{ 68 - 70 ْ } { قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ْ }
يقول تعالى مخبرًا عن بهت المشركين لرب العالمين { قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ْ } فنزه نفسه عن ذلك بقوله : { سُبْحَانَهُ ْ } أي : تنزه عما يقول الظالمون في نسبة النقائص إليه علوًا كبيرًا ، ثم برهن على ذلك ، بعدة براهين :
أحدها : قوله : { هُوَ الْغَنِيُّ ْ } أي : الغنى منحصر فيه ، وأنواع الغنى مستغرقة فيه ، فهو الغني الذي له الغنى التام بكل وجه واعتبار من جميع الوجوه ، فإذا كان غنيًا من كل وجه ، فلأي شيء يتخذ الولد ؟
ألحاجة منه إلى الولد ، فهذا مناف لغناه فلا يتخذ أحد ولدًا إلا لنقص في غناه .
البرهان الثاني ، قوله : { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ْ } وهذه كلمة جامعة عامة لا يخرج عنها موجود من أهل السماوات والأرض ، الجميع مخلوقون عبيد مماليك .
ومن المعلوم أن هذا الوصف العام ينافي أن يكون له منهم ولد ، فإن الولد من جنس والده ، لا يكون مخلوقًا ولا مملوكًا . فملكيته لما في السماوات والأرض عمومًا ، تنافي الولادة .
البرهان الثالث ، قوله : { إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا ْ } أي : هل عندكم من حجة وبرهان يدل على أن لله ولدًا ، فلو كان لهم دليل لأبدوه ، فلما تحداهم وعجزهم عن إقامة الدليل ، علم بطلان ما قالوه . وأن ذلك قول بلا علم ، ولهذا قال : { أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ْ } فإن هذا من أعظم المحرمات .
وختام هذا الدرس جولة مع هذا النوع من الشرك والافتراء تبدأ بالحجة في الدنيا وتنتهي بالعذاب في الآخرة على طريقة القرآن :
( قالوا : اتخذ اللّه ولداً ، سبحانه هو الغني ، له ما في السماوات وما في الأرض ، إن عندكم من سلطان بهذا ، أتقولون على اللّه ما لا تعلمون ? قل : إن الذين يفترون على اللّه الكذب لا يفلحون . متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ، ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون ) . .
وعقيدة أن للّه - سبحانه - ولداً ، عيقدة ساذجة ، منشؤها قصور في التصور ، يعجز عن إدراك الفارق الهائل بين الطبيعة الإلهية الأزلية الباقية ، والطبيعة البشرية المخلوقة الفانية ؛ والقصور كذلك عن إدراك حكمة السنة التي جرت بتوالد أبناء الفناء ، وهو التكملة الطبيعية لما فيهم من نقص وقصور لا يكونان للّه .
فالبشر يموتون ، والحياة باقية إلى أجل معلوم ، فإلى أن ينقضي هذا الأجل فحكمة الخالق تقتضي امتداد البشر ، والولد وسيلة لهذا الامتداد .
والبشر يهرمون ويشيخون فيضعفون . والولد تعويض عن القوة الشائخة بقوة فتية ، تؤدي دورها في عمارة الأرض - كما شاء اللّه - وتعين الضعفاء والشيوخ على بقية الحياة .
والبشر يكافحون فيما يحيط بهم ، ويكافحون أعداءهم من الحيوان والناس . فهم في حاجة إلى التساند ،
والولد أقرب من يكون إلى العون في هذه الأحوال .
والبشر يستكثرون من المال الذي يجلبونه لأنفسهم بالجهد الذي يبذلونه ، والولد يعين على الجهد الذي يجلب المال . . .
وهكذا إلى سائر ما اقتضته حكمة الخالق لعمارة هذه الأرض ، حتى ينقضي الأجل ، ويقضي اللّه أمراً كان مفعولاً .
وليس شيء من ذلك كله متعلقاً بالذات الإلهية ، فلا الحاجة إلى الامتداد ، ولا الحاجة إلى العون عند الشيخوخة ، ولا الحاجة إلى النصير ، ولا الحاجة إلى المال . ولا الحاجة إلى شيء ما مما يخطر أو لا يخطر على البال متعلقة بذات اللّه تعالى . .
