اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِنَا سَوۡفَ نُصۡلِيهِمۡ نَارٗا كُلَّمَا نَضِجَتۡ جُلُودُهُم بَدَّلۡنَٰهُمۡ جُلُودًا غَيۡرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمٗا} (56)

قرأ الجمهورُ : " نصليهم " بِضَمِّ النونِ مِنْ أصْلَى ، وحُمَيْدٌ{[8319]} : بِفَتْحِهَا مِنْ صَلَيْتُ ثُلاثِيَّا . قال القَرْطُبِيُّ{[8320]} : ونَصْبُ : " ناراً " على هذه القراءةِ ، بِنَزْعِ الخَافِضِ تقديرهُ : بنارٍ . وقَرأ سَلاَّم ، ويَعْقُوبُ : " نصليهُم " بضَمِّ الهَاءِ ، وَهِيَ لُغَةُ الحِجَازِ ، وقد تَقَدَّمَ تَقْرِيرهُ .

وقال سِيبويْهِ : " سوف " [ كَلِمَةٌ ]{[8321]} تُذكَرُ لِلتَّهديدِ ، والوَعِيدِ : يُقَالُ : سَوْفَ أفْعَلُ ، وَينوبُ عَنْهَا حرفُ السين ؛ كقوله : { سَأُصْلِيهِ سَقَرَ } [ المدثر : 26 ] وقد يردُ " سوف " و " السِّينُ " : في الوَعْدِ أيْضاً : قال تعالى : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } [ الضحى : 5 ] ، وقال : { سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي } [ مريم : 47 ] ، وقال : { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي }

[ يوسف : 98 ] ، قِيلَ ، أخَّرَهُ إلى وقْتِ السَّحر ؛ تَحْقِيقاً للدعاءِ ، وبالجملةِ ، فالسَّينُ ، وسَوْفَ : مَخْصُوصَتَانِ بالاسْتِقْبَالِ .

فصل في معنى قوله " بآياتنا "

يَدْخُلُ في الآيات كُلُّ مَا يَدُلُّ على ذاتِ اللَّهِ تعالى وصفاته ، وأفْعالِهِ ، [ وأسْمَائِه ]{[8322]} ، والملائكةِ ، والكُتُبِ ، والرسُلِ ؛ وكُفْرُهُم قدْ يكونُ بالجَحْدِ ، وقد يكونُ بِعَدَمِ النَّظْرِ فيها ، وقد يكونُ بإلقاءِ الشكُوكِ والشُّبُهَاتِ فيها ، وقَدْ يكونُ بإنْكَارِهَا ؛ عِنَاداً ، أو حَسَدَاً .

وقوله : " نَصْلِيهم " {[8323]} أيْ : نُدْخِلُهم النارَ ، لكن قولُه : { نُصْلِيهِمْ } فيه زِيَادَةٌ على ذلك ، فإنَّهُ بمنزلَةِ شَوَيتُهُ بالنارِ ، يُقالُ شَاةٌ مَصْليَّةٌ ، أيْ : مَشْوِيَّةٌ .

قوله : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ } ، { كُلَّمَا } : ظَرْفُ زَمَانٍ ، والعَامِلُ فيها { بَدَّلْنَاهُمْ } ، والجملةُ في مَحَلِّ نصبٍ على الحَالِ ، مِنَ الضميرِ المنْصُوبِ في { نُصْلِيهِمْ } ، ويجوزُ أنْ يكونَ صِفَةً ل " ناراً " والعائِدُ محذوفٌ ، ولَيْسَ بالقَوِيِّ ، و " ليذوقوا " مُتعلِّقٌ ب " بدلناهم " .

قال القُرْطُبِيُّ{[8324]} : يُقالُ : نَضِجَ الشَّيْءُ نُضْجاً ونَضجاً ، وفلانٌ نَضِيجُ الرَّأي : أيْ : مُحْكَمُهُ .

فصل في معنى قوله { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ }

{ كُلَّمَا نَضِجَتْ [ جُلُودُهُمْ } أيْ : ]{[8325]} كلما احْترقَتْ جُلودهم ، بَدلنَاهُم جُلُوداً غيْرَ الجلودِ المُحْترقَةِ{[8326]} .

