قوله تعالى : { قالت رسلهم أفي الله شك } ، هذا استفهام بمعنى نفي ما اعتقدوه ، { فاطر السموات والأرض } ، خالقها ، { يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم } ، أي : ذنوبكم و{ من } صلة ، { ويؤخركم إلى أجل مسمىً } ، إلى حين استيفاء آجالكم فلا يعاجلكم بالعذاب . { قالوا } ، للرسل : { إن أنتم إلا بشر مثلنا } ، في الصورة ، ولستم ملائكة وإنما ، { تريدون } ، بقولكم ، { أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين } ، حجة بينة على صحة دعواكم .
{ قَالَتِ } لهم { رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ } أي : فإنه أظهر الأشياء وأجلاها ، فمن شك في الله { فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } الذي وجود الأشياء مستند إلى وجوده ، لم يكن عنده ثقة بشيء من المعلومات ، حتى الأمور المحسوسة ، ولهذا خاطبتهم الرسل خطاب من لا يشك فيه ولا يصلح الريب فيه { يَدْعُوكُمْ } إلى منافعكم ومصالحكم { لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } أي : ليثيبكم على الاستجابة لدعوته بالثواب العاجل والآجل ، فلم يدعكم لينتفع بعبادتكم ، بل النفع عائد إليكم .
فردوا على رسلهم رد السفهاء الجاهلين { قَالُوا } لهم : { إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا } أي : فكيف تفضلوننا بالنبوة والرسالة ، { تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا } فكيف نترك رأي الآباء وسيرتهم لرأيكم ؟ وكيف نطيعكم وأنتم بشر مثلنا ؟
{ فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ } أي : بحجة وبينة ظاهرة ، ومرادهم بينة يقترحونها هم ، وإلا فقد تقدم أن رسلهم جاءتهم بالبينات .
ولما كان الذي يدعوهم إليه رسلهم هو الاعتقاد بألوهية الله وحده ، وربوبيته للبشر بلا شريك من عباده . . فإن الشك في هذه الحقيقة الناطقة التي تدركها الفطرة ، وتدل عليها آيات الله المبثوثة في ظاهر الكون المتجلية في صفحاته ، يبدو مستنكرا قبيحا ، وقد استنكر الرسل هذا الشك . والسماوات والأرض شاهدان .
( قالت رسلهم : أفي الله شك فاطر السماوات والأرض ؟ ) . .
أفي الله شك والسماوات والأرض تنطقان للفطرة بأن الله أبدعهما إبداعا وأنشأهما إنشاء ؟ قالت رسلهم هذا القول ، لأن السماوات والأرض آيتان هائلتان بارزتان ، فمجرد الإشارة إليهما يكفي ، ويرد الشارد إلى الرشد سريعا ، ولم يزيدوا على الإشارة شيئا لأنها وحدها تكفي ؛ ثم أخذوا يعددون نعم الله على البشر في دعوتهم إلى الإيمان ، وفي إمهالهم إلى أجل يتدبرون فيه ويتقون العذاب :
( أفي الله شك فاطر السماوات والأرض . يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ) .
والدعوة أصلا دعوة إلى الإيمان ، المؤدي إلى المغفرة . ولكن السياق يجعل الدعوة مباشرة للمغفرة ، لتتجلى نعمة الله ومنته . وعندئذ يبدو عجيبا أن يدعى قوم إلى المغفرة فيكون هذا تلقيهم للدعوة !
( يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ) . . ( ويؤخركم إلى أجل مسمى ) . .
فهو - سبحانه - مع الدعوة للمغفرة لا يعجلكم بالإيمان فور الدعوة ، ولا يأخذكم بالعذاب فور التكذيب . إنما يمن عليكم منة أخرى فيؤخركم إلى أجل مسمى . إما في هذه الدنيا وإما إلى يوم الحساب ، ترجعون فيه إلى نفوسكم ، وتتدبرون آيات الله وبيان رسلكم . وهي رحمة وسماحة تحسبان في باب النعم . . فهل هذا هو جواب دعوة الله الرحيم المنان ؟ !
هنا يرجع القوم في جهالتهم إلى ذلك الاعتراض الجهول :
( قالوا : إن أنتم إلا بشر مثلنا ، تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا ) . .