ومن ثم تنتفي حكمة الولد ، لأن الطبيعة الإلهية لا يتعلق بها غرض خارج عن ذاتها ، يتحقق بالولد . وما قضت حكمة اللّه أن يتوالد البشر إلا لأن طبيعتهم قاصرة تحتاج إلى هذا النوع من التكملة . فهي تقتضي الولد اقتضاء . وليست المسألة جزافاً .
ومن ثم كان الرد على فرية : ( قالوا اتخذ اللّه ولداً ) . . هو :
( سبحانه ! هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض ) .
( سبحانه ! . . ) تنزيها لذاته العلية عن مستوى هذا الظن أو الفهم أو التصور . ( هو الغنى ) . بكل معاني الغنى ، عن الحاجات التي أسلفنا وعن سواها مما يخطر ومما لا يخطر على البال . مما يقتضي وجود الولد . والمقتضيات هي التي تسمح بوجود المقتضيات ، فلا يوجد شيء عبثاً بلا حاجة ولا حكمة ولا غاية . ( له ما في السماوات وما في الأرض ) . فكل شيء ملكه . ولا حاجة به - سبحانه - لأن يملك شيئاً بمساعدة الولد . فالولد إذن عبث . تعالى اللّه سبحانه عن العبث
ولا يدخل القرآن الكريم في جدل نظري حول الطبيعة الإلهية والطبيعة الناسوتية ، مما جد عند المتكلمين ، وفي الفلسفات الأخرى . لأنه يلمس الموضوعات في واقعها القريب إلى الفطرة . ويتعامل مع الموضوع ذاته لا مع فروض جدلية قد تترك الموضوع الحاضر نهائياً وتصبح غرضاً في ذاتها !
فيكتفي هنا بهذه اللمسة التي تمس واقعهم ، وحاجتهم إلى الولد ، وتصورهم لهذه الحاجة ، وانتفاء وجودها بالقياس إلى اللّه الغني الذي يملك ما في السماوات وما في الأرض ، ليبلغ من نفوسهم موضع الاقتناع أو موضع الإفحام ، بلا جدل نظري يضعف أثر اللمسة النفسية التي تستجيب لها الفطرة في يسر وهوادة .
ثم يجبههم بالواقع ، وهو أنهم لا يملكون برهاناً على ما يدعون . ويسمي البرهان سلطاناً ، لأن البرهان قوة ، وصاحب البرهان قوي ذو سلطان :
( إن عندكم من سلطان بهذا ) . .
ما عندكم من حجة ولا برهان على ما تقولون .
أتقولون على اللّه ما لا تعلمون ? . .
وقول الإنسان ما لا يعلم منقصة لا تليق . فكيف إذا كان هذا القول بلا علم على اللّه - سبحانه - ! إنه جريمة إذن أكبر من كل جريمة . فهو أولاً ينافي ما يستحقه اللّه من عباده من تنزيه وتعظيم ، لأنه وصف له بمقتضيات الحدوث والعجز والنقص والقصور . تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً . ولأنه ضلال في تصور العلاقة بين الخالق والمخلوق ، ينشأ عنه ضلال في تصور كل علاقات الحياة والناس والمعاملات . فكلها فرع من تصور هذه العلاقة . وكل ما ابتدعه الكهنة لأنفسهم في الوثنيات من سلطان ؛ وكل ما ابتدعته الكنيسة لها من سلطان ، إنما نشأ عن تصور العلاقة بين اللّه تعالى وبناته الملائكة !
أو بين اللّه تعالى وعيسى بن مريم من صلة الأبوة والنبوة ، وحكاية الخطيئة ، ومنها نشأت مسألة الاعتراف ، ومسألة قيام كنيسة المسيح بتوصيل الناس بأبي المسيح [ بزعمهم ] . . إلى نهاية السلسلة التي متى بدأت الحلقة الأولى فيها بفساد تصور العلاقة بين الخالق والمخلوق فسدت الحلقات التالية كلها في كل ضروب الحياة .