قال ابنُ عَبَّاسٍ : يُبَدِّلُونَ جُلُوداً بِيضاً ، كأمثالِ القَرَاطِيسِ{[8327]} . رُوي أنَّ هذه الآيةَ قُرِئَتْ عند عُمَرَ - رضي الله عنه - فقال عُمرُ للقارئ : أعِدْهَا ، فأعَادَهَا ، وكان عِنْدَهُ مُعَاذُ ابنُ جَبَلٍ ، فقال مُعَاذُ بنُ جَبَل - رضي الله عنه - عِندي تَفْسِيرُها : تُبدَّلُ في الساعَةِ مائةَ مرَّةٍ ، فقال عمرُ : هكذا سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم{[8328]} .

قال الحَسَنُ : تأكُلُهمُ النارُ كُلَّ يومٍ سَبْعِينَ ألْفَ مرَّةٍ ، كُلَّما أكَلَتْهُم ، قِيلَ لَهُمْ : عُودُوا ، فيعُودُونَ كَمَا كَانُوا{[8329]} .

رَوَى أبُو هُرَيرَة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما بَيْنَ مَنْكبي الكافِرِ مَسِيرةُ ثلاثَةِ أيَّامٍ ، للرّاكِبِ المُسْرِعِ " {[8330]} .

وعن أبي هُرَيْرة ، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " ضِرْسُ الكَافِر ، أو نابُ الكَافر ، مِثْلُ أحُدٍ وغِلَظُ [ جِلْدِه ]{[8331]} مَسِيرةُ ثلاثَةِ أيَّامٍ " {[8332]} .

فَإنْ قِيل : إنَّهُ تعالى قادِرٌ على إبْقَائِهِمْ أحْياء في النَّارِ أبَدَ الآبَادِ فَلِمَ لَمْ يُبْقِ أبْدانهمُ في النَّارِ مَصُونةً عن النضْجِ ، مع إيصالٍ الألم الشديد إليها ، مِنْ غيْرِ تَبْدِيلٍ لَهَا ؟ فالجوابُ : أنَّهُ لا يُسْألُ عما يفعلُ ، بل نقولُ : إنَّهُ قَادِرٌ على أنْ يُوصِلَ إلى أبْدانِهم آلاماً عظيمةً ، من غيرِ إدْخَالِ النَّارِ ، مع أنه تعالى أدْخلَهم النَّارِ ، فإنْ قِيلَ : كَيْفَ يُعَذِّبُ جُلُوداً لم تكنْ في الدنيا ولم تَعْصِهِ ؟ فالجوابُ من وُجُوهٍ :

الأوَّلُ : أنه يُعَادُ الأولُ في كُلِّ مَرَّةٍ ، وإنَّما قال غيرَها ، لتبدل صفتها ، كما تقولُ : صَنَعْتُ مِن خَاتَمِي خَاتَماً غيرَهُ ، فالخَاتَمُ الثَّانِي هُوَ الأولُ ؛ إلاَّ أنَّ الصناعةَ ، والصِّفَةَ تبدَّلتْ .

الثاني : المعذَّبُ هو الإنسانُ في الجِلْدِ ، لا الْجِلْدُ ، بل الجِلْدُ كالشَّيءِ الملتَصِقِ به ، الزَّائِدِ{[8333]} على ذَاتِهِ ، فإذا جُدِّدَ الجِلْدُ ، صَارَ ذلك الجلدُ الجديدُ سَبَباً لوصولِ العذاب إلَيْهِ ، فالمعذبُ لَيْسَ إلاَّ العَاصِي ؛ يدلُّ عليه قولُه تعالى : { لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ } ولَمْ يَقُلْ : ليَذُوقَ .

الثالثُ : قال السُّدِّيُّ{[8334]} : يُبَدَّلُ الجِلْدُ جِلْداً غَيرَهُ مِنْ لَحْمِ الكَافِرِ .

الرابعُ : قال عَبْدُ الْعَزِيز بنُ يَحْيَى{[8335]} : إنَّ اللَّهَ - تعالى - يُلبِسُ أهْلَ النَّارِ جُلُوداً لا تألَّمُ ، بل هي تُؤلِمُهُم : وَهِيَ السَّرَابِيلُ فكُلَّمَا [ احترق ]{[8336]} جِلْدٌ بدّلَهُم جِلْدَاً غَيْرَهُ . طعن القَاضِي{[8337]} في هذا فقال : إنه تَرْكٌ للظَّاهِرِ ، وأيضاً السَّرَابِيلُ مِنَ القَطرَانِ لا تُوصَفُ بالنُّضْجِ ، وإنما تُوصَفُ بالاحْتِراقَ .

