قال الله مسليا لرسوله ومخبرا أن هؤلاء الخلق لهم سلف صنعوا كصنيعهم فقال : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ } أي : من الذين لا يصلحون للخير ولا يزكون عليه يعارضونهم ويردون عليهم ويجادلونهم بالباطل .
من بعض فوائد ذلك ، أن يعلو الحق على الباطل وأن يتبين الحق ويتضح اتضاحا عظيما ، لأن معارضة الباطل للحق مما تزيده وضوحا وبيانا وكمال استدلال وأن يتبين ما يفعل الله بأهل الحق من الكرامة وبأهل الباطل من العقوبة ، فلا تحزن عليهم ولا تذهب نفسك عليهم حسرات { وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا } يهديك فيحصل لك المطلوب ومصالح دينك ودنياك .
{ وَنَصِيرًا } ينصرك على أعدائك ويدفع عنك كل مكروه في أمر الدين والدنيا فاكتف به وتوكل عليه .
فيسليه ربه ويعزيه . فتلك هي السنة الجارية قبله في جميع الرسالات . فلكل نبي أعداء يهجرون الهدى الذي يجيئهم به ، ويصدون عن سبيل الله . ولكن الله يهدي رسله إلى طريق النصر على أعدائهم المجرمين :
( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين . وكفى بربك هاديا ونصيرا ) . .
ولله الحكمة البالغة . فإن بروز المجرمين لحرب الأنبياء والدعوات يقوي عودها ؛ ويطبعها بطابع الجد الذي يناسب طبيعتها . وكفاح أصحاب الدعوات للمجرمين الذين يتصدون لها - مهما كلفهم من مشقة وكلف الدعوات من تعويق - هو الذي يميز الدعوات الحقة من الدعاوى الزائفة ؛ وهو الذي يمحص القائمين عليها ، ويطرد الزائفين منهم ؛ فلا يبقي بجوارها إلا العناصر المؤمنة القوية المتجردة ، التي لا تبتغي مغانم قريبة . ولا تريد إلا الدعوة خالصة ، تبتغي بها وجه الله تعالى .
ولو كانت الدعوات سهلة ميسورة تسلك طرقا ممهدة مفروشة بالأزهار ، ولا يبرز لها في الطريق خصوم ومعارضون ، ولا يتعرض لها المكذبون والمعاندون ، لسهل على كل إنسان أن يكون صاحب دعوة ، ولاختلطت دعوات الحق ودعاوى الباطل ، ووقعت البلبلة والفتنة . ولكن بروز الخصوم والأعداء للدعوات ، هو الذي يجعل الكفاح لانتصارها حتما مقضيا ، ويجعل الآلام والتضحيات لها وقودا . فلا يكافح ويناضل ، ويحتمل الآلام والتضحيات إلا أصحاب دعوة الحق الجادون المؤمنون ، الذين يؤثرون دعوتهم على الراحة والمتاع ، وأعراض الحياة الدنيا . بل على الحياة نفسها حين تقتضيهم دعوتهم أن يستشهدوا في سبيلها . ولا يثبت على الكفاح المرير إلا أصلبهم عودا ، وأشدهم إيمانا ، وأكثرهم تطلعا إلى ما عند الله واستهانة بما عند الناس . . عندئذ تتميز دعوة الحق من دعاوى الباطل . وعندئذ تمحص الصفوف فيتميز الأقوياء من الضعفاء . وعندئذ تمضي دعوة الحق في طريقها برجالها الذين ثبتوا عليها ، واجتازوا امتحانها وبلاءها . أولئك هم الأمناء عليها الذين يحتملون تكاليف النصر وتبعاته . وقد نالوا هذا النصر بثمنه الغالي ، وأدوا ضريبته صادقين مؤثرين .