وبدلا من أن يعتز البشر باختيار الله لواحد منهم ليحمل رسالته ، فإنهم لجهالتهم ينكرون هذا الاختيار ، ويجعلونه مثار ريبة في الرسل المختارين ؛ ويعللون دعوة رسلهم لهم بأنها رغبة في تحويلهم عما كان يعبد آباؤهم . ولا يسألون أنفسهم : لماذا يرغب الرسل في تحويلهم ؟ ! وبطبيعة الجمود العقلي الذي تطبعه الوثنيات في العقول لا يفكرون فيما كان يعبد آباؤهم : ما قيمته ؟ ما حقيقته ؟ ماذا يساوي في معرض النقد والتفكير ؟ ! وبطبيعة الجمود العقلي كذلك لا يفكرون في الدعوة الجديدة ، إنما يطلبون خارقة ترغمهم على التصديق :
{ قالت رسلهم أفي الله شك } أدخلت همزة الإنكار على الظرف لأن الكلام في المشكوك فيه لا في الشك . أي إنما ندعوكم إلى الله وهو لا يحتمل الشك لكثرة الأدلة وظهور دلالتها عليه . وأشاروا إلى ذلك بقولهم : { فاطر السماوات والأرض } وهو صفة أو بدل و{ شك } مرتفع بالظرف . { يدعوكم } إلى الإيمان ببعثه إيانا . { ليغفر لكم } أو يدعوكم إلى المغفرة كقولك : دعوته لينصرني ، على إقامة المفعول له مقام المفعول به . { من ذنوبكم } بعض ذنوبكم وهو ما بينكم وبينه تعالى ، فإن الإسلام يجبه دون المظالم ، وقيل جيء بمن في خطاب الكفرة دون المؤمنين في جميع القرآن تفرقة بي الخطابين ، ولعل المعنى فيه أن المغفرة حيث جاءت في خطاب الكفار مرتبة على الإيمان وحيث جاءت في خطاب المؤمنين مشفوعة بالطاعة والتجنب عن المعاصي ونحو ذلك فتتناول الخروج عن المظالم . { ويؤخّركم إلى أجل مسمّى } إلى وقت سماه الله تعالى وجعله آخر أعماركم . { قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا } لا فضل لكم علينا فلم تخصون بالنبوة دوننا ولو شاء الله أن يبعث إلى البشر رسلا لبعث من جنس أفضل . { تريدون أن تصدّونا عما كان يعبد آباؤنا } بهذه الدعوى . { فأتونا بسلطان مبين } يدل على فضلكم واستحقاقكم لهذه المزية ، أو على صحة ادعائكم النبوة كأنهم لم يعتبروا ما جاءوا به من البينات والحجج واقترحوا عليهم آية أخرى تعنتا ولجاجا .
قوله : { أفي الله } مقدر فيه ضمير تقديره عند كثير من النحويين أفي إلوهية الله شك ؟ وقال أبو علي الفارسي : تقديره : أفي وحدانية الله شك ؟ .
قال القاضي أبو محمد : وزعم بعض الناس : أن أبا علي إنما فزع إلى هذه العبارة حفظاً للاعتزال وزوالاً عما تحتمله لفظة الألوهية من الصفات بحسب عمومها ، ولفظة الوحدانية مخلصة من هذا الاحتمال .
و «الفاطر » المخترع المبتدي ، وسوق هذه الصفة احتجاج على الشاكين يبين التوبيخ ، أي أيشك فيمن هذه صفته ؟ فساق الصفة التي هي منصوبة لرفع الشك .
وقوله : { من ذنوبكم } ذهب بعض النحاة{[7021]} إلى أنها زائدة ، وسيبويه يأبى أن تكون زائدة ويراها للتبعيض .
قال القاضي أبو محمد : وهو معنى صحيح ، وذلك أن الوعد وقع بغفران الشرك وما معه من المعاصي ، وبقي ما يستأنفه أحدهم بعد إيمانه من المعاصي مسكوتاً ليبقى معه في مشيئة الله تعالى ، فالغفران إنما نفذ به الوعد في البعض ، فصح معنى { من }{[7022]} .
وقوله : { ويؤخركم إلى أجل مسمى } قد تقدم القول فيه في سورة الأعراف ، في قوله : { ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } {[7023]}[ الأعراف : 34 ] وجلبت هذه هناك بسبب ما يظهر بين الآيتين من التعارض . ويليق هنا أن نذكر مسألة المقتول : هل قطع أجله أم ذلك هو أجله المحتوم عليه ؟ .
فالأول هو قول المعتزلة ، والثاني قول أهل السنة .
فتقول المعتزلة : لو لم يقتله لعاش ، وهذا سبب القود .
وقالت فرقة من أهل السنة ، لو لم يقتله لمات حتف أنفه .
قال أبو المعالي : وهذا كله تخبط ، وإنما هو أجله الذي سبق في القضاء أنه يموت فيه على تلك الصفة ، فمحال أن يقع غير ذلك ، فإن فرضنا أنه لو لم يقتله وفرضنا مع ذلك أن علم الله سبق بأنه لا يقتله ، بقي أمره في حيز الجواز في أن يعيش أو يقتل ، وكيفما كان علم الله تعالى يسبق فيه .
وقول الكفرة { إن أنتم إلا بشر مثلنا } فيه استبعاد بعثة البشر ، وقال بعض الناس : بل أرادوا إحالته ، وذهبوا مذهب البراهمة{[7024]} أو من يقول من الفلاسفة : إن الأجناس لا يقع فيها هذا التباين .
قال القاضي أبو محمد : وظاهر كلامهم لا يقتضي أنهم أغمضوا هذا الإغماض ، ويدل على ما ذكرت أنهم طلبوا منهم الإتيان بآية ، و { سلطان مبين } ، ولو كانت بعثتهم عندهم محالاً لما طلبوا منهم حجة ، ويحتمل أن طلبهم منهم السلطان إنما هو على جهة التعجيز ، أي بعثتكم محال وإلا { فأتونا بسلطان مبين } ، أي إنكم لا تفعلون ذلك أبداً ، فيتقوى بهذا الاحتمال منحاهم إلى مذهب الفلاسفة .
{ قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى } .
استفهام إنكاري . ومورد الإنكار هو وقوع الشك في وجود الله ، فقدم متعلق الشك للاهتمام به ، ولو قال : أشك في الله ، لم يكن له هذا الوقع ، مثل قول القطامي :
أكفرا بعد رد الموت عني *** وبعدَ عطائك المائةَ الرتاعا
فكان أبلغ له لو أمكنه أن يقول : أبعد رد الموت عني كفرٌ .
وعلق اسم الجلالة بالشك ، والاسم العَلَم يدلّ على الذات . والمراد إنكار وقوع الشك في أهم الصفات الإلهية وهي صفة التفرد بالإلهية ، أي صفة الوحدانية .
وأتبع اسم الجلالة بالوصف الدالّ على وجوده وهو وجود السماوات والأرض الدالُّ على أن لهما خالقاً حكيماً لاستحالة صدور تلك المخلوقات العجيبة المنظمة عن غير فاعللٍ مختار ، وذلك معلوم بأدنى تأمل ، وذلك تأييد لإنكار وقوع الشك في انفراده بالإلهية لأن انفراده بالخلق يقتضي انفراده باستحقاقه عبادة مخلوقاته .
وجملة { يدعوكم } حال من اسم الجلالة ، أي يدعوكم أن تنبذوا الكفر ليغفر لكم ما أسلفتم من الشرك ويدفع عنكم عذاب الاستئصال فيؤخّركم في الحياة إلى أجل معتاد .
والدعاء : حقيقته النداء . فأطلق على الأمر والإرشاد مجازاً لأن الآمر ينادي المأمور .
ويعدى فعل الدعاء إلى الشيء المدعو إليه بحرف الانتهاء غالباً وهو { إلى } ، نحو قوله تعالى حكاية عن مؤمن آل فرعون { ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار } [ سورة غافر : 41 ] .
وقد يعدّى بلام التعليل داخلةً على ما جُعل سبباً للدعوة فإن العلة تدل على المعلول ، كقوله تعالى : { وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم } [ سورة نوح : 7 ] ، أي دعوتهم إلى سبب المغفرة لتغفر ، أي دعوتهم إلى الإيمان لتغفر لهم ، وهو في هذه الآية كذلك ، أي يدعوكم إلى التوحيد ليغفر لكم من ذنوبكم .
وقد يعدى فعل الدعوة إلى المدعو إليه باللام تنزيلاً للشيء الذي يُدعى إلى الوصول إليه منزلة الشيء الذي لأجله يدعى ، كقول أعرابي من بني أسد :
دعَوْتُ لِمَا نَابني مِسْورَا *** فلبّى فلبيْ يديْ مسور
{ قالوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَا فَأْتُونَا بسلطان مُّبِينٍ } .
أرادوا إفحام الرسل بقطع المجادلة النظرية ، فنفوا اختصاص الرسل بشيء زائد في صورتهم البشرية يُعلم به أن الله اصطفاهم دون غيرهم بأن جعلهم رسلاً عنه ، وهؤلاء الأقوام يحسبون أن هذا أقطع لحجة الرسل لأن المماثلة بينهم وبين قومهم محسوسة لا تحتاج إلى تطويل في الاحتجاج ، فلذلك طالبوا رسلهم أن يأتوا بحجة محسوسة تثبت أن الله اختارهم للرسالة عنه ، وحسبانهم بذلك التعجيز .
فجملة { تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا } في موضع الحال ، وهي قيد لما دل عليه الحصر في جملة { إن أنتم إلا بشر مثلنا } من جحد كونهم رسلاً من الله بالدّين الذي جاءوهم به مخالفاً لدينهم القديم ، فبذلك الاعتبار كان موقع التفريع لجملة { فأتونا بسلطان مبين } لأن مجرّد كونهم بشراً لا يقتضي مطالبتهم بالإتيان بسلطان مبين وإنما اقتضاه أنهم جاءوهم بإبطال دين قومهم ، وهو مضمون ما أرسلوا به .
وقد عبّروا عن دينهم بالموصولية لما تؤذن به الصلة من التنويه بدينهم بأنه متقلَّد آبائهم الذين يحسبونهم معصومين من اتباع الباطل ، وللأمم تقديس لأسلافها فلذلك عدلوا عن أن يقولوا : تريدون أن تصدّونا عن ديننا .
