الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِنَا سَوۡفَ نُصۡلِيهِمۡ نَارٗا كُلَّمَا نَضِجَتۡ جُلُودُهُم بَدَّلۡنَٰهُمۡ جُلُودًا غَيۡرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمٗا} (56)

قد تقدم معنى الإصلاء أول السورة{[4565]} . وقرأ حميد بن قيس " نصليهم " بفتح النون أي نشويهم . يقال : شاة مصلية . ونصب " نارا " على هذه القراءة بنزع الخافض تقديره بنار . " كلما نضجت جلودهم " يقال : نضج الشيء نضجا{[4566]} ونضجا ، وفلان نضيج الرأي محكمه . والمعنى في الآية : تبدل الجلود جلودا أخر . فإن قال من يطعن في القرآن من الزنادقة : كيف جاز أن يعذب جلدا لم يعصه ؟ قيل له : ليس الجلد بمعذب ولا معاقب ، وإنما الألم واقع على النفوس ؛ لأنها هي التي تحس وتعرف فتبديل الجلود زيادة في عذاب النفوس . يدل عليه قوله تعالى : " ليذوقوا العذاب " وقوله تعالى : " كلما خبت زدناهم سعيرا{[4567]} " [ الإسراء : 97 ] . فالمقصود تعذيب الأبدان وإيلام الأرواح . ولو أراد الجلود لقال : ليذقن العذاب . مقاتل : تأكله النار كل يوم سبع مرات . الحسن : سبعين ألف مرة كلما أكلتهم قيل لهم : عودوا فعادوا كما كانوا . ابن عمر : إذا احترقوا بدلت لهم جلود بيض كالقراطيس . وقيل : عنى بالجلود{[4568]} السرابيل ؛ كما قال تعالى : " وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد سرابيلهم من قطران{[4569]} " [ إبراهيم : 49 - 50 ] سميت جلودا للزومها جلودهم على المجاورة ، كما يقال للشيء الخاص بالإنسان : هو جلدة ما بين عينيه . وأنشد ابن عمر رضي الله عنه :

يلومونني في سالم وألومهم *** وجلدة بين العين والأنف سالم

فكلما احترقت السرابيل أعيدت . قال الشاعر :

كسا اللؤمُ تيما خضرةً في جلودها *** فويل لتيم من سرابيلها الخضر

فكنى عن الجلود بالسرابيل . وقيل : المعنى أعدنا الجلد الأول جديدا ، كما تقول للصائغ : صغ لي من هذا الخاتم خاتما غيره ، فيكسره ويصوغ لك منه خاتما . فالخاتم المصوغ هو الأول إلا أن الصياغة تغيرت والفضة واحدة . وهذا كالنفس إذا صارت ترابا وصارت لا شيء ثم أحياها الله تعالى . وكعهدك بأخ لك صحيح{[4570]} ثم تراه بعد ذلك{[4571]} سقيما مدنفا فتقول له : كيف أنت ؟ فيقول : أنا غير الذي عهدت . فهو هو ، ولكن حاله تغيرت . فقول القائل : أنا غير الذي عهدت ، وقوله تعالى : " غيرها " مجاز . ونظيره قوله تعالى : " يوم تبدل الأرض غير الأرض{[4572]} " [ إبراهيم : 48 ] وهي تلك الأرض بعينها إلا أنها تغير آكامها وجبالها وأنهارها وأشجارها ، ويزاد في سعتها ويسوى ذلك منها ؛ على ما يأتي بيانه في سورة " إبراهيم{[4573]} " عليه السلام . ومن هذا المعنى قول الشاعر :

فما الناس بالناس الذين عهدتهم *** ولا الدار بالدار التي كنت أعرف

وقال الشعبي : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : ألا ترى ما صنعت عائشة . ذمت دهرها ، وأنشدت بيتي لبيد :

ذهب الذين يعاش في أكنافهم *** وبقيت في خلف{[4574]} كجلد الأجرب

يتلذذون مَجَانَةً ومَذَلَّةً *** ويعاب قائلهم وإن لم يَشْغَبِ

فقالت : رحم الله لبيدا فكيف لو أدرك زماننا هذا ! فقال ابن عباس : لئن ذمت عائشة دهرها لقد ذمت " عاد " دهرها ؛ لأنه وجد في خزانة " عاد " بعدما هلكوا بزمن طويل كأطول ما يكون من رماح ذلك الزمن عليه مكتوب :

بلاد بها كنا ونحن بأهلها{[4575]} *** إذ الناس ناس والبلاد بلاد

البلاد باقية كما هي إلا أن أحوالها وأحوال أهلها تنكرت وتغيرت .

" إن الله كان عزيزا " أي لا يعجزه شيء ولا يفوته . " حكيما " في إيعاده عباده .


[4565]:راجع المسألة الثانية ص 53 من هذا الجزء.
[4566]:في ج و ط و ز: نضاجا، ولم نقف عليه.
[4567]:راجع ج 10ص 333.
[4568]:في ج: المراد.
[4569]:راجع ج 9 ص 382، 385.
[4570]:في أ و ح: صحيحا.
[4571]:من ج و ط.
[4572]:راجع ج 9 ص 382، 385.
[4573]:راجع ج 9 ص 382، 385.
[4574]:الخلف (بسكون اللام) : الأردياء الأخساء. والمجانة: ألا يبالي الإنسان بما صنع وما قيل له. ويروى: يتحدثون مخانة وملاذة. والمخانة مصدر من الخيانة والميم زائدة. ويشغب: يميل عن الطريق والقصد.
[4575]:في ج و ط و ز: من أهلها.