قوله تعالى : { الذين تتوفاهم الملائكة } ، يقبض أرواحهم ملك الموت وأعوانه ، قرأ حمزة : تتوفاهم بالياء وكان ما بعده ، { ظالمي أنفسهم } ، بالكفر ، ونصب على الحال أي : في حال كفرهم ، { فألقوا السلم } أي : استسلموا وانقادوا وقالوا : { ما كنا نعمل من سوء } ، شرك ، فقال لهم الملائكة : { بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون } . قال عكرمة : عنى بذلك من قتل من الكفار ببدر .
{ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ْ } أي : تتوفاهم في هذه الحال التي كثر فيها ظلمهم وغيهم وقد علم ما يلقى الظلمة في ذلك المقام من أنواع العذاب والخزي والإهانة .
{ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ْ } أي : استسلموا وأنكروا ما كانوا يعبدونهم من دون الله وقالوا : { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ ْ } فيقال لهم : { بَلَى ْ } كنتم تعملون السوء ف { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ْ } فلا يفيدكم الجحود شيئا ، وهذا في بعض مواقف القيامة ينكرون ما كانوا عليه في الدنيا ظنا أنه ينفعهم ، فإذا شهدت عليهم جوارحهم وتبين ما كانوا عليه أقروا واعترفوا ، ولهذا لا يدخلون النار حتى يعترفوا بذنوبهم .
( الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ) فيعود السياق بهم خطوة قبل خطوة القيامة . يعود بهم إلى ساعة الاحتضار ، والملائكة تتوفاهم ظالمين لأنفسهم بما حرموها من الإيمان واليقين ، وبما أوردوها موارد الهلاك ، وبما قادوها في النهاية إلى النار والعذاب .
ويرسم مشهدهم في ساعة الاحتضار ، وهم قريبو عهد بالأرض ، وما لهم فيها من كذب ومكر وكيد :
( فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء ! ) ألقوا السلم . هؤلاء المستكبرون . فإذا هم مستسلمون لا يهمون بنزاع أو خصام ، إنما يلقون السلم ويعرضون الاستسلام ! ثم يكذبون - ولعله طرف من مكرهم في الدنيا - فيقولون مستسلمين : ( ما كنا نعمل من سوء ) ! وهو مشهد مخز وموقف مهين لأولئك المستكبرين !
ويجيئهم الجواب : ( بلى ) من العليم بما كان منهم ( إن الله عليم بما كنتم تعملون ) فلا سبيل إلى الكذب والمغالطة والتمويه .
{ الذين تتوفّاهم الملائكة } وقرأ حمزة بالياء . وقرئ بإدغام في التاء وموضع الموصول يحتمل الأوجه الثلاثة { ظالمي أنفسهم } بأن عرضوها للعذاب المخلد . { فألقوا السَّلَم } فسالموا وأخبتوا حين عاينوا الموت . { ما كنا } قائلين ما كنا . { نعمل من سوء } كفر وعدوان ، ويجوز أن يكون تفسيرا ل { السَّلم } على أن المراد به القول الدال على الاستسلام . { بلى } أي فتجيبهم الملائكة بلى . { إن الله عليم بما كنتم تعملون } فهو يجازيكم عليه ، وقيل قوله : { فألقوا السلم } إلى آخر الآية استئناف ورجوع إلى شرح حالهم يوم القيامة ، وعلى هذا أول من لم يجوز الكذب يومئذ { ما كنا تعمل من سوء } بأنا لم نكن في زعمنا واعتقادنا عاملين سوءا ، ويحتمل أن يكون الراد عليهم هو الله تعالى ، أو أولو العلم .
{ الذين } نعت للكافرين في قول أكثر المتأولين ، ويحتمل أن يكون { الذين } مرتفعاً بالابتداء منقطعاً مما قبله ، وخبره في قوله { فألقوا السلم } فزيدت الفاء في الخبر ، وقد يجيء مثل هذا ، و { الملائكة } يريد القابضين لأرواحهم ، وقوله { ظالمي أنفسهم } حال ، و { السلم } هنا الاستسلام ، أي رموا بأيديهم وقالوا { ما كنا نعمل من سوء } فحذف قالوا لدلالة الظاهر عليه ، قال الحسن : هي مواطن بمرة يقرون على أنفسهم كما قال { وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين }{[7284]} [ الأنعام : 13 ] ومرة يجحدون كهذه الآية ، ويحتمل قولهم : { ما كنا نعمل من سوء } وجهين ، أحدهما أنهم كذبوا وقصدوا الكذب اعتصاماً منهم به ، على نحو قولهم { والله ربنا ما كنا مشركين }{[7285]} [ الأنعام : 2 ] ، والآخر أنهم أخبروا عن أنفسهم بذلك على ظنهم أنهم لم يكونوا يعملون سوءاً ، فأخبروا عن ظنهم بأنفسهم ، وهو كذب في نفسه . و { عليم بما كنتم تعملون } وعيد وتهديد ، وظاهر الآية أنها عامة في جميع الكفار ، وإلقاؤهم السلم ضد مشافهتهم قبل ، وقال عكرمة : نزلت في قوم من أهل مكة آمنوا بقلوبهم ولم يهاجروا فأخرجهم كفار مكة مكرهين إلى بدر ، فقتلوا هنالك فنزلت فيهم هذه الآية .
