البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِنَا سَوۡفَ نُصۡلِيهِمۡ نَارٗا كُلَّمَا نَضِجَتۡ جُلُودُهُم بَدَّلۡنَٰهُمۡ جُلُودًا غَيۡرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمٗا} (56)

النضج : أخذ الشيء في التهري وتفرق أجزائه ، ومنه نضج اللحم ، ونضج الثمرة .

يقال : نضج الشيء ينضج نضجاً ونضاجاً .

الجلد معروف .

{ إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً } لما ذكر قوله : ومنهم من صد عنه ، وكفى بجهنم سعيراً أتبع ذلك بما أعد الله للكافرين بآياته ، ثم بعد يتبع بما أعد للمؤمنين ، وصار نظير وتسود وجوه ، { فأما الذين اسودت وجوههم } وقرأ الجمهور نصليهم من أصلى .

وقرأ حميد : نصليهم من صليت .

وقرأ سلام ويعقوب : نصليهم بضم الهاء .

{ كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها } انتصاب على كل الظرف لأنه مضاف إلى ما المصدرية الظرفية ، والعامل فيه بدلناهم ، وهي جملة فيها معنى الشرط ، وهي في موضع الحال ، والعامل فيها نصليهم .

والتبديل على معنيين : تبديل في الصفات مع بقاء العين ، وتبديل في الذوات بأن تذهب العين وتجيء مكانها عين أخرى ، يقال : هذا بدل هذا .

والظاهر في الآية هذا المعنى الثاني .

وأنه إذا نضج ذلك الجلد وتهرى وتلاشى جيء بجلد آخر مكانه ، ولهذا قال : جلوداً غيرها .

قال السدي : إن الجلود تخلق من اللحم ، فإذا أحرق جلد بدله الله من لحم الكافر جلداً آخر .

وقيل : هي بعينها تعاد بعد إحراقها ، كما تعاد الأجساد بعد البلى في القبور ، فيكون ذلك عائداً إلى الصفة ، لا إلى الذات .

وقال الفضيل : يجعل النضيج غير نضيج .

وقيل : تبدل كل يوم سبع مرات .

وقال الحسن : سبعين .

وأبعد من ذهب إلى أن الجلود هي سرابيل من قطران تخالط جلودهم مخالطة لا يمكن إزالتها .

فيبدل الله تلك السرابيل كل يوم مائة مرة .

أو كما قيل : مائة ألف مرة .

وسميت جلوداً لملابستها الجلود .

وأبعد أيضاً من ذهب إلى أن هذا استعاره عن الدوام ، كلما انتهى فقد ابتدأ من أوله ، يعني : كلما ظنوا أنهم نضجوا واحترقوا وانتهوا إلى الهلاك أعطيناهم قوة جديدة من الحياة ، بحيث ظنوا أنهم الآن حدثوا ووجدوا ، فيكون المقصود بيان دوام العذاب وعدم انقطاعه .

وقال ابن عباس : يلبسهم الله جلوداً بيضاء كأنها قراطيس .

وقال عبد العزيز بن يحيى : يلبس أهل النار جلوداً تؤلمهم ولا تؤلم هي .

{ ليذوقوا العذاب } أي ذلك التبديل كلما نضجت الجلود ، هو ليذوقوا ألم العذاب .

وأتيَ بلفظ الذوق المشعر بالإحساس الأول وهو آلم ، فجعل كلما وقع التبديل كان لذوق العذاب بخلاف من تمرن على العذاب .

وقال الزمخشري : ليذوقوا العذاب ليدوم لهم دونه ولا ينقطع ، كقولك للعزيز : أعزك الله أي أدامك على عزك ، وزادك فيه .

{ إن الله كان عزيزاً حكيماً } أي عزيزاً لا يغالب ، حكيماً يضع الأشياء مواضعها .

وقال الزمخشري : عزيز لا يمتنع عليه شيء مما يريده بالمجرمين ، حكيماً لا يعذب إلا بعدل من يستحقه .

/خ57