والسلطان : الحجة . وقد تقدّم في قوله : { أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان } في سورة الأعراف ( 71 ) .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قالت رسل الأمم التي أتتها رسلها:"أفي الله" أنه المستحقّ عليكم أيها الناس الألوهة والعبادة دون جميع خلقه، "شكّ"؟ وقوله: "فاطِرِ السّمَوَاتِ والأرْضِ "يقول: خالق السموات والأرض. "يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ" يقول: يدعوكم إلى توحيده وطاعته. "لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ" يقول: فيستر عليكم بعض ذنوبكم بالعفو عنها، فلا يعاقبكم عليها. "وَيُؤَخّرَكُمْ" يقول: وينسئ في آجالكم، فلا يعاقبكم في العاجل فيهلككم، ولكن يؤخركم إلى الوقت الذي كتب في أمّ الكتاب أنه يقبضكم فيه، وهو الأجل الذي سمى لكم. فقالت الأمم لهم: "إنْ أنْتُمْ" أيها القوم "إلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا" في الصورة والهيئة، ولستم ملائكة، وإنما تريدون بقولكم هذا الذي تقولون لنا "أنْ تَصُدُونا عَمّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا" يقول: إنما تريدون أن تصرِفونا بقولكم عن عبادة ما كان يعبدُه من الأوثان آباؤنا "فأتونا بسلطان مبين"، يقول: فأتونا بحجة على ما تقولون تُبين لنا حقيقتَه وصحتَه، فنعلم أنكم فيما تقولون محقُّون.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {قالت رسلهم أفي الله شك} أي: أفي ألوهية الله شك؟ أفي عبادة الله شك؟ أي ليس في ألوهيته ولا في عبادته شك؛ تقرون أنتم أنه إله، وأنه معبود، وكذلك أقر آباءكم أنه إله، وأنه معبود، فليس في ألوهيته ولا في عبادته شك، إنما كان الشك في عبادة من تعبدون دونه من الأوثان والأصنام وألوهيتها، لأن آباءكم أقروا بألوهية الله وأنه معبود حين قالوا: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3] وقالوا: {هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس: 18] وأقروا أنه خالق السماوات والأرض، فاطر جميع ما فيهما بقوله: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} [لقمان: 25] وأن الأصنام التي عبدوها لم تخلق شيئا، فليس في الله شك عندكم، إنما الشك فيما تعبدون دونه لا في وحدانية الله...
{فاطر السماوات والأرض} يشبه أن يكون على الإضمار، أي {أفي الله شك} وأنتم تقرون أنه خالقهما. ويحتمل أن يكون على الاحتجاج أي {أفي الله شك} وهو فاطر السماوات والأرض، أي تعلمون أنه فاطر السماوات والأرض، وتقرون أنه خالقهما. وقوله تعالى: {يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى} هذا يحتمل وجوها:...
والثاني: وعد المغفرة والتجاوز لما كان منهم من الافتراء على الله والقول فيه بما لا يليق به إذا أسلموا، وتابوا عن ذلك، أي إنكم، وإن افتريتم على الله، وقلتم فيه ما قلتم، وكذبتم رسله إذا أسلمتم، وتبتم، وصدقتم رسله غفر لكم ذلك كله. وفيه ذكر لطفه وحسن معاملته خلقه...
{قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباءنا} في قولهم تناقض من وجوه:
أحدهما: أنهم تركوا طاعة رسلهم واتِّبَاعِهِم لأنهم بشر مثلهم حين قالوا: {تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباءنا} فذلك تناقض في القول.
والثاني: أنهم لم يروا الرسل متبوعين [لأنهم] بشر. [والثالث: أنهم لا يخلون] أنفسهم من أن يكونوا متبوعين، استتبعوا غيرهم من دونهم، أو كانوا أتباعا لغيرهم حين قالوا: {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون} [الزخرف: 23]. فذلك تناقض في القول.
{فأتونا بسلطان مبين} سألوا الحجة على ما دعوا إليه من ألوهية الله وربوبيته أو على ما دعوا من الرسالة من الله وفي كل شيء، وقع عليه بصرهم دلالة وحدانية الله وألوهيته. لكنهم سألوا ذلك سؤال تعنت وعناد. وكذلك قد سألوا الحجج على ما دعوا من الرسالة، لكنهم تعاندوا، وكابروا في رد ذلك، فسألوا سؤال آية وحجة، تضطرهم، وتقهرهم على ذلك...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} يعني الموت فلا يعاجلكم بالعذاب والعقاب...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
في الآية دلالة واضحة على أنه تعالى أراد بخلقه الخير والإيمان، لا الشر والكفر، وأنه إنما بعث الرسل إلى الكفار رحمة وتفضلا، ليؤمنوا، لا ليكفروا، لأن الرسل قالت: ندعوكم إلى الله ليغفر لكم، فمن قال إن الله أرسل الرسل إلى الكفار ليكفروا بهم ويكونوا سوءا عليهم ووبالا، وإنما دعوهم ليزدادوا كفرا فقد رد ظاهر القرآن...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{يَدعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ}: ليس العجب ممن تكلف لسيده المشاق وتحمل ما لا يطاق، وأَلاَّ يهربَ من خدمةٍ أو يجنحَ إلى راحة.. إنما العَجَبُ من سيدٍ عزيزٍ كريمٍ يدعو عَبْدَه ليغفرَ له وقد أخطأ، ويعاملَه بالإحسان وقد جفا. والذي لا يَكُفُّ عن العناد، ولا يؤثر رضَاءَ سيده على راحة نفسه لا يُحْمَلُ هذا إلا على قِسمةٍ بالشقاء سابقة.. وإن أحكام الله بردِّه صادقة.
