قوله تعالى : { لا فيها غول } قال الشعبي : لا تغتال عقولهم فتذهب بها . قال الكلبي : إثم . وقال قتادة : وجع البطن . وقال الحسن : صداع . وقال أهل المعاني : ( ( الغول ) ) فساد يلحق في خفاء ، يقال : اغتاله اغتيالاً إذا أفسد عليه أمره في خفية ، وخمرة الدنيا يحصل منها أنواع من الفساد ، منها السكر وذهاب العقل ، ووجع البطن ، والصداع ، والقيء ، والبول ، ولا يوجد شيء من ذلك في خمر الجنة . { ولا هم عنها ينزفون } قرأ حمزة و الكسائي : ( ( ينزفون ) ) بكسر الزاي ، وافقهما عاصم في الواقعة ، وقرأ الآخرون بفتح الزاي فيهما ، فمن فتح الزاي فمعناه : لا يغلبهم على عقولهم ولا يسكرون ، يقال : نزف الرجل فهو منزوف ونزيف ، إذا سكر ، ومن كسر الزاي فمعناه : لا ينفد شرابهم ، يقال : أنزف الرجل فهو منزف ، إذا فنيت خمره .
وعلى ذكر عباد الله المخلصين - الذين استثناهم من تذوق العذاب الأليم - يعرض صفحة هؤلاء العباد المخلصين في يوم الدين . ويعود العرض متبعاً نسق الإخبار المصور للنعيم الذي يتقلبون في أعطافه - في مقابل ذلك العذاب الأليم للمكذبين - :
( أولئك لهم رزق معلوم . فواكه وهم مكرمون . في جنات النعيم . على سرر متقابلين . يطاف عليهم بكأس من معين . بيضاء لذة للشاربين . لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون . وعندهم قاصرات الطرف عين . كأنهن بيض مكنون . . . ) .
وهو نعيم مضاعف يجمع كل مظاهر النعيم . نعيم تستمتع به النفس ويستمتع به الحس . وتجد فيه كل نفس ما تشتهيه من ألوان النعيم .
فهم - أولاً - عباد الله المخلصون . وفي هذه الإشارة أعلى مراتب التكريم . وهم - ثانياً -( مكرمون )في الملأ الأعلى . وياله من تكريم ! ثم إن لهم( فواكه )وهم على ( سرر متقابلين ) . وهم يخدمون فلا يتكلفون شيئاً من الجهد في دار الراحة والرضوان والنعيم : ( يطاف عليهم بكأس من معين . بيضاء لذة للشاربين . لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون ) . . وتلك أجمل أوصاف الشراب ، التي تحقق لذة الشراب ، وتنفي عقابيله . فلا خمار يصدع الرؤوس ، ولا منع ولا انقطاع يذهب بلذة المتاع !
وقوله : { لا فِيهَا غَوْلٌ } يعني : لا تؤثر فيهم غولا - وهو وجع البطن . قاله مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد - كما تفعله خمر الدنيا من القُولَنْج ونحوه ، لكثرة مائيتها .
وقيل : المراد بالغول هاهنا : صداع الرأس . وروي هكذا عن ابن عباس .
وقال قتادة : هو صداع الرأس ، ووجع البطن . وعنه ، وعن السدي : لا تغتال عقولهم ، كما قال الشاعر :
فَمَا زَالَتِ الكأسُ تَغْتَالُنا *** وتَذْهبُ بالأوَّل الأوَّلِ{[24958]} {[24959]}
وقال سعيد بن جبير : لا مكروه فيها ولا أذى . والصحيح قول مجاهد : إنه وجع البطن .
وقوله : { وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزفُونَ } قال مجاهد : لا تذهب عقولهم ، وكذا قال ابن عباس ، ومحمد بن كعب ، والحسن ، وعطاء بن أبي مسلم الخراساني ، والسدي ، وغيرهم .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : في الخمر أربع خصال : السكر ، والصداع ، والقيء ، والبول . فذكر الله خمر الجنة فنزهها عن هذه الخصال ، كما ذكر في سورة " الصافات " {[24960]} .
وقوله : لا فِيها غَوْلٌ يقول : لا في هذه الخمر غَوْل ، وهو أن تغتال عقولهم يقول : لا تذهب هذه الخمر بعقول شاربيها ، كما تذهب بها خمور أهل الدنيا إذا شربوها فأكثروا منها ، كما قال الشاعر :
وَما زَالَتِ الكأْسُ تَغْتالُنَا *** وَتَذْهَبُ بالأَوّلِ الأَوّلِ
والعرب تقول : ليس فيها غيلة وغائلة وغَوْل بمعنى واحد ورفع غَوْل ولم ينصب بلا لدخول حرف الصفة بينها وبين الغول ، وكذلك تفعل العرب في التبرئة إذا حالت بين لا والاسم بحرف من حروف الصفات رفعوا الاسم ولم ينصبوه ، وقد يحتمل قوله : لا فِيها غَوْلٌ أن يكون معنيا به : ليس فيها ما يؤذيهم من مكروه ، وذلك أن العرب تقول للرجل يصاب بأمر مكروه ، أو يُنال بداهية عظيمة : غالَ فلانا غُولٌ . وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : ليس فيها صُداع . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : لا فِيها غَوْلٌ يقول : ليس فيها صُداع .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ليس فيها أذًى فتشكّي منه بطونهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس لا فِيها غَوْلٌ قال : هي الخمر ليس فيها وجع بطن .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : لا فِيها غَوْلٌ قال : وجع بطن .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : لا فِيها غَوْلٌ قال : الغول ما يوجع البطون ، وشارب الخمر ههنا يشتكي بطنه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة لا فِيها غَوْلٌ يقول : ليس فيها وجع بطن ، ولا صُداع رأس .
