم وجعل الثمن الذي هو الوسيلة في الصفقة الجنة ، ولم يجعل الأمر على العكس بأن يقال أن الله باع الجنة من المؤمنين بأنفسهم وأموالهم ، ليدل على أن المقصود في العقد هو الجنة وما بذله المؤمنون في مقابلتها وسيلة إليها إيذانا بكمال العناية بهم وبأموالهم .

ثم إنه لم يقل بالجنة بل قال { بأن لهم الجنة } مبالغة في تقرر وصول الثمن إليهم واختصاصه بهم كأنه قيل بالجنة الثابتة لهم المختصة بهم ، وأصل الشراء بين العباد هو إخراج الشيء عن الملك بشيء آخر مثله أو دونه أو أنفع منه ، فهؤلاء المجاهدون باعوا أنفسهم من الله بالجنة التي أعدها الله للمؤمنين أي بأن يكونوا من أهل الجنة وممن يسكنها جادوا بأنفسهم وهي أنفس الإعلاق والجود بها غاية الجود ، وجاد الله عليهم بالجنة وهي أعظم ما يطلبه العباد ويتوسلون إليه بالأعمال ، والمراد بالأنفس هنا أنفس المجاهدين ، وبالأموال ما ينفقونه في الجهاد أو في جميع وجوه البر والطاعات ، ويدخل فيها الجهاد دخولا أوليا .

قال أهل المعاني : لا يجوز أن يشتري الله شيئا في الحقيقة لأن المشتري إنما يشتري ما لا يملكه والأشياء كلها ملك لله عز وجل ، ولهذا قال الحسن : أنفسنا هو خلقها وأموالنا هو رزقنا إياها ، لكن جرى هذا مجرى التلطف في الدعاء إلى الطاعة والجهاد وجعل ذلك استبدالا وشراء ، ودخلت الباء هنا على المتروك على بابها وسماها أبو البقاء باء المقابلة كقولهم باء العوض وباء الثمنية .

وقرأ عمر بن الخطاب بالجنة ، عن جابر بن عبد الله قال : لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في المسجد كبر الناس في المسجد فأقبل رجل من الأنصار ثانيا طرفي ردائه على عاتقه فقال : يا رسول الله أنزلت هذه الآية قال : نعم ، فقال الأنصاري : بيع ربيح لا نقيل ولا نستقيل .

وقد أخرج ابن سعد عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اشترط في بيعة العقبة على من بايعه من الأنصار أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة والسمع والطاعة ولا ينازعوا في الأمر أهله ، ويمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأهليهم قالوا نعم ، قال قائل من الأنصار نعم لك هذا يا رسول الله فما لنا قال الجنة ، وأخرجه ابن سعد أيضا من وجه آخر ، وليس في قصة العقبة ما يدل على أنها سبب نزول الآية . { يقاتلون في سبيل الله } استئناف لبيان البيع الذي يقتضيه الاشتراء المذكور لا لبيان نفس الاشتراء ، لأن قتالهم في سبيل الله ليس باشتراء من الله أنفسهم وأموالهم كأنه قيل كيف يبيعونها بالجنة فقيل يقاتلون ، وقيل فيه معنى الأمر أي قاتلوا في سبيله .

ثم بين هذه المقاتلة بقوله : { فيقتلون } أعداء الله { ويُقتلون } في طاعته والمراد أنهم يقدمون على قتل الكافر في الحرب ويبذلون أنفسهم في ذلك ، فإن فعلوا فقد استحقوا الجنة ، وإن لم يقع القتل عليهم بعد الإبلاء في الجهاد والتعرض للموت بالإقدام على الكفار ، وتقديم حالة القاتلية على حالة المقتولية للإيذان بعدم الفرق بينهما في كونهما مصداقا لكون القتال بذلا للنفس .