ثم أخبر أنهم قالوا لرُسلُهِم: قوله جلّ ذكره: {قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ}. نظروا إلى الرسل من ظواهرهم، ولم يعرفوا سرائرهم، ومالوا إلى تقليد أسلافهم، وأصروا على ما اعتادوه من شقاقهم وخلافهم...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
هذا استفهام بمعنى نفي ما اعتقدوه... والسلطان ها هنا: هو البرهان الذي يرد المخالف إلى الحق...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَفِي الله شَكٌّ} أدخلت همزة الإنكار على الظرف، لأن الكلام ليس في الشك، إنما هو في المشكوك فيه، وأنه لا يحتمل الشك لظهور الأدلة وشهادتها عليه. {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ} أي يدعوكم إلى الإيمان ليغفر لكم أو يدعوكم لأجل المغفرة...
فإن قلت: ما معنى التبعيض في قوله: من ذنوبكم؟ قلت: ما علمته جاء هكذا إلا في خطاب الكافرين، كقوله: {واتقوه وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ} [نوح: 3 -4]، {يا قومنا أَجِيبُواْ دَاعِي الله وَءامِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذنوبكم} [الأحقاف: 31] وقال في خطاب المؤمنين: {هَلْ أَدُلُّكمْ على تجارة تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10] إلى أن قال {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الصف: 12] وغير ذلك مما يقفك عليه الاستقراء، وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين، ولئلا يسوي بين الفريقين في الميعاد، وقيل: أريد أنه يغفر لهم ما بينهم وبين الله، بخلاف ما بينهم وبين العباد من المظالم ونحوها. {وَيُؤَخّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} إلى وقت قد سماه الله وبين مقداره، يبلغكموه إن آمنتم، وإلا عاجلكم بالهلاك قبل ذلك الوقت.
{إِنْ أَنتُمْ}: ما أنتم {إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا} لا فضل بيننا وبينكم، ولا فضل لكم علينا، فلم تخصون بالنبوّة دوننا، ولو أرسل الله إلى البشر رسلاً لجعلهم من جنس أفضل منهم وهم الملائكة.
{بسلطان مُّبِينٍ} بحجة بينة، وقد جاءتهم رسلهم بالبينات والحجج، وإنما أرادوا بالسلطان المبين آية قد اقترحوها تعنتاً ولجاجاً.
اعلم أن أولئك الكفار لما قالوا للرسل {وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب} قالت رسلهم: وهل تشكون في الله، وفي كونه فاطر السموات والأرض وفاطرا لأنفسنا وأرواحنا وأرزاقنا وجميع مصالحنا وإنا لا ندعوكم إلا إلى عبادة هذا الإله المنعم، ولا نمنعكم إلا عن عبادة غيره وهذه المعاني يشهد صريح العقل بصحتها، فكيف قلتم:"وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب"؟ وهذا النظم في غاية الحسن... {إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين}، واعلم أن هذا الكلام مشتمل على ثلاثة أنوع من الشبه:
فالشبهة الأولى: أن الأشخاص الإنسانية متساوية في تمام الماهية، فيمتنع أن يبلغ التفاوت بين تلك الأشخاص إلى هذا الحد، وهو أن يكون الواحد منهم رسولا من عند الله مطلعا على الغيب مخالطا لزمرة الملائكة، والباقون يكونون غافلين عن كل هذه الأحوال أيضا كانوا يقولون: إن كنت قد فارقتنا في هذه الأحوال العالية الإلهية الشريفة، وجب أن تفارقنا في الأحوال الخسيسة، وفي الحاجة إلى الأكل والشرب والحدث والوقاع، وهذه الشبهة هي المراد من قولهم: {إن أنتم إلا بشر مثلنا}.
والشبهة الثانية: التمسك بطريقة التقليد، وهي أنهم وجدوا آباءهم وعلماءهم وكبراءهم مطبقين متفقين على عبادة الأوثان...
وهذه الشبهة هي المراد من قوله: {تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا}.
والشبهة الثالثة: أن قالوا المعجز لا يدل على الصدق أصلا، وإن كانوا سلموا على أن المعجز يدل على الصدق، إلا أن الذي جاء به أولئك الرسل طعنوا فيه وزعموا أنها أمور معتادة، وأنها ليست من باب المعجزات الخارجة عن قدرة البشر، وإلى هذا النوع من الشبهة الإشارة بقوله: {فأتونا بسلطان مبين} فهذا تفسير هذه الآية بحسب الوسع، والله أعلم...