قال القاضي أبو محمد : وإنما اشتبهت عليه بالآية الأخرى التي نزلت في أولئك باتفاق من العلماء ، وعلى هذا القول يحسن قطع { الذين } ورفعه بالابتداء فتأمله والقانون أن { بلى } تجيء بعد النفي ونعم تجيء بعد الإيجاب ، وقد تجيء بعد التقرير ، كقوله أليس كذا ونحوه ، ولا تجيء بعد نفي سوى التقرير ، وقرأ الجمهور «تتوفاهم » بالتاء فوق ، وقرأ حمزة «يتوفاهم » بالياء وهي قراءة الأعمش ، قال أبو زيد : أدغم أبو عمرو بن العلاء السلم «ما » .
القرينة ظاهرة على أنّ قوله تعالى : { الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } ليست من مقول الذين أوتوا العلم يوم القيامة ، إذ لا مناسبة لأن يعرّف الكافرون يوم القيامة بأنهم الّذين تتوفّاهم الملائكة ظالمي أنْفُسهم ؛ فإن صيغة المضارع في قوله تعالى : { تتوفاهم الملائكة } قريبة من الصريح في أن هذا التوفّي محكيّ في حال حصوله وهم يوم القيامة مضت وفاتهم ولا فائدة أخرى في ذكر ذلك يومئذٍ ، فالوجه أن يكون هذا كلاماً مستأنفاً .
وعن عكرمة : نزلت هذه الآية بالمدينة في قوم أسلموا بمكّة ولم يهاجروا فأخرجهم قريش إلى بدْر كَرهاً فقُتلوا ببدر .
فالوجه أن { الذين تتوفاهم الملائكة } بدل من { الذين } في قوله تعالى : { فالذين لا يؤمنون بالآخرة } [ سورة النحل : 22 ] أو صفة لهم ، كما يومىء إليه وصفهم في آخر الآية بالمتكبّرين في قوله تعالى : { فلبئس مثوى المتكبرين } ، فهم الّذين وصفوا فيما قبل بقوله تعالى : { وهم مستكبرون } [ سورة النحل : 22 ] ، وما بينهما اعتراض . وإن أبيت ذلك لبعد ما بين المتبوع والتّابع فاجعل { الذين تتوفاهم الملائكة } خبراً لمبتدإ محذوف . والتقدير : هم الذين تتوفاهم الملائكة .
وحذف المسند إليه جار على الاستعمال في أمثاله من كلّ مسند إليه جرى فيما سلف من الكلام . أخبر عنه وحدث عن شأنه ، وهو ما يعرف عند السكاكي بالحذف المتّبع فيه الاستعمال . ويقابل هذا قوله تعالى فيما يأتي : { الذين تتوفّاهم الملائكة طيبين } [ سورة النحل : 32 ] فإنه صفة { للذين اتقوا } [ سورة النحل : 30 ] فهذا نظيره .
والمقصود من هذه الصلة وصف حالة الذين يموتون على الشّرك ؛ فبعد أن ذكر حال حلول العذاب بمن حلّ بهم الاستئصال وما يحلّ بهم يوم القيامة ذكرت حالة وفاتهم التي هي بين حالي الدّنيا والآخرة ، وهي حال تعرض لجميعهم سواء منهم من أدركه الاستئصال ومن هلك قبل ذلك .
وأطبق من تصدّى لربطه بما قبله من المفسّرين ، على جعل { الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } الآية بَدلاً من { الكافرين } في قوله تعالى : { إن الخزى اليوم والسوء على الكافرين } [ سورة النحل : 27 ] ، أو صفة له . وسكت عنه صاحب الكشاف ( وهو سكوت مِن ذهب ) . وقال الخفاجي : « وهو يصحّ فيه أن يكون مقولاً للقول وغير مندرج تحته » . وقال ابن عطيّة : « ويحتمل أن يكون { الذين } مرتفعاً بالابتداء منقطعاً مما قبله وخبره في قوله : { فألقوا السلم } [ سورة النحل : 28 ] ا ه .