الخَامِسُ : يمكنُ أنْ يكونَ هذا استعارةً عن الدَّوَامِ ، وعَدَمِ الانْقِطَاعِ ؛ يُقالُ للموصوفِ بالدَّوام : كُلَّمَا انْتَهى فقد ابْتَدَأ ، وكُلَّمَا وَصَلَ [ إلى آخره ]{[8338]} فقد ابتدَأ من أوله ، فكذلك قوله : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا } يَعْني : أنهم كُلّما ظَنُّوا أنهم نَضِجُوا واحْتَرقُوا وانتهوا إلى الهلاكِ ، أعْطيناهُم قُوَّةً جَديدةً من الحياة ؛ بحيثُ ظنُّوا أنَّهم الآنَ وجدُوا ، فيكونُ المقصودُ بيانَ دَوَام العَذَابِ .

فإن قيل : قوله : " ليذوقوا العذاب " إنما يُقالُ : فلانٌ ذَاقَ الشَّيءَ ، إذَا أدْرَكَ شَيْئاً قَلِيلاً منه ، والله تعالى قَدْ وَصَفَهُمْ بأنهم كانوا في أشدِّ العذابِ ، فكيْفَ يَحْسُنُ أن يذكرَ بعد ذلك أنَّهم ذَاقُوا العذابَ ؟ .

فالجوابُ : المقصودُ مِنْ ذِكْرِ الذَّوْقِ ، الإخبارُ بأنَّ إحساسَهُم بذلك العذابِ ، في كُلِّ حالٍ ، يَكُونُ كإحْسَاسِ الذَّائِقِ بالمذُوق من حيثُ إنه لا يَدْخُلُ فيه نُقْصَانٌ ، ولا زَوَالٌ ، بِسَبَبِ ذلك الاحتراقِ .

ثُمَّ قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً } ، فالعزيزُ : القادِرُ الغَالِبُ ، والحَكِيمُ : الذي لا يَفْعَلُ إلاَّ الصَّوابَ ، وما تَقْتَضِيه الحكمةُ ؛ لأنَّهُ قد يَقَعُ في القَلْبِ تَعَجُّبٌ مِنْ كَوْنِ الكريمِ الرَّحيمِ يُعَذِّبُ هذا الشخص الضَّعِيفَ إلى هذا الحدِّ العَظيمِ أبَدَ الآبادِ .

فقيل : ليس هذا [ بَعِجبٍ ] ؛ لأنه القادِرُ الغَالِبُ ، فكما أنه رحيمٌ فهو أيضاً حَكِيمٌ ، والحكمةُ تَقْتَضِي ذلك .


[8319]:ينظر: المحرر الوجيز 2/69، والبحر المحيط 3/285، والدر المصون 2/377.
[8320]:ينظر: تفسير القرطبي 5/164.
[8321]:سقط في ب.
[8322]:سقط في ب.
[8323]:في ب: سنصليهم.
[8324]:ينظر: تفسير القرطبي 5/164.
[8325]:سقط في أ.
[8326]:في ب: الحرقة.
[8327]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/464) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/310) وزاد نسبته لابن أبي حاتم من طريق ثوير عن ابن عمر. والبغوي 1/442.
[8328]:أخرجه الطبري في "الأوسط" كما في "مجمع الزوائد" (7/9). وقال الهيثمي: وفيه نافع مولى يوسف السلمي وهو متروك. والأثر ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/310) وقال: أخرجه الطبراني في الأوسط وابن أبي حاتم وابن مردويه بسند ضعيف من طريق نافع عن ابن عمر.
[8329]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/311) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن الحسن.
[8330]:أخرجه البخاري (11/423) كتاب الرقاق باب صفة الجنة والنار (6551) ومسلم (4/2189) كتاب الجنة: باب النار يدخلها الجبارون (45 ـ 2842) عن أبي هريرة. والبغوي 1/443.
[8331]:سقط في أ.
[8332]:أخرجه مسلم (2189) كتاب الجنة باب النار يدخلها الجبارون (44 ـ 2581) والترمذي (4/606) كتاب صفة جهنم: باب ما جاء في عظم أهل النار (2578) من حديث أبي هريرة. وقال الترمذي: حسن صحيح.
[8333]:في ب: الرابد.
[8334]:ينظر: تفسير البغوي 1/443 والرازي 10/109.
[8335]:ينظر: تفسير البغوي 1/443.
[8336]:سقط في أ.
[8337]:ينظر: تفسير الرازي 10/109.
[8338]:سقط في أ.