فليست المسألة مجرد فساد في التصور الاعتقادي ، ولكنه مسألة الحياة برمتها . وكل ما وقع بين الكنيسة وبين العلم والعقل من عداء ، انتهى إلى تخلص المجتمع من سلطان الكنيسة بتخلصه من سلطان الدين نفسه ! إنما نشأ من هذه الحلقة . حلقة فساد تصور العلاقة بين اللّه وخلقه . وجر في ذيوله شراً كثيراً تعاني البشرية كلها ويلاته في التيارات المادية وما وراءها من بلايا وأرزاء .
ومن ثم كان حرص العقيدة الإسلامية على تجلية هذه العلاقة تجلية كاملة لا لبس فيها ولا إبهام . . اللّه خالق أزلي باق ، لا يحتاج إلى الولد . والعلاقة بينه وبين الناس جميعاً هي علاقة الخالق بخلقه دون استثناء . وللكون والحياة والأحياء سنن ماضية لا تتخلف ولا تحابي . فمن اتبع هذه السنن أفلح وفاز ، ومن حاد عنها ضل وخسر . . الناس في هذا كلهم سواء . وكلهم مرجعهم إلى اللّه . وليس هنالك من شفعاء ولا شركاء . وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً . ولكل نفس ما عملت . ولا يظلم ربك أحداً .
عقيدة بسيطة واضحة ، لا تدع مجالاً لتأويل فاسد ، ولا تنحني أو تنحرف بالقلب في دروب ومنحنيات ، ولا في سحب وضباب !
ومن ثم يقف الجميع سواء أمام اللّه وكلهم مخاطب بالشريعة ، وكلهم مكلف بها ، وكلهم حفيظ عليها . وبذلك تستقيم العلاقات بين الناس بعضهم وبعض ، نتيجة استقامة العلاقة بينهم وبين اللّه
{ قالوا اتخذ الله ولدا } أي تبناه . { سبحانه } تنزيه له عن التبني فإنه لا يصح إلا ممن يتصور له الولد وتعجب من كلمتهم الحمقاء { هو الغني } علة لتنزيهه فإن اتخاذ الولد مسبب عن الحاجة . { له ما في السماوات وما في الأرض } تقرير لغناه . { إن عندكم من سلطان بهذا } نفي لمعارض ما أقامه من البرهان مبالغة في تجهيلهم وتحقيقا لبطلان قولهم ، و{ بهذا } متعلق ب { سلطان } أو نعت له أو ب { عندكم } كأنه قيل : إن عندكم في هذا من سلطان . { أتقولون على الله ما لا تعلمون } توبيخ وتقريع على اختلافهم وجهلهم . وفيه دليل على أن كل قول لا دليل عليه فهو جهالة وأن العقائد لابد لها من قاطع وأن التقليد فيها غير سائغ .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قالوا اتخذ الله ولدا} فنزه نفسه عن ذلك، فقال: {سبحانه هو الغني} أن يتخذ ولدا.