واقتران الفعل بتاء المضارعة التي للمؤنث في قراءة الجمهور باعتبار إسناده إلى الجماعة . وقرأ حمزة وخلف { يتوفّاهم } بالتحتية على الأصل .
والإلقاء : مستعار إلى الإظهار المقترن بمذلّة . شبّه بإلقاء السّلاح على الأرض ، ذلك أنّهم تركوا استكبارهم وإنكارهم وأسرعوا إلى الاعتراف والخضوع لما ذاقوا عذاب انتزاع أرواحهم .
والسَلَم بفتح السين وفتح اللاّم الاستسلام . وتقدّم الإلقاء والسَلَم عند قوله تعالى : { وألقوا إليكم السّلم } في سورة النساء ( 90 ) . وتقدم الإلقاء الحقيقي عند قوله تعالى : { وألقى في الأرض رواسي } في أول هذه السورة ( 15 ) .
ووصفهم ب { ظالمي أنفسهم } يرمي إلى أن توفّي الملائكة إيّاهم ملابس لغلظة وتعذيب ، قال تعالى : { ولو ترى إذ يتوفّى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم } [ سورة الأنفال : 50 ] .
وجملة { ما كنا نعمل من سوء } مقول قول محذوف دلّ عليْه { ألقوا السلم } ، لأن إلقاء السَلَم أوّل مظاهره القول الدّال على الخضوع . يقولون ذلك للملائكة الّذين ينتزعون أرواحهم ليكفّوا عنهم تعذيب الانتزاع ، وهم من اضطراب عقولهم يحسبون الملائكة إنما يجرّبونهم بالعذاب ليطّلعوا على دخيلة أمرهم ، فيحسبون أنهم إن كذبوهم رَاج كذبهم على الملائكة فكفّوا عنهم العذاب ، لذلك جحدوا أن يكونوا يعملون سوءاً من قبل .
ولذلك فجملة { بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون } جواب الملائكة لهم ، ولذلك افتتحت بالحرف الّذي يبطل به النّفي وهو { بلى } . وقد جعلوا علم الله بما كانوا يعملون كناية عن تكذيبهم في قولهم : { ما كنا نعمل من سوء } ، وكناية على أنّهم ما عاملوهم بالعذاب إلاّ بأمر من الله تعالى العالم بهم .
وأسندوا العلم إلى الله دون أن يقولوا : إنّا نعلم ما كنتم تعملون ، أدباً مع الله وإشعاراً بأنهم ما علموا ذلك إلاّ بتعليم من الله تعالى .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم نعتهم، فقال: {الذين تتوفاهم الملائكة}، يعني: ملك الموت وأعوانه،
{فألقوا السلام}، يعني: الخضوع والاستسلام، ثم قالوا: {ما كنا نعمل من سوء}، يعني: من شرك؛ لقولهم في الأنعام: {والله ربنا ما كنا مشركين} [الأنعام:23]، فكذبهم الله عز وجل، فردت عليهم خزنة جهنم من الملائكة، فقالوا: {بلى} قد عملتم السوء، {إن الله عليم بما كنتم تعملون}، يعني: بما كنتم مشركين.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قال الذين أوتوا العلم: إن الخزي اليوم والسوء على من كفر بالله فجحد وحدانيته،"الّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ" يقول: الذين تقبض أرواحهم الملائكة، "ظالِمِي أنْفُسِهمْ" يعني: وهم على كفرهم وشركهم بالله...
"فَألْقُوا السّلَمَ" يقول: فاستسلموا لأمره، وانقادوا له حين عاينوا الموت قد نزل بهم.
"ما كُنّا نَعْمَلُ منْ سُوءٍ" وفي الكلام محذوف استعني بفهم سامعيه ما دلّ عليه الكلام عن ذكره، وهو: قالوا ما كنا نعمل من سوء. يخبر عنهم بذلك أنهم كذّبوا وقالوا: ما كنا نعصِي الله اعتصاما منهم بالباطل رجاء أن ينجوا بذلك،، فكذّبهم الله فقال: بل كنتم تعملون السوء وتصدّون عن سبيل الله.
"إنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ" يقول: إن الله ذو علم بما كنتم تعملون في الدنيا من معاصيه وتأتون فيها ما يسخطه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{الذين تتوفاهم الملائكة} من بين يدي الله يوم الحساب إلى النار. وقال بعضهم: {تتوفاهم الملائكة} وقت قبض أرواحهم {ظالمي أنفسهم} بالشرك والكفر بالله على تأويل الحسن، يكون قوله: {ظالمي أنفسهم} في الدنيا. ويجوز أن يوصفوا بالظلم في الآخرة أيضا بكذبهم فيها في قولهم: {ما كنا مشركين} (النعام: 23) وأمثاله من الكذب حين ينكرون الإشراك في ألوهية الله وعبادته. كان الإنكار والكذب منهم في أول حالهم ظنا منهم أن ذلك ينفعهم، فإذا لم ينفعهم إنكارهم طلبوا الرد إلى الدنيا أو إلى حال الأمن ليعملوا غير الذي عملوا كقولهم: {أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل} (الأعراف: 53). فإذا لم يردوا، وأيسوا عن ذلك، فعند ذلك أنطق الله جوارحهم تشهد عليهم بما كان منهم، فعند ذلك يقرون، ويعترفون بذنوبهم كقوله: {اعترفوا بذنوبهم} (التوبة: 102).
وقوله تعالى: {الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم} قال بعضهم: يسلمون ويستسلمون لأمر الله. ولكن لو كان ما ذكروا لم يكونوا ينكرون عمل السوء كقولهم: {ما كنا نعمل من سوء}. وقال بعضهم: {فألقوا السلم} هو الاستخزاء والخضوع والتضرع. ويشبه أن يكون قوله: {فألقوا السلم} عند الموت؛ يؤمنون عند معاينة ذلك، أو سلموا عليهم في الآخرة على ما رأوا في الدنيا المؤمنين يسلم بعضهم على بعض.
{ما كنا نعمل من سوء} في الآخرة، والله أعلم بذلك. فأكذبهم الله في قولهم: {ما كنا نعمل من سوء} فقال: {بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون} هذا وعيد؛ يخبر ألا يجوز كذبهم في الآخرة ولا يحتمل كما جاز في الدنيا، ولم يظهر.
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
إن انهمكت النفس في الشبهات وغرقت في بحر الظلمات، واخترقت نيران الشهوات، تخرج من الدنيا بغير زاد، وتقدم على الله بغير حجة، وتكون كما أخبر الله بقوله: {الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم}. [المعارف العقلية: 40].
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... {فَأَلْقَوُاْ السلم} فسالموا وأخبتوا، وجاءوا بخلاف ما كانوا عليه في الدنيا من الشقاق والكبر، وقالوا: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء} وجحدوا ما وجد منهم من الكفر والعدوان، فردّ عليهم أولو العلم {إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فهو يجازيكم عليه، وهذا أيضاً من الشماتة وكذلك {فادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ}.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... ويحتمل قولهم: {ما كنا نعمل من سوء} وجهين...الآخر أنهم أخبروا عن أنفسهم بذلك على ظنهم أنهم لم يكونوا يعملون سوءاً، فأخبروا عن ظنهم بأنفسهم، وهو كذب في نفسه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم رغبهم في التوبة بقوله: {الذين تتوفّاهم} بالفوقية في قراءة الجمهور لأن الجمع مؤنث، وبالتحتية في قراءة حمزة لأن المجموع غير مؤنث، وكان وفاتهم على وجهين: وجه خفيف -بما أشار إليه التأنيث لخفة كفر صاحبه، وآخر ثقيل شديد لشدة كفر صاحبه، ولم يحذف شيء من التاءين للإشارة إلى نقصان حالهم لأنه لا يمكن خيرها لموتهم على الكفر بخلاف ما تقدم في تارك الهجرة في النساء {الملائكة} أي الموكلون بالموت، حال كونهم {ظالمي أنفسهم} بوضعها من الاستكبار على الملك الجبار غير موضعها.
فلما تم ذلك على هذا الوجه البديع، والأسلوب الرفيع المنيع، ابتدأ الخبر عن جوابهم على وجه معلم بحالهم فقال: {فألقوا} أي من أنفسهم عقب قول الأولياء وبسبب سؤال ذي الكبرياء {السلم} أي المقادة والخضوع بدل ذلك التكبر والعلو قائلين ارتكاباً للكذب من غير احتشام: {ما كنا نعمل} وأعرقوا في النفي فقالوا: {من سوء} فكأنه قيل: إن هذا لبهتان عظيم في ذلك اليوم الجليل، فماذا قيل لهم؟ فقيل: {بلى} قد عملتم أعظم السوء؛ ثم علل تكذيبهم بقوله: {إن الله} أي المحيط بكل شيء {عليم} أي بالغ العلم من كل وجه {بما كنتم} أي جبلة وطبعاً {تعملون} أي من الضلال والإضلال، فلا يسعكم الإنكار، أفما آن لكم أن تنزعوا عن الجهل فيما يضركم ولا ينفعكم ويخفضكم ولا يرفعكم!
