الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{لَا فِيهَا غَوۡلٞ وَلَا هُمۡ عَنۡهَا يُنزَفُونَ} (47)

" لا فيها غول " أي لا تغتال عقولهم ، ولا يصيبهم منها مرض ولا صداع . " ولا هم عنها ينزفون " أي لا تذهب عقولهم بشربها . يقال : الخمر غول للحلم ، والحرب غول للنفوس ، أي تذهب بها . وقال : نزف الرجل ينزف فهو منزوف ونزيف إذا سكر . قال امرؤ القيس :

وإذا هي تَمْشِي كمشي النَّزي *** فِ يَصْرَعُهُ بالكثيب البَهَرْ{[13252]}

وقال أيضا :

نزيفٌ إذا قامت لوجْهٍ تمايَلَتْ *** تُرَاشِي الفؤادَ الرَّخْصَ ألا تَخَتَّرَا{[13253]}

وقال آخر{[13254]} :

فلثمتُ فاهَا آخذاً بقُرُونها *** شُرْبَ النَّزِيف ببرد ماءِ الحَشْرَجِ

وقرأ حمزة والكسائي بكسر الزاي ، من أنزف القوم إذا حان منهم النزف وهو السكر . يقال : أحصد الزرع إذا حان حصاده ، وأقطف الكرم إذا حان قطافه ، وأركب المهر إذا حان ركوبه . وقيل : المعنى لا ينفدون شرابهم ؛ لأنه دأبهم . يقال : أنزف الرجل فهو منزوف إذا فنيت خمره . قال الحطيئة{[13255]} :

لعمري لئن أنزفتُم أو صحوتُمُ *** لبئسَ النَّدَامَى كنتم آل أبْجَرَا

النحاس : والقراءة الأولى أبين وأصح في المعنى ؛ لأن معنى " ينزفون " عند جلة أهل التفسير منهم مجاهد لا تذهب عقولهم ، فنفى الله عز وجل عن خمر الجنة الآفات التي تلحق في الدنيا من خمرها من الصداع والسكر . ومعنى " ينزفون " الصحيح فيه أنه يقال : أنزف الرجل إذا نفد شرابه ، وهو يبعد أن يوصف به شراب الجنة ، ولكن مجازه أن يكون بمعنى لا ينفد أبدا . وقيل : " لا ينزفون " بكسر الزاي لا يسكرون . ذكره الزجاج وأبو علي على ما ذكره القشيري . المهدوي : ولا يكون معناه يسكرون ؛ لأن قبله " لا فيها غول " . أي لا تغتال عقولهم فيكون تكرارا ؛ ويسوغ ذلك في " الواقعة " . ويجوز أن يكون معنى " لا فيها غول " لا يمرضون ، فيكون معنى " ولا هم عنها ينزفون " لا يسكرون أو لا ينفد شرابهم . قال قتادة : الغول وجع البطن . وكذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد " لا فيها غول " قال لا فيها وجع بطن . الحسن : صداع . وهو قول ابن عباس : " لا فيها غول " لا فيها صداع . وحكى الضحاك عنه أنه قال : في الخمر أربع خصال : السكر والصداع والقيء والبول ، فذكر الله خمر الجنة فنزهها عن هذه الخصال . مجاهد : داء . ابن كيسان : مغص . وهذه الأقوال متقاربة . وقال الكلبي : " لا فيها غول " أي إثم ، نظيره : " لا لغو فيها ولا تأثيم " [ الطور : 23 ] . وقال الشعبي والسدي وأبو عبيدة : لا تغتال عقولهم فتذهب بها . ومنه قول الشاعر :

وما زالت الكأسُ تغتالُنَا *** وتذهب بالأولِ الأولِ

أي تصرع واحدا واحدا . وإنما صرف الله تعالى السكر عن أهل الجنة لئلا ينقطع الالتذاذ عنهم بنعيمهم . وقال أهل المعاني : الغول فساد يلحق في خفاء . يقال : اغتاله اغتيالا إذا أفسد عليه أمره في خفية . ومنه الغول والغيلة : وهو القتل خفية .


[13252]:البهر: الكلال وانقطاع النفس.
[13253]:الختر: ضعف يأخذ عند شراب الدواء أو السم. يقول: هي سكرى من الشراب، إذا قامت به لوجه وجدت فتورا في عظامها وكسلا، فهي تداري فؤادها وتراشيه ألا يعذبها في مشيتها.
[13254]:هو جميل بن معمر. وقيل البيت: لعمر بن أبي ربيعة. والحشرج نقرة في الجبل يجتمع فيها الماء فيصفو.
[13255]:نسبه الجوهري إلى الأبيردي. وأبجر هو أبجر بن جابر العجلي وكان نصرانيا.