قوله تعالى : { إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا } ، ندخلهم ناراً .
قوله تعالى : { كلما نضجت } ، أحرقت .
قوله تعالى : { جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها } ، غير الجلود المحترقة ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : يبدلون جلوداً بيضاء كأمثال القراطيس . وروي أن هذه الآية قرئت عند عمر رضي الله عنه ، فقال عمر رضي الله عنه للقارئ : أعدها ، فأعادها . وكان عنده معاذ بن جبل فقال معاذ : عندي تفسيرها ، تبدل في كل ساعة مائة مرة ، فقال عمر رضي الله عنه : هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال الحسن : تأكلهم النار كل يوم سبعين ألف مرة ، كلما أكلتهم ، قيل لهم عودوا ، فيعودون كما كانوا .
أخبرنا عبد الواحد أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا معاذ بن أسيد ، أنا الفضل بن موسى ، أنا الفضيل ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ( ما بين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنا عبد الغافر بن محمد أنا محمد بن عيسى الجلودي ، أنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أنا مسلم بن الحجاج ، أنا شريح بن يونس ، أنا حميد بن عبد الرحمن ، عن الحسن بن صالح ، عن هارون بن سعد ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ضرس الكافر ، أو ناب الكافر ، مثل أحد ، وغلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام ) .
فإن قيل : كيف تعذب جلود لم تكن في الدنيا ولم تعصه ؟ قيل : يعاد الجلد الأول في كل مرة ، وإنما قال : جلوداً غيرها لتبديل صفتها ، كما تقول : صنعت من خاتمي خاتماً غيره ، فالخاتم الثاني هو الأول إلا أن الصناعة والصفة تبدلت ، وكمن يترك أخاه صحيحاً ، ثم بعد مرة يراه مريضاً دنفاً فيقول : أنا غير الذي عهدت ، وهو عين الأول ، إلا أن صفته تغيرت ، وقال السدي : يبدل الجلد جلداً غيره من لحم الكافر ، ثم يعاد الجلد لحماً ، ثم يخرج من اللحم جلداً آخر ، وقيل : يعذب الشخص في الجلد لا الجلد ، بدليل أنه قال : { ليذوقوا العذاب } ولم يقل لتذوق . وقال عبد العزيز بن يحيى : إن الله عز وجل يلبس أهل النار جلوداً لا تألم ، فيكون زيادة عذاب عليهم ، كلما احترق جلد بدلهم جلداً غيره . كما قال : { سرابيلهم من قطران } [ إبراهيم :50 ] فالسرابيل تؤلمهم وهي لا تألم .
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا }
أي : عظيمة الوقود شديدة الحرارة { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ } أي : احترقت { بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ } أي : ليبلغ العذاب منهم كل مبلغ . وكما تكرر منهم الكفر والعناد وصار وصفا لهم وسجية ؛ كرر عليهم العذاب جزاء وِفاقا ، ولهذا قال : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا } أي : له العزة العظيمة والحكمة في خلقه وأمره ، وثوابه وعقابه .
وعندما يبلغ السياق هذا المقطع من ذكر الإيمان والصدود عن الإيمان في آل إبراهيم ، يعقب بالقاعدة الشاملة للجزاء . جزاء المكذبين ، وجزاء المؤمنين . . هؤلاء وهؤلاء أجمعين . . في كل دين وفي كل حين ؛ ويعرض هذا الجزاء في صورة مشهد من مشاهد القيامة العنيفة الرعيبة :
( إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا ، كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب . إن الله كان عزيزا حكيما . والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار ، خالدين فيها أبدا ، لهم فيها أزواج مطهرة ، وندخلهم ظلا ظليلا ) . .
. . . ( كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ) . .
إنه مشهد لا يكاد ينتهي . مشهد شاخص متكرر . يشخص له الخيال ، ولا ينصرف عنه ! إنه الهول . وللهول جاذبية آسرة قاهرة ! والسياق يرسم ذلك المشهد ويكرره بلفظ واحد . . ( كلما ) . . ويرسمه كذلك عنيفا مفزعا بشطر جميلة . . ( كلما نضجت جلودهم ) . . ويرسمه عجيبا خارقا للمألوف بتكملة الجملة . . ( بدلناهم جلودا غيرها ) . . ويجمل الهول الرهيب المفزع العنيف كله في جملة شرطية واحدة لا تزيد !
ذلك جزاء الكفر - وقد تهيأت أسباب الإيمان - وهو مقصود . وهو جزاء وفاق :
{ إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا } كالبيان والتقرير لذلك . { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها } بأن يعاد ذلك الجلد بعينه على صورة أخرى كقولك : بدلت الخاتم قرطا ، أو بأن يزال عنه أثر الإحراق ليعود إحساسه للعذاب كما قال : { ليذوقوا العذاب } أي ليدوم لهم ذوقه . وقيل يخلق لهم مكانه جلد آخر والعذاب في الحقيقة للنفس العاصية المدركة لا لآلة إدراكها فلا محذور . { إن الله كان عزيزا } لا يمتنع عليه ما يريده . { حكيما } يعاقب على وفق حكمته .
تقدم في الآيات وصف المردة من بني إسرائيل وذكر أفعالهم وذنوبهم ، ثم جاء بالوعيد النص لهم بلفظ جلي عام لهم ولغيرهم ممن فعل فعلهم من الكفر ، والقراءة المشهورة { نُصليهم } بضم النون من أصليت ومعناه قربت من النار وألقيت فيها ، وهو معنى صليت بتشديد اللام ، وقرأ حميد «نَصليهم » بفتح النون من صليت ، ومعناه شويت ، ومنه الحديث ، أتي رسول الله بشاة مصلية ، أي مشوية{[4107]} ، وكذا وقع تصريف الفعل في العين وغيره ، وقرأ سلام ويعقوب «نصليهُم » بضم الهاء ، واختلف المتأولون في معنى تبديل الجلود{[4108]} ، فقالت فرقة : تبدل عليهم جلود غيرها ، إذ نفوسهم هي المعذبة والجلود لا تألم في ذاتها ، فإنها تبدل ليذوقوا تجديد العذاب{[4109]} ، وقالت فرقة : «تبديل الجلود » هو إعادة ذلك الجلد بعينه الذي كان في الدنيا ، تأكله النار ويعيده الله دأباً لتجدد العذاب ، وإنما سماه «تبديلاً » ، لأن أوصافه تتغير ثم يعاد ، كما تقول : بدل من خاتمي هذا خاتماً وهي فضته بعينها ، فالبدل إنما وقع في تغيير الصفات ، وقال ابن عمر ، كلما احترقت جلودهم بدلوا جلوداً بيضاء كالقراطيس ، وقال الحسن بن أبي الحسن ، تبدل عليهم في اليوم سبعين ألف مرة ، وقالت فرقة : الجلود في هذا الموضع سرابيل القطران{[4110]} ، سماها جلوداً للزومها فصارت كالجلود ، وهي تبدل دأباً عافانا الله من عذابه برحمته ، حكاه الطبري ، وحسن الاتصاف بعد هذه المقدمات بالعزة والإحكام ، لأن الله لا يغالبه مغالب إلا غلبه الله ، ولا يفعل شيئاً إلا بحكمة وإصابة ، لا إله إلا هو تبارك وتعالى .