وفي قراءة بتقديم المبني للمفعول رعاية لكون الشهادة عريقة في الباب ، وإيذانا بعدم مبالاتهم بالموت في سبيل الله بل بكونه أحب إليهم من السلامة أي فيقتل بعضهم ، ويقاتل الباقي يعني لا يشترط اجتماع الأمرين في الشخص الواحد بل يتحقق الفضل العظيم وإن لم يوجد واحد من الوصفين كما إذا وجدت المضاربة من غير قتل بل يتحقق الجهاد بمجرد العزم وتكثير السواد .

{ وعدا عليه حقا } مصدران منصوبان بفعلهما المحذوف أي وعدهم وعدا وحق ذلك الوعد حقا أي تحقق وثبت إخبار من الله سبحانه بأن فريضة الجهاد واستحقاق الجنة بها قد ثبت الوعد بها من الله .

{ في التوراة والإنجيل والقرآن } أي كما وقع في القرآن وفيه وجهان ( أحدهما ) أنه متعلق باشترى وعلى هذا ففيه دليل على أن الأمر بالجهاد موجود في جميع الشرائع ومكتوب على جميع أهل الملل وكل أمة وعدت عليه بالجنة ( والثاني ) أنه متعلق بمحذوف والمعنى وعدا مذكورا كائنا في التوراة وعلى هذا فيكون الوعد بالجنة لهذه الأمة مذكورا في كتب الله المنزلة .

{ ومن أوفى بعهده من الله } في هذا من تأكيد الترغيب للمجاهدين في الجهاد والتنشيط لهم على بذل الأنفس والأموال ما لا يخفى ، فإنه أولا أخبر بأنه قد اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة وجاء بهذه العبارة الفخيمة وهي كون الجنة قد صارت ملكا لهم ، ثم أخبر ثانيا بأنه قد وعد بذلك في كتبه المنزلة ثم أخبر ثالثا بأنه بعد هذا الوعد الصادق لا بد من حصول الموعود به فإنه لا أحد أوفى بعهده من الله سبحانه وهو صادق الوعد لا يخلف الميعاد ، فإن إخلاف الوعد مما لا يكاد يصدر عن كرام الخلق مع إمكان صدوره منهم ، فكيف بجناب الخلاق الغني عن العالمين جل جلاله ، فالجملة اعتراض مقرر لمضمون ما قبله من حقية الوعد على نهج المبالغة في كونه أوفى بالعهد من كل واف .

ثم زادهم سرورا وحبورا فقال : { فاستبشروا ببيعكم } البشارة هي إظهار السرور وظهوره يكون في بشرة الوجه ، ولذا يقال أسارير الوجه أي التي يظهر فيها السرور ، والسين ليست للطلب كاستوقد وأوقد بل للمطاوعة وقد تقدم إيضاح هذا والفاء لترتيب الاستبشار أو الأمر به على ما قبله ، والمعنى أظهروا السرور وافرحوا غاية الفرح بهذا البيع .

{ الذي بايعتم به } الله عز وجل فقد ربحتم فيه ربحا لم يربحه أحد من الناس إلا من فعل مثل فعلكم ، وفيه التفات عن الغيبة تشريفا لهم على تشريف وزيادة لسرورهم على سرور ، وفيه زيادة تقرير بيعهم وإشعار بكونه مغايرا لسائر البياعات ، فإنه بيع للفاني بالباقي وكلا البدلين له سبحانه وتعالى .

والإشارة بقوله : { وذلك } إلى الجنة أو إلى نفس المبيع الذي ربحوا فيه الجنة { هو الفوز العظيم } وصف الفوز وهو الظفر بالمطلوب بالعظيم يدل على أنه فوز لا فوز مثله ، قال عمر بن الخطاب : إن الله بايعك وجعل الصفقتين لك ، وقال الحسن : اسمعوا إلى بيعة ربيحة بايع الله بها كل مؤمن ، وعنه أن الله أعطاك الدنيا فاشتر الجنة ببعضها ، وقال قتادة : ثامنهم فأغلى لهم ، وقال الصادق : ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها .