قوله تعالى : { ولقد بوأنا بني إسرائيل } أنزلنا بني إسرائيل بعد هلاك فرعون ، { مبوأ صدق } ، منزل صدق ، يعني : مصر . وقيل الأردن وفلسطين ، وهي الأرض المقدسة التي كتب الله ميراثا لإبراهيم وذريته . قال الضحاك : هي مصر والشام ، { ورزقناهم من الطيبات } ، الحلالات ، { فما اختلفوا } يعني اليهود الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في تصديقه وأنه نبي ، { حتى جاءهم العلم } ، يعني : القرآن والبيان بأنه رسول الله صدق ودينه حق . وقيل : حتى جاءهم معلومهم ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنهم كانوا يعلمونه قبل خروجه ، فالعلم بمعنى المعلوم كما يقال للمخلوق : خلق : قال الله تعالى : { هذا خلق الله } [ لقمان-11 ] ، ويقال : هذا الدرهم ضرب الأمير ، أي : مضروبه . { إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } ، من الدين .
{ 93 } { وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ }
أي : أنزلهم الله وأسكنهم في مساكن آل فرعون ، وأورثهم أرضهم وديارهم .
{ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ } من المطاعم والمشارب وغيرهما { فَمَا اخْتَلَفُوا } في الحق { حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ } الموجب لاجتماعهم وائتلافهم ، ولكن بغى بعضهم على بعض ، وصار لكثير منهم أهوية وأغراض تخالف الحق ، فحصل بينهم من الاختلاف شيء كثير .
{ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } بحكمة العدل الناشئ عن علمه التام ، وقدرته الشاملة ، وهذا هو الداء ، الذي يعرض لأهل الدين الصحيح .
وهو : أن الشيطان إذا أعجزوه أن يطيعوه في ترك الدين بالكلية ، سعى في التحريش بينهم ، وإلقاء العداوة والبغضاء ، فحصل من الاختلاف ما هو موجب ذلك ، ثم حصل من تضليل بعضهم لبعض ، وعداوة بعضهم لبعض ، ما هو قرة عين اللعين .
وإلا فإذا كان ربهم واحدًا ، ورسولهم واحدًا ، ودينهم واحدًا ، ومصالحهم العامة متفقة ، فلأي شيء يختلفون اختلافًا يفرق شملهم ، ويشتت أمرهم ، ويحل رابطتهم ونظامهم ، فيفوت من مصالحهم الدينية والدنيوية ما يفوت ، ويموت من دينهم ، بسبب ذلك ما يموت ؟ .
فنسألك اللهم ، لطفًا بعبادك المؤمنين ، يجمع شملهم ويرأب صدعهم ، ويرد قاصيهم على دانيهم ، يا ذا الجلال والإكرام .
ويسدل الستار على المشهد النهائي في المأساة . مأساة البغي والفساد والتحدي والعصيان . . ويعقب السياق بلمحة سريعة عن مآل بني إسرائيل بعدها ، تستغرق ما حدث في أجيال :
( ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ، ورزقناهم من الطيبات ، فما اختلفوا حتى جاءهم العلم . إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ) . .
والمبوأ : مكان الإقامة الأمين . وإضافته إلى الصدق تزيده أماناً وثباتاً واستقراراً كثبات الصدق الذي لا يضطرب ولا يتزعزع اضطراب الكذب وتزعزع الافتراء . ولقد طاب المقام فترة لبني إسرائيل بعد تجارب طويلة ، لا يذكرها السياق هنا لأنها ليست من مقاصده ، وتمتعوا بطيبات من الرزق حلال ، حتى فسقوا عن أمر اللّه فحرمت عليهم . والسياق لا يذكر هنا إلا اختلافهم بعد وفاق . اختلافهم في دينهم ودنياهم ، لا على جهل ولكن بعد أن جاءهم العلم ، وبسبب هذا العلم ، واستخدامه في التأويلات الباطلة .
ولما كان المقام هنا مقام نصرة الإيمان وخذلان الطغيان ، فإن السياق لا يطيل في عرض ما وقع بعد ذلك من بني إسرائيل ، ولا يفصل خلافهم بعد ما جاءهم العلم . ولكن يطوي هذه الصفحة ، ويكلها بما فيها للّه في يوم القيامة :
( إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ) . .
فيبقى للقصة جلالها ، ويظل للمشهد الأخير تأثيره . .
وهكذا ندرك لماذا يساق القصص القرآني ، وكيف يساق في كل موضع من مواضعه . فليس هو مجرد حكايات تروى ، ولكنه لمسات وإيحاءات مقدرة تقديراً .
يخبر تعالى عما أنعم به على بني إسرائيل من النعم الدينية والدنيوية ف { مُبَوَّأَ صِدْقٍ } {[14407]} قيل : هو بلاد مصر والشام ، مما يلي بيت المقدس ونواحيه ، فإن الله تعالى لما أهلك فرعون وجنوده استقرت يد الدولة الموسوية على بلاد مصر بكمالها ، كما قال الله تعالى : { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ } [ الأعراف : 137 ] وقال في الآية الأخرى : { فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } [ الشعراء : 57 - 59 ]{[14408]} ولكن استمروا مع موسى ، عليه السلام ، طالبين إلى بلاد بيت المقدس [ وهي بلاد الخليل عليه السلام فاستمر موسى بمن معه طالبا بيت المقدس ]{[14409]} وكان فيه قوم من العمالقة ، [ فنكل بنو إسرائيل عن قتال العمالقة ]{[14410]} فشردهم الله تعالى في التيه أربعين سنة ، ومات فيه{[14411]} هارون ، ثم ، موسى ، عليهما السلام ، وخرجوا بعدهما مع يوشع بن نون ، ففتح الله عليهم بيت المقدس ، واستقرت أيديهم عليها إلى أن أخذها منهم بختنصر حينا من الدهر ، ثم عادت إليهم ، ثم أخذها ملوك اليونان ، وكانت تحت أحكامهم{[14412]} مدة طويلة ، وبعث الله عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، في تلك المدة ، فاستعانت اليهود - قبحهم{[14413]} الله - على معاداة عيسى ، عليه السلام ، بملوك اليونان ، وكانت تحت أحكامهم ، ووشوا عندهم ، وأوحوا إليهم أن هذا يفسد عليكم الرعايا فبعثوا{[14414]} من يقبض عليه ، فرفعه الله إليه ، وشُبّه لهم بعض الحواريين بمشيئة الله وقدره{[14415]} فأخذوه فصلبوه ، واعتقدوا أنه هو ، { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } [ النساء : 157 ، 158 ] ثم بعد المسيح ، عليه السلام بنحو [ من ]{[14416]} ثلثمائة سنة ، دخل قسطنطين أحد ملوك اليونان - في دين النصرانية ، وكان فيلسوفا قبل ذلك . فدخل في دين النصارى قيل : تقية ، وقيل : حيلة ليفسده ، فوضعت له الأساقفة منهم قوانين وشريعة وبدعًا أحدثوها ، فبنى لهم الكنائس والبيَع الكبار والصغار ، والصوامع والهياكل ، والمعابد ، والقلايات . وانتشر دين النصرانية{[14417]} في ذلك الزمان ، واشتهر على ما فيه من تبديل وتغيير وتحريف ، ووضع وكذب ، ومخالفة لدين المسيح . ولم يبق على دين المسيح على الحقيقة منهم إلا القليل من الرهبان ، فاتخذوا لهم الصوامع في البراري والمهامه والقفار ، واستحوذت يدُ النصارى على مملكة الشام والجزيرة وبلاد الروم ، وبنى هذا الملك المذكور مدينة قسطنطينية ، والقُمَامة ، وبيت لحم ، وكنائس [ بلاد ]{[14418]} بيت المقدس ، ومدن حَوْران كبُصرى وغيرها من البلدان بناءات هائلة محكمة ، وعبدوا الصليب من حينئذ ، وصلوا إلى الشرق ، وصوروا الكنائس ، وأحلوا لحم الخنزير ، وغير ذلك مما أحدثوه من{[14419]} الفروع في دينهم والأصول ، ووضعوا له الأمانة الحقيرة ، التي يسمونها الكبيرة ، وصنفوا له القوانين ،
والغرض أن يدهم لم تزل على هذه البلاد إلى أن انتزعها{[14420]} منهم الصحابة ، رضي الله عنهم ، وكان فتح بيت المقدس على يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، ولله الحمد والمنة .
وقوله : { وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ } أي : الحلال ، من الرزق الطيب النافع المستطاب طبعا وشرعا .
وقوله : { فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ } أي : ما اختلفوا في شيء من المسائل إلا من بعد ما جاءهم العلم ، أي : ولم يكن لهم أن يختلفوا ، وقد بين الله لهم وأزال عنهم اللبس . وقد ورد في
الحديث : أن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة ، وأن النصارى اختلفوا على اثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة ، منها واحدة في الجنة ، وثنتان وسبعون في النار . قيل : من هم{[14421]} يا رسول الله ؟ قال : " ما أنا عليه وأصحابي " .
رواه الحاكم في مستدركه بهذا اللفظ ، وهو في السنن والمسانيد{[14422]} ولهذا قال الله تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ } أي : يفصل بينهم { يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }
{ ولقد بوّأنا } أنزلنا . { بني إسرائيل مبوّأ صدقٍ } منزلا صالحا مرضيا وهو الشأم ومصر . { ورزقناهم من الطيبات } من اللذائذ . { فما اختلفوا حتى جاءهم العلم } فما اختلفوا في أمر دينهم إلا من بعد ما قرأوا التوراة وعلموا أحكامها ، أو في أمر محمد صلى الله عليه وسلم إلا من بعد ما علموا صدقه بنعوته وتظاهر معجزاته . { إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } فيميز المحق من المبطل بالإنجاء والإهلاك .
المعنى لقد اخترنا لبني إسرائيل أحسن اختيار وحللناهم من الأماكن أحسن محل ، و { مبوأ صدق } أي يصدق فيه ظن قاصده وساكنه وأهله ، ويعني بهذه الآية إحلال بلاد الشام وبيت المقدس ، قاله قتادة وابن زيد ، وقيل بلاد مصر والشام ، قاله الضحاك ، والأول أصح بحسب ما حفظ من أنهم لن يعودوا إلى مصر ، على أن القرآن كذلك { وأورثناها بني إسرائيل }{[6227]} يعني ما ترك القبط من جنات وعيون وغير ذلك ، وقد يحتمل أن يكون { أورثناها } [ الشعراء : 59 ] معناه الحالة من النعمة وإن لم يكن في قطر واحد ، وقوله { فما اختلفوا حتى جاءهم العلم } يحتمل معنيين أحدهما فما اختلفوا في نبوة محمد وانتظاره حتى جاءهم وبان علمه وأمره فاختلفوا حينئذ .
قال القاضي أبو محمد : وهذا التخصيص هو الذي وقع في كتب المتأولين ، وهذا التأويل يحتاج إلى سند والتأويل الآخر الذي يحتمله اللفظ أن بني إسرائيل لم يكن لهم اختلاف على موسى في أول حاله فلما جاءهم العلم والأوامر وغرق فرعون اختلفوا .
قال القاضي أبو محمد : فمعنى الآية مذمة ذلك الصدر من بني إسرائيل ، ثم أوجب الله بعد ذلك أنه { يقضي بينهم } ويفصل بعقاب من يعاقب ورحمة من يرحم .
عطف على الجمل الماضية فإن جميع تلك الجمل مقصود منها موعظة الكفار من العرب بأحوال من سبقهم من الأمم في مشابهة كفرهم بكفرهم وبما حل بهم من أنواع العذاب جزاء كفرهم كما قال تعالى : { أكُفاركم خير من أولئكم } [ القمر : 43 ] .
فلما ضرب الله مثل السوء أتْبعَه بمثل الصلاح بحال الذين صدقوا الرسول واتبعوه ، وكيف كانت عاقبتهم الحسنى ليظهر الفرق بين مصيري فريقين جاءهم رسول فآمن به فريق وكفر به فريق ، ليكون ذلك ترغيباً للمشركين في الإيمان ، وبشارة للمؤمنين من أهل مكة .
فالمراد ببني إسرائيل القوم المتحدث عنهم بقوله : { وجاوزنا ببني إسرائيل البحر } [ يونس : 91 ] الآية وترتيب الإخبار يقتضي أن الله بَوأهم مُبَوّأ صدق عقب مجاوزتهم البحر غرَقِ فرعون وجنوده ، فإنهم دخلوا بعد ذلك صحراء التيه وأمنوا على أنفسهم وأقبلوا على تزكية نفوسهم وإصلاح شؤونهم ، ورُزقوا المنّ والسَّلوى ، وأعطوا النصر على الأمم التي تعرضت لهم تحاول منعهم من امتلاك الأرض الطيبة .
فما زالوا يتدرّجون في مدارج الخير والإنعام فذلك مُبَوّأ الصدق .
فمعنى { فما اختلفوا } أولئك ولا مَن خلفهم من أبنائهم وأخلافهم .
والتبوّؤ تقدم آنفاً ، والمُبَوّأ : مكان البَوْء ، أي الرجوع ، والمراد المسكن كما تقدم ، وإضافته إلى ( صدق ) من إضافة الموصوف إلى الصفة ، ويجوز أن يكون المبوّأ مصدراً ميمياً . والصدق هنا بمعنى الخالص في نوعه . وتقدم عند قوله تعالى : { أنّ لهم قَدَمَ صدق عند ربهم } [ يونس : 2 ] . والمراد بمبوأ الصدق ما فتح الله عليهم من بلاد فلسطين وما فيها من خصب وثراء قال تعالى : { وأورثنا القوم الذين كانوا يُستَضعَفون مشارقَ الأرض ومغاربَها التي باركنا فيها وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا } [ الأعراف : 137 ] .
وتفريع قوله : { فما اختلفوا } على { بوأنا } وما عطف عليه تفريعُ ثناء عليهم بأنهم شكروا تلك النعمة ولم يكفروها كما كفرها المشركون الذين بوَّأهم الله حرماً آمناً تجبى إليه ثمرات كل شيء ، فجعلوا لله شركاء ، ثم كفروا بالرسول المرسل إليهم . فوقع في الكلام إيجاز حذف . وتقدير معناه : فشكروا النعمة واتبعوا وصايا الأنبياء وما خالفوا ذلك إلا من بعد ما جاءهم العلم .
والاختلاف افتعال أريد به شدة التخالف ولا يعرف لمادة هذا المعنى فعل مجرد . وهي مشتقة من الاسم الجامد وهو الخَلْف لمعنى الوراء فتعين أن زيادة التاء للمبالغة مثل ( اكتسب ) مبالغة في ( كسب ) ، فيحمل على خلاف تشديد وهو مضادة ما جاء به الدين وما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو المناسب للسياق فإن الكلام ثناء مردف بغاية تؤذن أنّ ما بعد الغاية نهاية للثناء وإثبات للوم إذ قد نفى عنهم الاختلاف إلى غاية تؤذن بحصول الاختلاف منهم عند تلك الغاية فالذين لم يختلفوا هم الذين بوّأهم الله مُبوّأ صدق .
وقد جاءوا بعدهم إلى أن جاء الذين اختلفوا على الأنبياء . وهؤلاء ما صدق ضمير الرفع في قوله : { جاءهم العلم } [ آل عمران : 19 ] .
وما جاءهم من العلم يجوز أن يكون ما جاءهم به الأنبياء من شرع الله فلم يعملوا بما جاؤوهم به ، وأعظم ذلك تكذيبهم بمحمد عليه الصلاة والسلام .
فعن ابن عباس : هم اليهود الذين كانوا في زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم كانوا قبل مبعثه مقرين بنبيء يأتي ، فلما جاءهم العلم ، وهو القرآن اختلفوا في تصديق محمد عليه الصلاة والسلام ، قال ابن عباس : هم قريظة والنضير وبنو قينقاع .
ويجوز أن يكون العلم هو القرآن ، وعلى هذا الوجه يكون معنى الآية كمعنى قوله : { إنّ الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم } [ آل عمران : 19 ] ، وقوله : { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة } [ البينة : 4 ] فإن البينة هي محمد صلى الله عليه وسلم لأن قبل هذا قوله : { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلوا صحفاً مطهّرة } [ البينة : 1 ، 2 ] الآية . وقال تعالى : { فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به } [ البقرة : 89 ] .
وهذا المحمل هو المناسب لحرف ( حتى ) في قوله تعالى : { فما اختلفوا حتى جاءهم العلم } .
وتعقيبُ { فما اختلفوا } بالغاية يؤذن بأنّ ما بعد الغاية منتهى حالة الشكر ، أي فبقوا في ذلك المُبَوّأ ، وفي تلك النعمة ، حتى اختلفوا فسلبت نعمتهم فإن الله سلبهم أوطانهم .
وجملة : { إن ربّك يقضي بينهم يوم القيامة } تذييل وتوعد ، والمقصود منه : أن أولئك قوم مضَوا بما عملوا وأن أمرهم إلى ربهم كقوله : { تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم } [ البقرة : 134 ] ، وفيه إيماء إلى أن على الحاضرين اليوم أن يفكروا في وسائل الخلاص من الضلال والوقوع في المؤاخذة يوم القيامة .
و ( بينَ ) ظرفُ مكان للقضاء المأخوذ من فعل ( يَقضي ) ففعل القضاء كأنه متخلّل بينهم لأنه متعلق بتبيين المحق والمبطل .
وضمير { بينهم } عائد إلى ما يفهم من قوله : { فما اختلفوا } من وُجود مخالف ( بكسر اللام ) ومخالَف ( بفتحها ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{بني إسرائيل مبوأ صدق}، منزل صدق، وهو بيت المقدس،
{ورزقناهم من الطيبات} يعني المطر والنبت،
{فما اختلفوا} يعني أهل التوراة والإنجيل في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم،
{حتى جاءهم العلم}، حتى بعثه الله عز وجل، فلما بعث كفروا به وحسدوه،
{إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولقد أنزلنا بني إسرائيل منازل صدق، قيل: عنى بذلك الشأم وبيت المقدس...
وقوله:"وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطّيّباتِ" يقول: ورزقنا بني إسرائيل من حلال الرزق وهو الطيب.
وقوله: "فَمَا اخْتَلَفُوا حتى جاءَهُمُ العِلْمُ "يقول جلّ ثناؤه: فما اختلف هؤلاء الذين فعلنا بهم هذا الفعل من بني إسرائيل، حتى جاءهم ما كانوا به عالمين، وذلك أنهم كانوا قبل أن يبعث محمد النبيّ صلى الله عليه وسلم مجمعين على نبوّة محمد والإقرار به وبمبعثه غير مختلفين فيه بالنعت الذي كانوا يجدونه مكتوبا عندهم، فلما جاءهم ما عرفوا كفر به بعضهم وآمن به بعضهم، والمؤمنون به منهم كانوا عددا قليلاً، فذلك قوله: فما اختلفوا حتى جاءهم المعلوم الذي كانوا يعلمونه نبيّا لله، فوضع العلم مكان المعلوم.
وكان بعضهم يتأوّل العلم ههنا كتاب الله ووحيه... قال ابن زيد، في قوله: "فَمَا اخْتَلَفُوا حتى جاءَهُمُ العِلُمُ بَغْيا بَيْنَهُمْ" قال: العلم: كتاب الله الذي أنزله وأمره الذي أمرهم به، وهل اختلفوا حتى جاءهم العلم بغيا بينهم أهل هذه الأهواء، هل اقتتلوا إلا على البغي؟ قال: والبغي وجهان: وجه النفاسة في الدنيا ومن اقتتل عليها من أهلها، وبغي في العلم؛ يرى هذا جاهلاً مخطئا ويرى نفسه مصيبا عالما، فيبغي بإصابته وعلمه على هذا المخطئ.
وقوله: "إنّ رَبّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ" يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن ربك يا محمد يقضي بين المختلفين من بني إسرائيل فيك يوم القيامة فيما كانوا فيه من أمري في الدنيا يختلفون، بأن يدخل المكذّبين بك منهم النار والمؤمنين بك منهم الجنة. فذلك قضاؤه يومئذ فيما كانوا يختلفون من أمر محمد صلى الله عليه وسلم.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
ويحتمل تأويلاً ثالثاً: أنه وعدهم إياه فكان وَعْدُه وعْد صدق.
{وَرَزَقْنَاهُم منَ الطَّيِّبَاتِ} يعني وأحللنا لهم من الخيرات الطيبة.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أذْلَلْنَا لهم الأيام، وأكثرنا لديهم الإنعامَ، وأكرمنا لهم المقامَ، وأتَحْنَا لهم فنونَ الحسناتِ، وأدَمْنَا لهم جميع الخيراتِ... فلمَّا قابلوا النعمة بالكفران، وأصَرُّوا على البَغْيِ والعدوان، أذقناهم سوءَ العذاب، وسَدَدْنا عليهم أبوابَ ما فتحنا لهم من التكريم والإيجاب، وذلك جزاءُ مَنْ حَادَ عن طريق الوفاق، وجَنَحَ إلى جانب الشَّقِاق.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{مُبَوَّأَ صِدْقٍ} منزلاً صالحاً مرضياً وهو مصر والشام {فَمَا اختلفوا} في دينهم وما تشعبوا فيه شعباً إلاّ من بعد ما قرأوا التوراة وكسبوا العلم بدين الحق ولزمهم الثبات عليه واتحاد الكلمة، وعلموا أن الاختلاف فيه تفرّق عنه. وقيل: هو العلم بمحمد صلى الله عليه وسلم واختلاف بني إسرائيل، وهم أهل الكتاب، اختلافهم في صفته ونعته، وأنه هو أم ليس به، بعد ما جاءهم العلم والبيان أنه هو لم يرتابوا فيه. كما قال الله تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ} [البقرة: 146].
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
المعنى لقد اخترنا لبني إسرائيل أحسن اختيار وحللناهم من الأماكن أحسن محل، و {مبوأ صدق} أي يصدق فيه ظن قاصده وساكنه وأهله، ويعني بهذه الآية إحلال بلاد الشام وبيت المقدس، قاله قتادة وابن زيد، وقيل بلاد مصر والشام، قاله الضحاك، والأول أصح بحسب ما حفظ من أنهم لن يعودوا إلى مصر، على أن القرآن كذلك {وأورثناها بني إسرائيل} يعني ما ترك القبط من جنات وعيون وغير ذلك، وقد يحتمل أن يكون {أورثناها} [الشعراء: 59] معناه الحالة من النعمة وإن لم يكن في قطر واحد، وقوله {فما اختلفوا حتى جاءهم العلم} يحتمل معنيين أحدهما فما اختلفوا في نبوة محمد وانتظاره حتى جاءهم وبان علمه وأمره فاختلفوا حينئذ.
قال القاضي أبو محمد: وهذا التخصيص هو الذي وقع في كتب المتأولين، وهذا التأويل يحتاج إلى سند والتأويل الآخر الذي يحتمله اللفظ أن بني إسرائيل لم يكن لهم اختلاف على موسى في أول حاله فلما جاءهم العلم والأوامر وغرق فرعون اختلفوا.
قال القاضي أبو محمد: فمعنى الآية مذمة ذلك الصدر من بني إسرائيل، ثم أوجب الله بعد ذلك أنه {يقضي بينهم} ويفصل بعقاب من يعاقب ورحمة من يرحم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
... وما اختلفوا فصاروا فرقاً في الاعتقادات وأحزاباً في الديانات حتى جاءهم العلم الموضح من الله، فكان المقتضي لاجتماعهم على الله مفرقاً لهم على سبيل الشيطان لخبث سرائرهم وسوء ضمائرهم وقوفاً مع الشاهد الزائل وجموداً مع المحسوس الفاني ونسياناً للغائب الثابت والمعلوم المتيقن...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذه الآية خاتمة هذه القصة، ومنتهى العبرة فيها لمكذبي محمد صلى الله عليه وسلم والجاحدين من قومه المغرورين بقوتهم وكثرتهم وثروتهم في موسى، والجاحدين لآياته من فرعون وقومه، وقد كانوا أكثر منهم عددا، وأشد قوة، وأعظم زينة، وأوفر ثروة، وسنة الله تعالى في موسى ومن قبله واحدة، وقصته كقصة نوح في العاقبة، وأما نصر الله لمحمد نبي الرحمة وإنجاز وعده له، قد جرى على وجه أتم وأكمل في غايته، وإن لم يكن غريبا في صورته، وهو أن الله تعالى أهلك أكثر زعماء أعدائه المشركين، وأخضع له الآخرين، وجعل العاقبة لأتباعه المؤمنين، وأعطاهم أعظم ملك في العالمين، ومنه ما كان أعطى موسى من قبل وهو فلسطين. قال:
{ولَقَدْ بَوأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوأَ صِدْقٍ} قلنا آنفا: إن المبوأ مكان الإقامة الأمين، وأضيف إلى الصدق لدلالته على صدق وعد الله تعالى لهم به، وهو منزلهم من بلاد الشام الجنوبية المعروفة بفلسطين.
{ورَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} فيه، وهي التي أشير إليها في وصف أرضها من كتبهم بأنها تفيض لبنا وعسلا، وما فيها من الغلات والثمرات والأنعام، وكذا صيد البر والبحر، وقد بينا من قبل ما كان من وعد الله لهم بهذه الأرض المباركة على لسان إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ومن أيلولة هذه الأرض من بعدهم لذرية إبراهيم من العرب بعد حرمان اليهود منه، تصديقا لوعيد أنبيائهم لهم على كفرهم بنعم الله تعالى أولا، ثم بكفرهم بعيسى، ثم بمحمد رسول الله النبي الأمي الذي وعدهم به على لسانه ولسان من قبله كما تقدم تفصيله في تفسير سورة الأعراف، وأشير إليه هنا بقوله: {فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ} على قول بعض المفسرين: إن المراد بالعلم هنا محمد صلى الله عليه وسلم أو رسالته أو القرآن الذي هو أكمل وأتم ما أنزل الله من علم الدين، وقوله تعالى في سياق الرد على أهل الكتاب {لكن الله يعلم بما أنزل إليك أنزله بعمله} [النساء: 166] وقوله: {فاعلموا أنما أنزل بعلم الله} [هود: 14] وقوله: {بكتاب فصلناه على علم} [الأعراف: 52] فقد كانوا متفقين على بشارة أنبيائهم به قبل بعثته، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به.
وقال آخرون -وهو الأظهر-: إن المراد هنا علم الدين مطلقا، وقد اختلفوا فيه كغيرهم ممن أوتوا الكتب من وجوه فصلناها في تفسير الآية العامة في الاختلاف وهي (2: 213)، وفي الآية 19 من هذه السورة وما هي ببعيد.
{إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} إذ جعلوا الدواء عين الداء في أمر الدين بعد إذ أنزل عليهم الكتاب ليحكم بينهم فاختلفوا في الكتاب بغيا بينهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولما كان المقام هنا مقام نصرة الإيمان وخذلان الطغيان، فإن السياق لا يطيل في عرض ما وقع بعد ذلك من بني إسرائيل، ولا يفصل خلافهم بعد ما جاءهم العلم. ولكن يطوي هذه الصفحة، ويكلها بما فيها للّه في يوم القيامة: (إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون).. فيبقى للقصة جلالها، ويظل للمشهد الأخير تأثيره.. وهكذا ندرك لماذا يساق القصص القرآني، وكيف يساق في كل موضع من مواضعه. فليس هو مجرد حكايات تروى، ولكنه لمسات وإيحاءات مقدرة تقديراً.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وجملة: {إن ربّك يقضي بينهم يوم القيامة} تذييل وتوعد، والمقصود منه: أن أولئك قوم مضَوا بما عملوا وأن أمرهم إلى ربهم كقوله: {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم} [البقرة: 134]، وفيه إيماء إلى أن على الحاضرين اليوم أن يفكروا في وسائل الخلاص من الضلال والوقوع في المؤاخذة يوم القيامة.