{له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا} يقول: فعندكم حجة بما تزعمون أنه له ولد، {أتقولون على الله ما لا تعلمون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قال هؤلاء المشركون بالله من قومك يا محمد:"اتخذ الله ولدا"، وذلك قولهم: الملائكة بنات الله. يقول الله منزّها نفسه عما قالوا وافتروا عليه من ذلك: سبحان الله، تنزيها لله عما قالوا وادّعوا على ربهم. "هُوَ الغَنِيّ "يقول: الله غنيّ عن خلقه جميعا، فلا حاجة به إلى ولد، لأن الولد إنما يطلبه من يطلبه ليكون عونا له في حياته وذكرا له بعد وفاته، والله عن كلّ ذلك غنيّ، فلا حاجة به إلى معين يعينه على تدبيره، ولا يبيد فيكون به حاجة إلى خلف بعده. "لَهُ ما فِي السّمَوَاتِ وَما فِي الأرْضِ "يقول تعالى ذكره: لله ما في السماوات وما في الأرض ملكا والملائكة عباده وملكه، فكيف يكون عبد الرجل وملكه له ولدا؟ يقول: أفلا تعقلون أيها القوم خطأ ما تقولون؟ "إنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهَذَا" يقول: ما عندكم أيها القوم بما تقولون وتدّعون من أن الملائكة بنات الله من حجة تحتجون بها، وهي السلطان. "أتَقُولُون على الله" قولاً لا تعلمون حقيقته وصحته، وتضيفون إليه ما لا يجوز إضافته إليه جهلاً منكم بغير حجة ولا برهان.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... (هو الغني له ما في السماوات والأرض) تأويله، والله أعلم، أن في الشاهد من اتخذ ولدا إنما يتخذ لأحد وجوه ثلاثة: إما لحاجة تمسه، أو لشهوة تغلبه، أو لما يستنصر به على آخر مما يخافه. فإذا كان له ملك السموات والأرض وملك ما فيهما كلهم عبيده وإيماؤه فلا حاجة تقع له إلى الولد؛ إذ هو الغني وله ملك السماوات والأرض.ومن هذا وصفه فلا يحتاج إلى الولد...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الوَلَدُ بعض الوالد، والصمدية تَجِلُّ عن البعضية، فَنَزَّهَ الله نَفْسَه عن ذلك بقوله {سبحانه}.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{سبحانه}: تنزيه له عن اتخاذ الولد، وتعجب من كلمتهم الحمقاء.
{هُوَ الغني}: علة لنفي الولد لأنّ ما يطلب به الولد من يلد، وما يطلبه له السبب في كله الحاجة، فمن الحاجة منتفية عنه كان الولد عنه منتفياً. {لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} فهو مستغن بملكه لهم عن اتخاذ أحد منهم ولدا. {إِنْ عِندَكُمْ مّن سُلْطَانٍ بهذا}: ما عندكم من حجة بهذا القول... {أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} لما نفى عنهم البرهان جعلهم غير عالمين، فدلّ على أنّ كل قول لا برهان عليه لقائله فذاك جهل وليس بعلم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما لم يكن شبهة على ادعاء الولد لله سبحانه ولا لهم اطلاع عليه بوجه، ساق قوله: {قالوا اتخذ} أي تكلف الأخذ بالتسبب على ما نعهد {الله} أي المسمى بهذا الاسم الذي يقتضي تسميته به أن يكون له الكمال كله، فلا يكون محتاجاً إلى شيء بوجه {ولداً} مساق البيان لقوله {إن يتبعون إلاّ الظن} وهذا صالح لأن يكون تعجيباً ممن ادعى في الملائكة أو عزير أو المسيح وغيرهم.
ولما عجب منهم في ذلك لمنافاته بما يدل عليه من النقص لما ثبت لله تعالى من الكمال كما مرّ، نزه نفسه الشريفة عنه فقال: {سبحانه} أي تنزه عن كل شائبة نقص التنزه كله؛ ثم علل تنزهه عنه وبينه بقوله: {هو} أي وحده {الغني} أي عن الولد وغيره لأنه فرد منزه عن الإبعاض والأجزاء والمجانسة؛ ثم بين غناه بقوله: {له ما في السماوات} ولما كان سياق الاستدلال يقتضي التأكيد، أعاد "ما "فقال: {وما في الأرض} من صامت وناطق، فهو غني بملك ذلك عن أن يكون شيء منه ولداً له لأن الولد لا يملك، وعدم ملكه نقص مناف للغنى، ولعله عبر ب "ما" لأن الغني محط نظره الصامت مع شمولها للناطق.
