الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{لَا فِيهَا غَوۡلٞ وَلَا هُمۡ عَنۡهَا يُنزَفُونَ} (47)

و { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } : صفةٌ أيضاً . وبَطَل عَمَلُ " لا " وتكرَّرت لتقدُّمِ خبرِها . وقد تقدَّم أولَ البقرةِ فائدةُ تقديمَ مثلِ هذا الخبرِ ورَدُّ الشيخِ له والبحثُ معه ، فعليك بالالتفات إليه .

قوله : " يُنْزَفُون " قرأ الأخَوان " يُنْزِفون " هنا وفي الواقعة بضمِّ الياءِ وكسرِ الزاي . وافقهما عاصمٌ على ما في الواقعة فقط . والباقون بضم الياءِ وفتحِ الزاي . وابنُ أبي إسحاق بالفتح والكسر . وطلحةُ بالفتح والضمِّ . فالقراءةُ الأولى مِنْ أَنْزَفَ الرجلُ إذا ذهب عقلُه من السُّكْرِ فهو نَزِيْفٌ ومَنْزُوْف . وكان قياسُه مُنْزَف ك مُكْرَم . ونَزَفَ الرجلُ الخمرةَ فأَنْزَف هو ، ثلاثيُّه متعدٍ ، ورباعيُّه بالهمزةِ قاصرٌ ، وهو نحو : كَبَيْتُه فأَكَبَّ وقَشَعَتِ الريحُ السَّحابَ فأَقْشَع/ أي : دخلا في الكَبِّ والقَشْع . وقال الأسودُ :

3797 لَعَمْري لَئِنْ أَنْزَفْتُمُ أو صَحَوْتُمُ *** لبِئْسَ النَّدامى أنتمُ آلَ أَبْجرا

ويقال : أَنْزَفَ أيضاً أي : نَفِدَ شرابُه . وأمَّا الثانيةُ فمِنْ نُزِف الرجلُ ثلاثياً مبنياً للمفعول بمعنى : سَكِر وذَهَبَ عَقْلُه أيضاً . ويجوزُ أَنْ تكونَ هذه القراءةُ مِنْ أُنْزِف أيضاً بالمعنى المتقدِّم . وقيل : هو مِنْ قولِهم : نَزَفْتُ الرَّكِيَّةَ أي : نَزَحْتُ ماءَها . والمعنى : أنهم لا تَذْهَبُ خمورُهم بل هي باقيةٌ أبداً . وضَمَّنَ " يُنْزَفُوْن " معنى يَصُدُّون عنها بسبب النزيف . وأمّا القراءتان الأخيرتان فيقال : نَزِف الرجلُ ونَزُف بالكسر والضم بمعنى : ذَهَبَ عَقْلُه بالسُّكْر .

والغَوْلُ : كلُّ ما اغتالك أي : أَهْلَكك . ومنه الغُوْلُ بالضم : شيءٌ تَوَهَّمَتْه العربُ . ولها فيه أشعارٌ كالعَنْقاءِ يُقال : غالني كذا . ومنه الغِيْلَة في القَتْل والرَّضاع قال :

3798 مَضَى أَوَّلُونا ناعِمِيْنَ بعيشِهِمْ *** جميعاً وغالَتْني بمكةَ غُوْلُ

وقال آخر : وما زالَتِ الخَمْرُ تَغْتالنا *** وتَذْهَبُ بالأولِ الأولِ

فالغَوْل اسمٌ عامٌّ لجميع الأَذَى .