وقد علمتهم التجارب والابتلاءات كيف يسيرون بدعوتهم بين الأشواك والصخور . وقد حفزت الشدائد والمخاوف كل طاقاتهم ومقدراتهم ، فنما رصيدهم من القوة وذخيرتهم من المعرفة . فيكون هذا كله رصيدا للدعوة التي يحملون رايتها على السراء والضراء .
والذي يقع غالبا أن كثرة الناس تقف متفرجة على الصراع بين المجرمين وأصحاب الدعوات ؛ حتى إذا تضخم رصيد التضحيات والآلام في صف أصحاب الدعوات ، وهم ثابتون على دعوتهم ، ماضون في طريقهم ، قالت الكثرة المتفرجة أو شعرت أنه لا يمسك أصحاب الدعوة على دعوتهم على الرغم من التضحيات والآلام ، إلا أن في هذه الدعوة ما هو أغلى مما يضحون به وأثمن . . وعندئذ تتقدم الكثرة المتفرجة لترى ما هو هذا العنصر الغالي الثمين الذي يرجح كل أعراض الحياة ، ويرجح الحياة ذاتها عند أصحاب الدعوة . وعندئذ يدخل المتفرجون أفواجا في هذه العقيدة بعد طول التفرج بالصراع !
من أجل هذا كله جعل الله لكل نبي عدوا من المجرمين ؛ وجعل المجرمين يقفون في وجه دعوة الحق ، وحملة الدعوة يكافحون المجرمين ، فيصيبهم ما يصيبهم وهم ماضون في الطريق ، والنهاية مقدرة من قبل ، ومعروفة لا يخطئها الواثقون بالله . إنها الهداية إلى الحق ، والانتهاء إلى النصر : ( وكفى بربك هاديا ونصيرا ) .
وبروز المجرمين في طريق الأنبياء أمر طبيعي . فدعوة الحق إنما تجيء في أوانها لعلاج فساد واقع في الجماعة أو في البشرية . فساد في القلوب ، وفساد في النظم ، وفساد في الأوضاع . ووراء هذا الفساد يكمن المجرمون ، الذين ينشئون الفساد من ناحية ، ويستغلونه من ناحية . والذين تتفق مشاربهم مع هذا الفساد ، وتتنفس شهواتهم في جوه الوبيء . والذين يجدون فيه سندا للقيم الزائفة التي يستندون هم في وجودهم إليها . . فطبيعي إذن أن يبرزوا للأنبياء وللدعوات دفاعا عن وجودهم ، واستبقاء للجو الذي يملكون أن يتنفسوا فيه . وبعض الحشرات يختنق برائحة الأزهار العبقة ، ولا يستطيع الحياة إلا في المقاذر ، وبعض الديدان يموت في الماء الطاهر الجاري ، ولا يستطيع الحياة إلا في المستنقع الآسن . وكذلك المجرمون . . فطبيعي إذن أن يكونوا أعداء لدعوة الحق ، يستميتون في كفاحها . وطبيعي أن تنتصر دعوة الحق في النهاية ، لأنها تسير مع خط الحياة ، وتتجه إلى الأفق الكريم الوضيء الذي تتصل فيه بالله ، والذي تبلغ عنده الكمال المقدر لها كما أراد الله . . ( وكفى بربك هاديا ونصيرا ) . .
هذه تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن ما لقِيَه من بعض قومه هو سنة من سنن الأمم مع أنبيائهم . وفيه تنبيه للمشركين ليَعْرِضوا أحوالهم على هذا الحكم التاريخي فيعلموا أن حالهم كحال مَن كذّبوا من قوم نوح وعاد وثمود .
والقول في قوله : { وكذلك } تقدم في قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } [ البقرة : 143 ] . والعدوّ : اسم يقع على المفرد والجمع والمراد هنا الجمع .
