اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ ظَالِمِيٓ أَنفُسِهِمۡۖ فَأَلۡقَوُاْ ٱلسَّلَمَ مَا كُنَّا نَعۡمَلُ مِن سُوٓءِۭۚ بَلَىٰٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمُۢ بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (28)

قوله : { الذين تَتَوَفَّاهُمُ } يجوز أن يكون الموصول مجرور المحلِّ ؛ نعتاً لما قبله ، أو بدلاً منه ، أو بياناً له ، وأن يكون منصوباً على الذم أو مرفوعاً عليه ، أو مرفوعاً بالابتداء ، والخبر قوله { فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ } والفاء مزيدة في الخبر ؛ قاله ابن عطية .

وهذا لا يجيء إلاَّ على رأي الأخفش ؛ في إجازته زيادة الفاء في الخبر مطلقاً ؛ نحو : " زيْدٌ فقامَ " ، أي : قام ، ولا يتوهم أنَّ هذه الفاء هي التي تدخل مع الموصول المضمَّن معنى الشَّرط ؛ لأنَّه لو صرَّح بهذا الفعل مع أداة الشرط ، لم يجز دخول الفاء عليه ؛ فما ضمِّن معناه أولى بالمنع ؛ كذا قاله أبو حيان ، وهو ظاهر .

وعلى الأقوالِ المتقدمة ، خلا القول الأخير يكون " الَّذينَ " وصلته داخلاً في القول ، وعلى القول الأخير ، لا يكون داخلاً فيه ، وقرأ " يَتوفَّاهُمُ " بالياءِ في الموضعين حمزة ، والباقون : بالتاء من فوق ؛ وهما واضحتان مما تقدم في قوله : { فَنَادَتْهُ الملائكة } [ آل عمران : 39 ] وناداه ، وقرأت فرقة : بإدغام إحدى التاءين في الأخرى ، وفي مصحف عبد الله : " تَوفَّاهمُ " بتاء واحدة ، وهي محتملة للقراءةِ بالتشديد على الإدغام ، وبالتخفيف على حذف إحدى التَّاءين .

و { ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ } حالٌ من مفعولٍ " تَتوفَّاهُمُ " ، و " تَتوفَّاهُمُ " يجوز أن يكون مستقبلاً على بابه ؛ إن كان القول واقعاً في الدنيا ، وإن كان ماضياً على حكاية الحال إن كان واقعاً يوم القيامةِ .

قوله " فألْقوا " يجوز فيه أوجهٌ :

أحدها : أنه خبر الموصول ، وقد تقدم فساده .

الثاني : أن يكون عطفاً على " قَالَ الَّذِينَ " .

الثالث : أن يكون مستأنفاً ، والكلام قد تمَّ عند قوله : " أنْفُسهمْ " ثمَّ عاد بقوله : " فألْقَوا " إلى حكاية كلام المشركين يوم القيامة ؛ فعلى هذا يكون قوله : { قَالَ الذين أُوتُواْ العلم } إلى قوله " أنْفُسهِمْ " جملة اعتراضٍ .

الرابع : أن يكون معطوفاً على " تَتوفَّاهُم " قاله أبو البقاءِ .

وهذا إنَّما يتمشى على أنَّ " تَتوفَّاهُم " بمعنى المضيِّ ؛ ولذلك لم يذكر أبو البقاء في " تَتوفَّاهُم " سواه . قوله { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سوء } فيه أوجهٌ :

أحدها : أن يكون تفسيراً للسلم الذي ألقوه ؛ لأنَّه بمعنى القول ؛ بدليل الآية الأخرى : { فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول } [ النحل : 86 ] قاله أبو البقاء ، ولو قال : يُحْكى بما هو بمعنى القول ؛ لكان أوفق لمذهبِ الكوفيِّين .

الثاني : أن يكون منصوباً بقولٍ مضمرٍ ، ذلك القول منصوبٌ على الحالِ ، أي : فألقوا السَّلم قائلين ذلك .

و " مِنْ سُوءٍ " مفعول " نَعْملُ " زيدت فيه " مِنْ " ، و " بَلَى " جوابٌ ل " مَا كُنَّا نعمل " فهو إيجابٌ له .

فصل

قال ابن عباس رضي الله عنه : استسلموا ، وأقرُّوا لله بالعبودية عند الموت ، وقالوا { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سوء } ، والمراد من هذا السوء الشِّرك ، فقالت الملائكة تكذيباً لهم { بلى إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } من التكذيب ، والشرك{[19798]} ، وقيل : تمَّ الكلام عند قوله : { ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ } ثم عاد إلى حكايةِ كلام المشركين إلى يوم القيامة ، والمعنى : أنَّهم يوم القيامة ألقوا السَّلم ؛ وقالوا : { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سوء } على سبيل الكذب ، ثمَّ ههنا اختلفوا : فالذين جوَّزوا الكذب على أهلِ القيامة قالوا : إنَّ قولهم : { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سوء } لغاية الخوف ، والَّذينَ لم يجوِّزوا الكذب عليهم قالوا : المعنى : ما كنَّا نعمل مِنْ سُوءٍ عند أنفسنا وفي اعتقادنا ، وقد تقدَّم الكلام في قوله الأنعام : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ واللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] هل يجوز الكذب على أهل القيامة ، أم لا ؟ .

وقوله : { بلى إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } يحتمل أن يكون من كلام الله أو بعض الملائكة .


[19798]:ذكره الرازي في "تفسيره" (20/18).