ولما بين بالبرهان القاطع والدليل الباهر الساطع امتناع أن يكون له ولد، بكتهم بنفي أن يكون لهم بذلك نوع حجة فقال: {إن} أي ما {عندكم} وأغرق في النفي فقال: {من سلطان} أي حجة {بهذا} أي الاتخاذ، وسميت الحجة سلطاناً لاعتلاء يد المتمسك بها؛ ثم زادهم بها تبكيتاً بالإنكار عليهم بقوله: {أتقولون} أي على سبيل التكرير {على الله} أي الملك الأعظم على سبيل الاستعلاء {ما لا تعلمون} لأن ما لا برهان عليه في الأصول فهو جهل، فكيف بما قام الدليل على خلافه؛ والسلطان: البرهان القاهر لأنه يتسلط به على صحة الأمر ويقهر به الخصم، وأصله القاهر للرعية بعقد الولاية.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذه الآيات حكاية لنوع آخر من الكفر بالله تعالى قريب من كفر اتخاذ الشركاء له، وهو زعمهم أنه اتخذ ولدا، وقد اشترك فيه عباد الأصنام والأوثان وبعض أهل الكتاب، فحكاه عنهم مفصولا؛ لأنه نوع مستقل وتعقبه بالإبطال.
{قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ ولَداً} فزعم المشركون أن الملائكة بنات الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقال بعض اليهود، عزير ابن الله، وتقدم في سورة التوبة:"ويرى بعض المؤرخين أن عزير هو أوزيروس أحد آلهة قدماء المصريين".
{سُبْحَانَهُ} كلمة التسبيح معناها التنزيه والتقديس، أي تسبيحا له عز وجل عن كل ما لا يليق بربوبيته وألوهيته، وتقال في مقام التعجب، ويصح هنا جمع المعنيين كليهما، وقفى على هذا التنزيه والتعجب بما يدل على بطلان قولهم بأفواههم ما ليس به علم فقال:
{هُو الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوات ومَا فِي الأَرْضِ} أي هو الغني بذاته عن الولد، لأن كل ما في الوجود من العالم العلوي والسفلي ملك وعبيد له لا يحتاج منها إلى شيء، ويحتاج إليه كل شيء، ولا يشبهه أو يجانسه منها شيء، فالإنسان يحتاج إلى الولد لأمور: منها بقاء ذكره به وبذريته، ومنها أنه قوة وعصبة له يعتز به هو وعشيرته، ومنها أن وجوده زينة له في داره يلهو به في صغره، ويفاخر به أقرانه في كبره، ومنها أنه قد يحتاج إليه لقضاء مصالحه وتنمية ثروته، وقد يحتاج إلى رفده وبره عند عجزه أو فقره، والله تعالى لا يحتاج إلى شيء من هذه المنافع؛ لأنه هو الغني عن كل شيء بذاته لذاته أزلا وأبدا.
{إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا} "إن "هنا نافية و "من "مؤكدة لهذا النفي مفيدة لعمومه، والسلطان الحجة والبرهان، والجملة تجهيل لهم ورد عليهم، أي ما عندكم أي نوع من أنواع الدليل والبرهان متعلق بهذا القول الذي تقولونه من غير عقل ولا علم ولا وحي إلهي، تعارضون به هذا البرهان العقلي، وهو تنزيه الله وغناه المطلق عن الولد وغيره، وكونه المالك لكل شيء مما في السماوات والأرض.
{أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} هذا استفهام تبكيت وتوبيخ على أقبح الجهل والكفر، وهو قولهم على الله تعالى ما ليس لهم به علم، ولاسيما بعد مجيء ما ينقضه من العلم والبرهان والوحي الإلهي، قال البيضاوي وغيره: وفيه دليل على أن كل قول لا دليل عليه فهو جهالة، وأن العقائد لا بد لها من قاطع، وأن التقليد فيها غير سائغاه. وقد تقدم حكاية اتخاذ الولد عن الكفار عامة وعن النصارى خاصة في سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام، وسيأتي في سور أخرى مع إبطاله وتفنيده بالدلائل ووجوه الحجة المختلفة الأساليب، أو التقريع والتأنيب، والإنذار والوعيد.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{هُوَ الْغَنِيُّ ْ} أي: الغنى منحصر فيه، وأنواع الغنى مستغرقة فيه، فهو الغني الذي له الغنى التام بكل وجه واعتبار من جميع الوجوه، فإذا كان غنيًا من كل وجه، فلأي شيء يتخذ الولد؟ {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ْ} فإن هذا من أعظم المحرمات.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وختام هذا الدرس جولة مع هذا النوع من الشرك والافتراء تبدأ بالحجة في الدنيا وتنتهي بالعذاب في الآخرة على طريقة القرآن:
(قالوا: اتخذ اللّه ولداً، سبحانه هو الغني، له ما في السماوات وما في الأرض، إن عندكم من سلطان بهذا، أتقولون على اللّه ما لا تعلمون؟ قل: إن الذين يفترون على اللّه الكذب لا يفلحون. متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم، ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون)..