وقال آخرون : معنى ذلك : أنها لا تغول عقولهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ لا فِيها غَوْلٌ قال : لا تغتال عقولهم .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ليس فيها أذًى ولا مكروه . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، عن إسرائيل ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جُبَير ، في قوله : لا فِيها غَوْلٌ قال : أذًى ولا مكروه .
حدثنا محمد بن سنان القزّاز ، قال : حدثنا عبد الله بن بزيعة ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن سالم ، عن سعيد بن جُبَير ، في قوله : لا فِيها غَوْلٌ قال : ليس فيها أذًى ولا مكروه .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ليس فيها إثم .
ولكلّ هذه الأقوال التي ذكرناها وجه ، وذلك أن الغَوْل في كلام العرب : هو ما غال الإنسان فذهب به ، فكلّ من ناله أمر يكرهه ضربوا له بذلك المثل ، فقالوا : غالت فلانا غول ، فالذاهب العقل من شرب الشراب ، والمشتكي البطن منه ، والمصدّع الرأس من ذلك ، والذي ناله منه مكروه كلهم قد غالته غُول .
فإذا كان ذلك كذلك ، وكان الله تعالى ذكره قد نفى عن شراب الجنة أن يكون فيه غَوْل ، فالذي هو أولى بصفته أن يقال فيه كما قال جلّ ثناؤه لا فِيها غَوْلٌ فيعمّ بنفي كلّ معاني الغَوْل عنه ، وأعمّ ذلك أن يقال : لا أذى فيها ولا مكروه على شاربيها في جسم ولا عقل ، ولا غير ذلك .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة يُنْزَفُونَ بفتح الزاي ، بمعنى : ولا هم عن شربها تُنْزَف عقولهم . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة : «وَلا هُمْ عَنْها يُنْزِفُونَ » بكسر الزاي ، بمعنى : ولا هم عن شربها يَنْفَد شرابهم .
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى غير مختلفتيه ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب وذلك أن أهل الجنة لا ينفد شرابهم ، ولا يُسكرهم شربهم إياه ، فيُذهِب عقولَهم .
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه : لا تذهب عقولهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ يقول : لا تذهب عقولهم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ قال : لا تُنْزَف فتذهب عقولهم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ قال : لا تذهب عقولهم .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ قال : لا تُنْزَف عقولهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ قال : لا تُنْزِف العقول .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ قال : لا تغلبهم على عقولهم .
وهذا التأويل الذي ذكرناه عمن ذكرنا عنه لم تفصّل لنا رَواته القراءة الذي هذا تأويلها ، وقد يحتمل أن يكون ذلك تأويل قراءة من قرأها يَنْزِفُونَ ويُنْزَفُون كلتيهما ، وذلك أن العرب تقول : قد نُزِف الرجل فهو منزوف : إذا ذهب عقله من السكر ، وأَنْزَف فهو مُنْزِف ، محكية عنهم اللغتان كلتاهما في ذهاب العقل من السكر وأما إذا فَنِيت خمر القوم فإني لم أسمع فيه إلا أنزَفَ القومُ بالألف ، ومن الإنزاف بمعنى : ذهاب العقل من السكر ، قول الأُبَيرد :
لَعَمْرِي لَئِنْ أنْزَفْتُمُوا أوْ صَحَوْتُمُ *** لبِئْسَ النّدامَى كنْتُمُ آلَ أبْجَرَا
وجملة { لا فِيها غَوْلٌ } صفة رابعة لكأس باعتبار إطلاقه على الخمر .
والغَول ، بفتح الغيْن : ما يعتري شارب الخمر من الصداع والألم ، اشتق من الغَول مصدرِ غاله ، إذا أهلكه . وهذا في معنى قوله تعالى : { لا يصدعون عنها } [ الواقعة : 19 ] .
وتقديم الظرف المسند على المسند إليه لإِفادة التخصيص ، أي هو منتففٍ عن خمر الجنة فقط دونَ ما يعرف من خمر الدنيا ، فهو قصر قلب . ووقوع { غَوْلٌ } وهو نكرة بعد { لا } النافية أفاد انتفاء هذا الجنس من أصله ، ووجب رفعه لوقوع الفصل بينه وبين حرف النفي بالخبر .
وجملة { ولا هم عنها يُنزفون } معطوفة على جملة { لا فيها غَوْلٌ } .
وقدّم المسند عليه على المسند ، والمسند فعل ليفيد التقديم تخصيص المسند إليه بالخبر الفعلي ، أي بخلاف شاربي الخمر من أهل الدنيا .
و { يُنزَفُونَ } مبني للمجهول في قراءة الجمهور يقال : نُزف الشارب ، بالبناء للمجهول إذا كان مجرداً ( ولا يُبنى للمعلوم ) فهو منزوف ونزيف ، شبهوا عقل الشارب بالدم يقال : نُزف دمُ الجريح ، أي أُفرغ . وأصله من : نَزفَ الرجُلُ مَاءَ البئر متعدياً ، إذا نَزحه ولم يُبق منه شيئاً . وقرأه حمزة والكسائي وخلف { يُنزِفُونَ } بضم اليَاء وكسر الزاي من أُنزف الشاربُ ، إذا ذهب عقله ، أي صار ذَا نَزَف ، فالهمزة للصيرورة لا للتعدية .