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{الذين تتوفاهم الملائكة}...والعدولُ إلى صيغة المضارعِ لاستحضار صورةِ توفِّيهم إياهم لما فيها من الهول...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
..."فألقوا السّلم"...وأصل الإلقاء في الأجسام. فاستعمل في إظهار الانقياد، إشعارا بغاية خضوعهم واستكانتهم، وجعل ذلك كالشيء الملقى بين يدي القاهر الغالب، على الاستعارة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) فيعود السياق بهم خطوة قبل خطوة القيامة. يعود بهم إلى ساعة الاحتضار، والملائكة تتوفاهم ظالمين لأنفسهم بما حرموها من الإيمان واليقين، وبما أوردوها موارد الهلاك، وبما قادوها في النهاية إلى النار والعذاب. ويرسم مشهدهم في ساعة الاحتضار، وهم قريبو عهد بالأرض، وما لهم فيها من كذب ومكر وكيد: (فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء!) ألقوا السلم. هؤلاء المستكبرون. فإذا هم مستسلمون لا يهمون بنزاع أو خصام، إنما يلقون السلم ويعرضون الاستسلام! ثم يكذبون -ولعله طرف من مكرهم في الدنيا- فيقولون مستسلمين: (ما كنا نعمل من سوء)! وهو مشهد مخز وموقف مهين لأولئك المستكبرين! ويجيئهم الجواب: (بلى) من العليم بما كان منهم (إن الله عليم بما كنتم تعملون) فلا سبيل إلى الكذب والمغالطة والتمويه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
القرينة ظاهرة على أنّ قوله تعالى: {الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} ليست من مقول الذين أوتوا العلم يوم القيامة، إذ لا مناسبة لأن يعرّف الكافرون يوم القيامة بأنهم الّذين تتوفّاهم الملائكة ظالمي أنْفُسهم؛ فإن صيغة المضارع في قوله تعالى: {تتوفاهم الملائكة} قريبة من الصريح في أن هذا التوفّي محكيّ في حال حصوله وهم يوم القيامة مضت وفاتهم ولا فائدة أخرى في ذكر ذلك يومئذٍ، فالوجه أن يكون هذا كلاماً مستأنفاً.
فالوجه أن {الذين تتوفاهم الملائكة} بدل من {الذين} في قوله تعالى: {فالذين لا يؤمنون بالآخرة} [سورة النحل: 22] أو صفة لهم، كما يومئ إليه وصفهم في آخر الآية بالمتكبّرين في قوله تعالى: {فلبئس مثوى المتكبرين}، فهم الّذين وصفوا فيما قبل بقوله تعالى: {وهم مستكبرون} [سورة النحل: 22]، وما بينهما اعتراض. وإن أبيت ذلك لبعد ما بين المتبوع والتّابع فاجعل {الذين تتوفاهم الملائكة} خبراً لمبتدأ محذوف. والتقدير: هم الذين تتوفاهم الملائكة.
...وجملة {ما كنا نعمل من سوء} مقول قول محذوف دلّ عليْه {ألقوا السلم}، لأن إلقاء السَلَم أوّل مظاهره القول الدّال على الخضوع. يقولون ذلك للملائكة الّذين ينتزعون أرواحهم ليكفّوا عنهم تعذيب الانتزاع، وهم من اضطراب عقولهم يحسبون الملائكة إنما يجرّبونهم بالعذاب ليطّلعوا على دخيلة أمرهم، فيحسبون أنهم إن كذبوهم رَاج كذبهم على الملائكة فكفّوا عنهم العذاب، لذلك جحدوا أن يكونوا يعملون سوءاً من قبل.
ولذلك فجملة {بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون} جواب الملائكة لهم، ولذلك افتتحت بالحرف الّذي يبطل به النّفي وهو {بلى}. وقد جعلوا علم الله بما كانوا يعملون كناية عن تكذيبهم في قولهم: {ما كنا نعمل من سوء}، وكناية على أنّهم ما عاملوهم بالعذاب إلاّ بأمر من الله تعالى العالم بهم. وأسندوا العلم إلى الله دون أن يقولوا: إنّا نعلم ما كنتم تعملون، أدباً مع الله وإشعاراً بأنهم ما علموا ذلك إلاّ بتعليم من الله تعالى.