ووصف أعداء الأنبياء بأنهم من المجرمين ، أي من جملة المجرمين ، فإن الإجرام أعمّ من عداوة الأنبياء وهو أعظمها . وإنما أريد هنا تحقيق انضواء أعداء الأنبياء في زمرة المجرمين ، لأن ذلك أبلغ في الوصف من أن يقال : عدوًّا مجرمين كما تقدم عند قوله تعالى : { قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } في سورة البقرة ( 67 ) .
وأعقب التسلية بالوعد بهداية كثير ممّن هم يومئذ مُعرِضون عنه كما قال النبي : لعلّ الله أن يُخرج من أصلابهم مَن يعبدُه وبأنه ينصره على الذين يُصرّون على عداوته لأن قوله : وكفى بربك هادياً ونصيراً } تعريض بأن يفوض الأمر إليه فإنه كاف في الهداية والنصر .
والباء في قوله : { بربك } تأكيد لاتصال الفاعل بالفعل . وأصله : كفى ربُّك في هذه الحالة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يقول الله عز وجل: يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم {وكذلك} يعني: وهكذا {جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين}... أي: فلا يكبرن عليك، فإن الأنبياء قبلك قد لقيت هذا التكذيب من قومهم.
ثم قال عز وجل: {وكفى بربك هاديا} إلى دينه {ونصيرا}، يعني: ومانعا، فلا أحد أهدى من الله عز وجل، ولا أمنع منه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"وكَذلكَ جَعَلْنا لِكُلّ نَبِيّ عَدُوّا مِنَ المُجْرِمِينَ" يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وكما جعلنا لك يا محمد أعداء من مشركي قومك، كذلك جعلنا لكلّ من نبأناه من قبلك عدوّا من مشركي قومه، فلم تخصص بذلك من بينهم. يقول: فاصبر لِما نالك منهم كما صبر مِن قبلك أولو العزم من رسلنا...
وقوله: "وكَفَى برَبّكَ هادِيا وَنَصِيرا"، يقول تعالى ذكره لنبيه: وكفاك يا محمد بربك هاديا يهديك إلى الحقّ، ويبصرك الرشد، "ونصيرا": يقول: ناصرا لك على أعدائك، يقول: فلا يهولنك أعداؤك من المشركين، فإني ناصرك عليهم، فاصبر لأمري، وامض لتبليغ رسالتي إليهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ثم بشر رسوله بالحفظ له والنصر والظفر على أعدائه، وهو قوله: {وكفى بربك هاديا ونصيرا}.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{وكفى بربك هاديا} يهديك وينصرك فلا تبال بمن يعاديك.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} أي: كما حصل لك -يا محمد- في قومك من الذين هجروا القرآن، كذلك كان في الأمم الماضين؛ لأن الله جعل لكل نبي عدوا من المجرمين، يدعون الناس إلى ضلالهم وكفرهم، كما قال تعالى:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 112 -113]؛ ولهذا قال هاهنا: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} أي: لمن اتبع رسوله، وآمن بكتابه وصدقه واتبعه، فإن الله هاديه وناصره في الدنيا والآخرة. وإنما قال: {هَادِيًا وَنَصِيرًا} لأن المشركين كانوا يصدون الناس عن اتباع القرآن، لئلا يهتدي أحد به، ولتغلب طريقتهم طريقة القرآن؛ فلهذا قال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وكذلك} أي ومثل ما فعلنا من هذا الفعل العظيم وأنت أعظم الخلق لدينا {جعلنا} بما لنا من العظمة {لكل نبي} أي من الأنبياء قبلك، رفعة لدرجاتهم {عدواً من المجرمين} الذين طبعناهم على الشغف بقطع ما يقتضي الوصل فأضللناهم بذلك إهانة لهم، فاصبر كما صبروا فإني سأهدي بك من شئت، وأنصرك على غيرهم، وأكرم قومك من عذاب الاستئصال تشريفاً لك. ولما كان موطناً تعلق فيه النفوس متشوقة إلى الهداية بعد هذا الطبع، والنصرة بعد ذلك الجعل، كان كأنه قيل: لا تحزن فلنجعلن لك ولياً ممن نهديه للإيمان، ولننصرنهم على عدوهم كما فعلنا بمن قبلك، بل أعظم حتى نقضي أممهم من ذلك العجب، ولا يسعهم إلا الخضوع لكم والدخول في ظلال عزكم، ولما كان ذلك -لكثرة المعادين- أمراً يحق له الاستبعاد، قال عاطفاً على ما تقديره؛ ثم نصر إخوانك من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على من جعلهم أعداءهم ربُّك الذي أرسلهم: {وكفى بربك} أي المحسن إليك {هادياً} يهدي بك من قضى بسعادته {ونصيراً} ينصرك على من حكم بشقاوته.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فيسليه ربه ويعزيه. فتلك هي السنة الجارية قبله في جميع الرسالات. فلكل نبي أعداء يهجرون الهدى الذي يجيئهم به، ويصدون عن سبيل الله. ولكن الله يهدي رسله إلى طريق النصر على أعدائهم المجرمين:
(وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين. وكفى بربك هاديا ونصيرا)..