وعقيدة أن للّه -سبحانه- ولداً، عقيدة ساذجة، منشؤها قصور في التصور، يعجز عن إدراك الفارق الهائل بين الطبيعة الإلهية الأزلية الباقية، والطبيعة البشرية المخلوقة الفانية؛ والقصور كذلك عن إدراك حكمة السنة التي جرت بتوالد أبناء الفناء، وهو التكملة الطبيعية لما فيهم من نقص وقصور لا يكونان للّه.
فالبشر يموتون، والحياة باقية إلى أجل معلوم، فإلى أن ينقضي هذا الأجل فحكمة الخالق تقتضي امتداد البشر، والولد وسيلة لهذا الامتداد.
والبشر يهرمون ويشيخون فيضعفون. والولد تعويض عن القوة الشائخة بقوة فتية، تؤدي دورها في عمارة الأرض -كما شاء اللّه- وتعين الضعفاء والشيوخ على بقية الحياة.
والبشر يكافحون فيما يحيط بهم، ويكافحون أعداءهم من الحيوان والناس. فهم في حاجة إلى التساند،
والولد أقرب من يكون إلى العون في هذه الأحوال.
والبشر يستكثرون من المال الذي يجلبونه لأنفسهم بالجهد الذي يبذلونه، والولد يعين على الجهد الذي يجلب المال...
وهكذا إلى سائر ما اقتضته حكمة الخالق لعمارة هذه الأرض، حتى ينقضي الأجل، ويقضي اللّه أمراً كان مفعولاً.
وليس شيء من ذلك كله متعلقاً بالذات الإلهية، فلا الحاجة إلى الامتداد، ولا الحاجة إلى العون عند الشيخوخة، ولا الحاجة إلى النصير، ولا الحاجة إلى المال. ولا الحاجة إلى شيء ما مما يخطر أو لا يخطر على البال متعلقة بذات اللّه تعالى..
ومن ثم تنتفي حكمة الولد، لأن الطبيعة الإلهية لا يتعلق بها غرض خارج عن ذاتها، يتحقق بالولد. وما قضت حكمة اللّه أن يتوالد البشر إلا لأن طبيعتهم قاصرة تحتاج إلى هذا النوع من التكملة. فهي تقتضي الولد اقتضاء. وليست المسألة جزافاً.
ومن ثم كان الرد على فرية: (قالوا اتخذ اللّه ولداً).. هو:
(سبحانه! هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض).
(سبحانه!..) تنزيها لذاته العلية عن مستوى هذا الظن أو الفهم أو التصور. (هو الغنى). بكل معاني الغنى، عن الحاجات التي أسلفنا وعن سواها مما يخطر ومما لا يخطر على البال. مما يقتضي وجود الولد. والمقتضيات هي التي تسمح بوجود المقتضيات، فلا يوجد شيء عبثاً بلا حاجة ولا حكمة ولا غاية. (له ما في السماوات وما في الأرض). فكل شيء ملكه. ولا حاجة به -سبحانه- لأن يملك شيئاً بمساعدة الولد. فالولد إذن عبث. تعالى اللّه سبحانه عن العبث
ولا يدخل القرآن الكريم في جدل نظري حول الطبيعة الإلهية والطبيعة الناسوتية، مما جد عند المتكلمين، وفي الفلسفات الأخرى. لأنه يلمس الموضوعات في واقعها القريب إلى الفطرة. ويتعامل مع الموضوع ذاته لا مع فروض جدلية قد تترك الموضوع الحاضر نهائياً وتصبح غرضاً في ذاتها!