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
أي إنما ندعوكم إلى الله وهو لا يحتمل الشك لكثرة الأدلة وظهور دلالتها عليه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان سامع هذا الكلام يشتد تشوفه إلى جوابه، وكان أصل الدعوة في كل ملة التوحيد، وكان الشاك فيه شاكاً في الله، وكان أمر الله من الظهور بحيث لا يشك فيه عاقل حكّم عقله مجرداً عن الهوى، ساغ الإنكار وإيراد الكلام على تقدير سؤال معرى من التقييد مبهم في قوله: {قالت رسلهم} ولما كان ما شكوا فيه من الظهور بحيث لا يتطرق إليه ريب، أنكروا أن يكون فيه شك، لأن ذلك يتضمن إنكار شكهم وشك غيرهم فقالوا: {أفي الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {شك}... ثم نبهوهم بالمصنوع على مقصود الدعوة من وجود الصانع وتفرده وظهوره في قولهم: {فاطر السماوات} ولما كان المقام لادعاء أنه في غاية الظهور، لم يحتج إلى تأكيد بإعادة العامل، فقال: {والأرض} أي على هذا المثال البديع والنمط الغريب المنتظم الأحوال، الجميل العوائد، المتسق الفصول؛ فلما أوضحوا لهم الأدلة على وحدانيته بينوا لهم بأن ثمرة الدعوة خاصة بهم، إنه لا يأباها من له أدنى بصيرة، فقالوا: {يدعوكم} أي على ألسنتنا {ليغفر لكم}. ولما كان الكافر إنما يدعى أولاً إلى الإيمان، وكان الإيمان إنما يجب ما كان قبله من الذنوب التي معهم بينهم وبينه دون المظالم، قال: {من ذنوبكم} ولو عم بالغفران لأفهم ذلك أنهم لا يدعون بعد الإيمان إلى عمل أصلاً {و} لا يفعل بكم فعل من تعهدون من الملوك في المعاجلة بالإهلاك لمن خالفهم، بل {يؤخركم} وإن أخطأتم أو تعمدتم وتبتم {إلى أجل مسمى} عنده سبق علمه به، وهو آجالكم على حسب التفريق، ولا يستأصلكم بالعذاب في آن واحد كما فعل بمن ذكر من الأمم. فلما بين لهم الأصل بدليله وفرع عليه ما لا ريب فيه في قصر نفعه عليهم، علموا أنه لا يتهيأ لهم عن ذلك جواب فأعرضوا عنه إلى أن {قالوا} عناداً {إن} أي ما {أنتم} أي أيها الرسل {إلا بشر} وأكدوا ما أرادوا من نفي الاختصاص فقالوا: {مثلنا} يريدون: فما وجه تخصيصكم بالرسالة دوننا؟ ثم كان كأنه قيل: فكان ماذا؟ فقالوا: {تريدون أن تصدونا} أي تلفتونا وتصرفونا {عما كان} أي كوناً هو كالجبلة، وأكدوا هذا المعنى للتذكير بالحال الماضية بالمضارع فقالوا: {يعبد آباؤنا} أي أنكم -لكونكم من البشر الذين يقع بينهم التحاسد- حسدتمونا على اتباع الآباء وقصدتم تركنا له لنكون لكم تبعاً {فأتونا} أي فتسبب -عن كوننا لم نر لكم فضلاً وإبدائنا من إرادتكم ما يصلح أن يكون مانعاً- أن نقول لكم: ائتونا لنتبعكم {بسلطان مبين} أي حجة واضحة تلجئنا إلى تصديقكم مما نقترحه عليكم، وهذا تعنت محض فإنهم جديرون بأن يعرضوا عن كل سلطان يأتونهم به كائناً ما كان كما ألغوا ما أتوا هم به من البينات فلم يعتدوا به...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
أأنتم في شك مريب من الله تعالى؟ مبالغةً في تنزيه ساحةِ السّبحان عن شائبة الشك وتسجيلاً عليهم بسخافة العقول، أي أفي شأنه سبحانه من وجوده ووحدتِه ووجوبِ الإيمان به وحده شك وهو أظهرُ من كل ظاهر وأجلى من كل جلي حتى تكونوا من قِبله في شك مريب، وحيث كان مقصِدُهم الأقصى الدعوةَ إلى الإيمان والتوحيد وكان إظهارُ البينات وسيلةً إلى ذلك لم يتعرضوا للجواب عن قول الكفرةِ: إنا كفرنا بما أرسلتم به، واقتصروا علي بيان ما هو الغايةُ القصوى ثم عقّبوا ذلك الإنكارَ بما يوجبه من الشواهد الدالّةِ على انتفاء المنكَر فقالوا: {فَاطِرَ السموات والأرض}...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
{قالت رسلهم أفي الله شك} أي أفي وجود الله شك، وكيف ذلك والفطرة شاهدة بوجوده ومجبولة على الإقرار به...ولكن قد يعرض لبعضها شك واضطراب فتحتاج إلى النظر في الأدلة الموصلة، إلى ذلك، ومن ثم وجه الرسل أنظار أممهم إلى هذه الأدلة فقالوا: {فاطر السماوات والأرض}... {قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا} فلا فضل لكم علينا، فلم خصصتم بالنبوة، أطلعكم الله على الغيب، وجعلكم مخالطين لزمرة الملائكة دوننا؛ إلى أنه لو كان الأمر كما تدعون لوجب أن تخالفونا في الحاجة إلى الأكل والشرب وقربان النساء وما شاكل ذلك...
{تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا} ولا حجة لكم على ما تدّعون، وليس من حصافة العقل أن نترك أمرا قبل أن يقوم الدليل على خطئه...