ولله الحكمة البالغة. فإن بروز المجرمين لحرب الأنبياء والدعوات يقوي عودها؛ ويطبعها بطابع الجد الذي يناسب طبيعتها. وكفاح أصحاب الدعوات للمجرمين الذين يتصدون لها -مهما كلفهم من مشقة وكلف الدعوات من تعويق- هو الذي يميز الدعوات الحقة من الدعاوى الزائفة؛ وهو الذي يمحص القائمين عليها، ويطرد الزائفين منهم؛ فلا يبقي بجوارها إلا العناصر المؤمنة القوية المتجردة، التي لا تبتغي مغانم قريبة. ولا تريد إلا الدعوة خالصة، تبتغي بها وجه الله تعالى.
ولو كانت الدعوات سهلة ميسورة تسلك طرقا ممهدة مفروشة بالأزهار، ولا يبرز لها في الطريق خصوم ومعارضون، ولا يتعرض لها المكذبون والمعاندون، لسهل على كل إنسان أن يكون صاحب دعوة، ولاختلطت دعوات الحق ودعاوى الباطل، ووقعت البلبلة والفتنة. ولكن بروز الخصوم والأعداء للدعوات، هو الذي يجعل الكفاح لانتصارها حتما مقضيا، ويجعل الآلام والتضحيات لها وقودا. فلا يكافح ويناضل، ويحتمل الآلام والتضحيات إلا أصحاب دعوة الحق الجادون المؤمنون، الذين يؤثرون دعوتهم على الراحة والمتاع، وأعراض الحياة الدنيا. بل على الحياة نفسها حين تقتضيهم دعوتهم أن يستشهدوا في سبيلها. ولا يثبت على الكفاح المرير إلا أصلبهم عودا، وأشدهم إيمانا، وأكثرهم تطلعا إلى ما عند الله واستهانة بما عند الناس.. عندئذ تتميز دعوة الحق من دعاوى الباطل. وعندئذ تمحص الصفوف فيتميز الأقوياء من الضعفاء. وعندئذ تمضي دعوة الحق في طريقها برجالها الذين ثبتوا عليها، واجتازوا امتحانها وبلاءها. أولئك هم الأمناء عليها الذين يحتملون تكاليف النصر وتبعاته. وقد نالوا هذا النصر بثمنه الغالي، وأدوا ضريبته صادقين مؤثرين.
وقد علمتهم التجارب والابتلاءات كيف يسيرون بدعوتهم بين الأشواك والصخور. وقد حفزت الشدائد والمخاوف كل طاقاتهم ومقدراتهم، فنما رصيدهم من القوة وذخيرتهم من المعرفة. فيكون هذا كله رصيدا للدعوة التي يحملون رايتها على السراء والضراء.