فيكتفي هنا بهذه اللمسة التي تمس واقعهم، وحاجتهم إلى الولد، وتصورهم لهذه الحاجة، وانتفاء وجودها بالقياس إلى اللّه الغني الذي يملك ما في السماوات وما في الأرض، ليبلغ من نفوسهم موضع الاقتناع أو موضع الإفحام، بلا جدل نظري يضعف أثر اللمسة النفسية التي تستجيب لها الفطرة في يسر وهوادة.
ثم يجبههم بالواقع، وهو أنهم لا يملكون برهاناً على ما يدعون. ويسمي البرهان سلطاناً، لأن البرهان قوة، وصاحب البرهان قوي ذو سلطان:
ما عندكم من حجة ولا برهان على ما تقولون.
أتقولون على اللّه ما لا تعلمون؟..
وقول الإنسان ما لا يعلم منقصة لا تليق. فكيف إذا كان هذا القول بلا علم على اللّه -سبحانه -! إنه جريمة إذن أكبر من كل جريمة. فهو أولاً ينافي ما يستحقه اللّه من عباده من تنزيه وتعظيم، لأنه وصف له بمقتضيات الحدوث والعجز والنقص والقصور. تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً. ولأنه ضلال في تصور العلاقة بين الخالق والمخلوق، ينشأ عنه ضلال في تصور كل علاقات الحياة والناس والمعاملات. فكلها فرع من تصور هذه العلاقة. وكل ما ابتدعه الكهنة لأنفسهم في الوثنيات من سلطان؛ وكل ما ابتدعته الكنيسة لها من سلطان، إنما نشأ عن تصور العلاقة بين اللّه تعالى وبناته الملائكة!
أو بين اللّه تعالى وعيسى بن مريم من صلة الأبوة والنبوة، وحكاية الخطيئة، ومنها نشأت مسألة الاعتراف، ومسألة قيام كنيسة المسيح بتوصيل الناس بأبي المسيح [بزعمهم].. إلى نهاية السلسلة التي متى بدأت الحلقة الأولى فيها بفساد تصور العلاقة بين الخالق والمخلوق فسدت الحلقات التالية كلها في كل ضروب الحياة.
فليست المسألة مجرد فساد في التصور الاعتقادي، ولكنه مسألة الحياة برمتها. وكل ما وقع بين الكنيسة وبين العلم والعقل من عداء، انتهى إلى تخلص المجتمع من سلطان الكنيسة بتخلصه من سلطان الدين نفسه! إنما نشأ من هذه الحلقة. حلقة فساد تصور العلاقة بين اللّه وخلقه. وجر في ذيوله شراً كثيراً تعاني البشرية كلها ويلاته في التيارات المادية وما وراءها من بلايا وأرزاء.
ومن ثم كان حرص العقيدة الإسلامية على تجلية هذه العلاقة تجلية كاملة لا لبس فيها ولا إبهام.. اللّه خالق أزلي باق، لا يحتاج إلى الولد. والعلاقة بينه وبين الناس جميعاً هي علاقة الخالق بخلقه دون استثناء. وللكون والحياة والأحياء سنن ماضية لا تتخلف ولا تحابي. فمن اتبع هذه السنن أفلح وفاز، ومن حاد عنها ضل وخسر.. الناس في هذا كلهم سواء. وكلهم مرجعهم إلى اللّه. وليس هنالك من شفعاء ولا شركاء. وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً. ولكل نفس ما عملت. ولا يظلم ربك أحداً.
عقيدة بسيطة واضحة، لا تدع مجالاً لتأويل فاسد، ولا تنحني أو تنحرف بالقلب في دروب ومنحنيات، ولا في سحب وضباب!
ومن ثم يقف الجميع سواء أمام اللّه وكلهم مخاطب بالشريعة، وكلهم مكلف بها، وكلهم حفيظ عليها. وبذلك تستقيم العلاقات بين الناس بعضهم وبعض، نتيجة استقامة العلاقة بينهم وبين اللّه.