{فأتونا بسلطان مبين} أي بحجة ظاهرة تدل على صحة ما تدعون من النبوة، أما ذكر السماوات والأرض وعجائبهما فلسنا نحفل بهم، والعجائب الأرضية والسماوية لا نعقلها، والبشر لا يخضعون إلا لمن يأتي لهم بما هو خارج عن طور معتادهم، وحينئذ يعظمونه ويبجلونه، وهذه المشاهدات لا نرى فيها شيئا خارقا للعادة، وإذا فلا إيمان ولا تسليم إلا بما هو فرق طاقتنا، كقلب العصا حية ونقل الجبال وما إلى ذلك...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
الدعوة أصلا دعوة إلى الإيمان، المؤدي إلى المغفرة. ولكن السياق يجعل الدعوة مباشرة للمغفرة، لتتجلى نعمة الله ومنته. وعندئذ يبدو عجيبا أن يدعى قوم إلى المغفرة فيكون هذا تلقيهم للدعوة!...
(يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم).. (ويؤخركم إلى أجل مسمى).. فهو -سبحانه- مع الدعوة للمغفرة لا يعجلكم بالإيمان فور الدعوة، ولا يأخذكم بالعذاب فور التكذيب. إنما يمن عليكم منة أخرى فيؤخركم إلى أجل مسمى. إما في هذه الدنيا وإما إلى يوم الحساب، ترجعون فيه إلى نفوسكم، وتتدبرون آيات الله وبيان رسلكم. وهي رحمة وسماحة تحسبان في باب النعم.. فهل هذا هو جواب دعوة الله الرحيم المنان؟!... وبدلا من أن يعتز البشر باختيار الله لواحد منهم ليحمل رسالته، فإنهم لجهالتهم ينكرون هذا الاختيار، ويجعلونه مثار ريبة في الرسل المختارين؛ ويعللون دعوة رسلهم لهم بأنها رغبة في تحويلهم عما كان يعبد آباؤهم. ولا يسألون أنفسهم: لماذا يرغب الرسل في تحويلهم؟! وبطبيعة الجمود العقلي الذي تطبعه الوثنيات في العقول لا يفكرون فيما كان يعبد آباؤهم: ما قيمته؟ ما حقيقته؟ ماذا يساوي في معرض النقد والتفكير؟! وبطبيعة الجمود العقلي كذلك لا يفكرون في الدعوة الجديدة، إنما يطلبون خارقة ترغمهم على التصديق: (فأتونا بسلطان مبين)...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
إن الله تعالى جمع أقوال الرسل في قول واحد، وهم كانوا في أجيال مختلفة، وجمع أقوال المشركين في قول واحد؛ لأنهم جميعا على قول واحد، وكأنه نابت من منابت الشرك المتحدة، فيكون إنتاجها واحدا، ولبيان أن الرسل أجيبوا جميعا بمثل ما أجيب فليتأس وليصبر، فإن الله لا يضيع أجر الصابرين...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
إن قضية الشك في كل القضايا، لا بد من أن تخضع لمعطياتٍ تحتويها داخلياً أو خارجياً فيما يتمثل فيه الغموض أو الالتباس الذي يحجب الوضوح عن الرؤية ويعقّد الحل للمشكلة ويبتعد بالفكرة إلى آفاق الضباب. وهذا ما يمكن ملاحظته في كثير من الأمور التي يختلف فيها الناس، وتتعدّد فيها الآراء، لتعدد وجوهها وإمكانات تفسيرها. ولكن هل يمكن أن يقترب الشك من إشراقة الشمس في رابعة النهار، أو يلتقي الغموض بالصحو المنتشر في صفاء السماء؟ بالتالي، كيف يمكن أن يتحدث هؤلاء عن الشك في وجود الله أو في توحيده، وهم يعيشون حضوره في وجودهم، في ما يفكرون، وفي ما يحسون، وفي ما يمارسونه من شؤون الحياة. هذا الحضور الذي لا يغيب عن شيء، ولا يغيب عنه شيء ولا يخلو منه شيء، وهو الذي فطر السماوات والأرض بقدرته، ففي كل ظاهرة إشراقةٌ لوجوده، ودلالة على توحيده. إن المسألة لا تحتاج إلى تحليل فلسفي يضيع معه الإنسان في ضباب الفكر ودخانه، بل يكفي لتأكيدها حسٌّ صافٍ يتطلع إلى ما حوله، وفكر ينطلق في آفاق الكون للالتقاء بالحقيقة الإلهية في وعي الوجدان وصفاء الحس وإشراقة الفكر، بعيداً عن كل شبهة وعن كل غموض. ولهذا فإن الشك الذي يحصل لدى البعض، لا يعبر عن حالةٍ فكريةٍ، بل يعبر عن عقدة مرضيّةٍ وانحراف. إنه الله الحاضر في الوجدان الصافي، الذي فطر السموات والأرض، وفطر الإنسان بقدرته، ولم يخلقه عبثاً، بل أراد له أن يتحرك في نطاق المسؤولية، فإذا انحرف عن خطها الأصيل في لحظات الضعف، فإنه لا يهمله ولا يتركه، بل يظل يرعاه ويدعوه ليؤكّد له