والذي يقع غالبا أن كثرة الناس تقف متفرجة على الصراع بين المجرمين وأصحاب الدعوات؛ حتى إذا تضخم رصيد التضحيات والآلام في صف أصحاب الدعوات، وهم ثابتون على دعوتهم، ماضون في طريقهم، قالت الكثرة المتفرجة أو شعرت أنه لا يمسك أصحاب الدعوة على دعوتهم على الرغم من التضحيات والآلام، إلا أن في هذه الدعوة ما هو أغلى مما يضحون به وأثمن.. وعندئذ تتقدم الكثرة المتفرجة لترى ما هو هذا العنصر الغالي الثمين الذي يرجح كل أعراض الحياة، ويرجح الحياة ذاتها عند أصحاب الدعوة. وعندئذ يدخل المتفرجون أفواجا في هذه العقيدة بعد طول التفرج بالصراع!
من أجل هذا كله جعل الله لكل نبي عدوا من المجرمين؛ وجعل المجرمين يقفون في وجه دعوة الحق، وحملة الدعوة يكافحون المجرمين، فيصيبهم ما يصيبهم وهم ماضون في الطريق، والنهاية مقدرة من قبل، ومعروفة لا يخطئها الواثقون بالله. إنها الهداية إلى الحق، والانتهاء إلى النصر: (وكفى بربك هاديا ونصيرا).
وبروز المجرمين في طريق الأنبياء أمر طبيعي. فدعوة الحق إنما تجيء في أوانها لعلاج فساد واقع في الجماعة أو في البشرية. فساد في القلوب، وفساد في النظم، وفساد في الأوضاع. ووراء هذا الفساد يكمن المجرمون، الذين ينشئون الفساد من ناحية، ويستغلونه من ناحية. والذين تتفق مشاربهم مع هذا الفساد، وتتنفس شهواتهم في جوه الوبيء. والذين يجدون فيه سندا للقيم الزائفة التي يستندون هم في وجودهم إليها.. فطبيعي إذن أن يبرزوا للأنبياء وللدعوات دفاعا عن وجودهم، واستبقاء للجو الذي يملكون أن يتنفسوا فيه. وبعض الحشرات يختنق برائحة الأزهار العبقة، ولا يستطيع الحياة إلا في المقاذر، وبعض الديدان يموت في الماء الطاهر الجاري، ولا يستطيع الحياة إلا في المستنقع الآسن. وكذلك المجرمون.. فطبيعي إذن أن يكونوا أعداء لدعوة الحق، يستميتون في كفاحها. وطبيعي أن تنتصر دعوة الحق في النهاية، لأنها تسير مع خط الحياة، وتتجه إلى الأفق الكريم الوضيء الذي تتصل فيه بالله، والذي تبلغ عنده الكمال المقدر لها كما أراد الله.. (وكفى بربك هاديا ونصيرا)..
وإذا لم يكن للرسول أعداء، فلماذا جاء؟ لو انتظرنا من الجميع ساعة يأتي الرسول أن يصدقوه ويؤمنوا به إذن: فلماذا جاء الرسول؟ لا يأتي الرسول إلا إذا طم الفساد وعم، كما أننا لا نأتي بالطبيب إلا إذا حدث مرض أو وباء. وهؤلاء القوم كانت لهم سيادة ومكانة، وقد جاء الإسلام ليسوي بين الناس، ويسلب هؤلاء سيادتهم، فلا بد أن يقفوا منه موقف العداء، وهذا العداء هو حيثية وجود الرسول فيهم. وليس النبي صلى الله عليه وسلم بدعا في ذلك، فما من نبي إلا وكان له أعداء، مع أن الأنبياء السابقين كان النبي منهم في فترة زمنية محدودة وفي مكان محدود. أما رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فكانت رسالة عامة في الزمان وفي المكان، ولا بد أن يتناسب العداء- إذن- مع انتشار الرسالة وعمومها في الزمان والمكان إلى قيام الساعة وعلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يوطن نفسه ذلك.