رحمته ولطفه وعطفه، {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ} في دعوتكم للسير على نهجه الأصيل الذي بعث به رسله، لمنعكم بذلك عن المعصية، قبل الوقوع فيها، أو تخليصكم من نتائجها بعد الوقوع فيها، بما تمثله المغفرة في الخط الأول، من وقايةٍ للإنسان، وبما تمثله في الخط الثاني من رحمةٍ له، وإبعادٍ له عن الوقوع في الهلاك، {وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى}، ليترك لكم الفرصة للتراجع عن خط الانحراف، وللابتعاد عن خط الكفر. وذلك هو منطق الرسل الذين يريدون لأممهم اللقاء بالله والقرب منه من أقصر طريق من موقع نعمة الوجود والحياة. فماذا كان جواب هؤلاء؟ هل ناقشوا الفكرة وحاوروا؟ الواقع أن شيئاً من ذلك لم يحصل، بل هربوا إلى زاوية أخرى، يثيرون من خلالها الشك حول رسالة الرسل، بطرحهم بعض المفاهيم القلقة حول شخصية الرسول، الذي لا بد من أن يكون من طينةٍ غير طينة البشر، كأن يكون من الملائكة أو من نوع آخر. تمسك أقوام الرسل بعبادة الآلهة المزيفة {قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا} ما هي ميزتكم علينا ليكون لكم دور الرسل، ويكون لنا دور الأتباع، وحديثكم عن الله وتوحيده وعبادته ليس سوى خطة تخريبيّة ضد المقدسات التي كان يتعبّد لها الآباء والأجداد، لذا نعتبرها عدواناً علينا وعلى التاريخ الذي نحترمه ونتعاطف معه ونقدّسه. {فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} يؤكد ما تدّعونه من نبوة تمثل الاتصال بالله الذي يعني بطريقةٍ وبأخرى امتلاككم لقوةٍ خارقةٍ قادرة على تغيير مظاهر الكون حولها، كما أن الله قادر على ذلك، ولكننا لا نرى لكم مثل هذه القوّة وهذا السلطان، فأنتم لا تقدمون إلاّ الكلام تدعوننا من خلاله إلى توحيد الله ونفي الشركاء عنه، كأي شخص عاديّ يحمل دعوة إلى فكر معيّن...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
القرآن الكريم هنا كما في أغلب الموارد الأُخرى يستند لإثبات وجود الخالق وصفاته إلى نظام الوجود وخلق السّماوات والأرض، ونحن نعلم أنّه ليس هناك أوضح من هذا الدليل لمعرفة الله، لأنّ هذا النظام العجيب مليء بالأسرار في كلّ زواياه، وينادي بلسان حاله: ليس هناك من له القدرة على هذه الهندسة إلاّ القادر الحكيم والعالم المطلق، ولهذا السبب فكلّما تقدّمت العلوم ظهرت أسرار تدلّ على الخالق أكثر من السابق وتقرّبنا من الله في كلّ لحظة... إنّ غاية دعوة الأنبياء أمران: أحدهما غفران الذنوب، بمعنى تطهير الروح والجسم والمحيط الإنساني، والثّاني استمرار الحياة إلى الوقت المعلوم، والاثنان علّة ومعلول، فالمجتمع الذي يستمرّ في وجوده هو المجتمع النقي من الظلم والذنوب. ففي طول التاريخ أبيدت مجتمعات كثيرة بسبب الظلم والذنوب واتّباع الهوى، وبتعبير القرآن لم يصلوا إلى (أجل مسمّىً)...
ومع كلّ ذلك لم يقبل الكفّار المعاندون دعوة الحقّ المصحوبة بوضوح منطق التوحيد، ومن خلال بيانهم المشوب بالعناد وعدم التسليم كانوا يجيبون الأنبياء بهذا القول: (قالوا إن أنتم إلاّ بشرٌ مثلنا) علاوة على ذلك (تريدون أن تصدّونا عمّا كان يعبد آباؤنا) وأكثر من ذلك (فأتونا بسلطان مبين). وقد ذكرنا مراراً (كما صرّح القرآن بذلك) أنّ كون الأنبياء بشراً ليس مانعاً لنبوّتهم، بل هو مكمّل لها، ولكن أُولئك الأقوام يوردون هذه الحجّة دليلا لإنكار الرسالة، والهدف غالباً هو التبرير والعناد. وكذلك الحال في الاستنان بسنّة الأجداد، فإنّها وبالنظر إلى هذه الحقيقة وهي أنّ معرفة الأجيال القادمة أكثر من الماضين، لا تعدو سوى خرافة وجهل. ويتّضح من هنا أنّ طلبهم لم يكن لإقامة البرهان الواضح، بل لهروبهم من الحقيقة، لأنّ القرآن الكريم كما قرأنا مراراً أنّ هؤلاء المعاندين أنكروا الآيات الواضحة والدلائل البيّنة، وكانوا يقترحون في كلّ مرّة معجزة ودليلا للتهرّب من الأمر الواقع...