قوله تعالى : { إن ينصركم الله } . يعنكم الله ويمنعكم من عدوكم .
قوله تعالى : { فلا غالب لكم } . مثل يوم بدر .
قوله تعالى : { وإن يخذلكم } . يترككم فلم ينصركم كما كان بأحد ، والخذلان القعود عن النصر والإسلام للهلكة .
قوله تعالى : { فمن ذا الذي ينصركم من بعده } . أي من بعد خذلانه .
قوله تعالى : { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } . قيل التوكل أن لا تعصي الله من أجل رزقك ، وقيل : أن لا تطلب لنفسك ناصراً غير الله ولا لرزقك خازناً غيره ولا لعملك شاهداً غيره .
أخبرنا الأستاذ الإمام أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري ، أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن شجاع البزاز ببغداد ، أخبرنا أبو بكر محمد بن جعفر بن محمد الهيثم الأنباري ، أخبرنا محمد بن أبي العوام ، أخبرنا وهب ابن جرير ، أخبرنا هشام بن حسان عن الحسن عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يدخل سبعون ألفاً من أمتي الجنة بغير حساب قيل : يا رسول الله من هم ؟ قال : هم الذين لا يكتوون ، ولا يسترقون ، ولا يتطيرون ، وعلى ربهم يتوكلون . فقال عكاشة بن محصن : يا رسول الله ادع الله لي أن يجعلني منهم ، قال : أنت منهم ثم قام آخر فقال : يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم ، فقال : سبقك بها عكاشة " .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة قال : أخبرنا محمد بن أحمد بن الحارث ، أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أخبرنا عبد الله بن محمود ، أخبرنا إبراهيم بن محمد الخلال ، أنا عبد الله بن المبارك ، عن حياة بن شريح ، حدثني بكر بن عمرو ، عن عبد الله بن هبيرة أنه سمع أبا تميم الجيشاني يقول : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً " .
{ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }
أي : إن يمددكم الله بنصره ومعونته { فلا غالب لكم } فلو اجتمع عليكم من في أقطارها وما عندهم من العدد والعُدد ، لأن الله لا مغالب له ، وقد قهر العباد وأخذ بنواصيهم ، فلا تتحرك دابة إلا بإذنه ، ولا تسكن إلا بإذنه .
{ وإن يخذلكم } ويكلكم إلى أنفسكم { فمن ذا الذي ينصركم من بعده } فلا بد أن تنخذلوا ولو أعانكم جميع الخلق .
وفي{[170]} ضمن ذلك الأمر بالاستنصار بالله والاعتماد عليه ، والبراءة من الحول والقوة ، ولهذا قال : { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } بتقديم المعمول يؤذن بالحصر ، أي : على الله توكلوا لا على غيره ، لأنه قد علم أنه هو الناصر وحده ، فالاعتماد عليه توحيد محصل للمقصود ، والاعتماد على غيره شرك غير نافع لصاحبه ، بل ضار .
وفي هذه الآية الأمر بالتوكل على الله وحده ، وأنه بحسب إيمان العبد يكون توكله .
ولتقرير حقيقة التوكل على الله ، وإقامتها على أصولها الثابتة ، يمضي السياق فيقرر أن القوة الفاعلة في النصر والخذلان هي قوة الله ، فعندها يلتمس النصر ، ومنها تتقى الهزيمة ، وإليها يكون التوجه ، وعليها يكون التوكل ، بعد اتخاذ العدة ، ونفض الأيدي من العواقب ، وتعليقها بقدر الله :
( إن ينصركم الله فلا غالب لكم ، وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده ؟ وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) . .
إن التصور الإسلامي يتسم بالتوازن المطلق بين تقرير الفاعلية المطلقة لقدر الله - سبحانه - وتحقق هذا القدر في الحياة الإنسانية من خلال نشاط الإنسان وفاعليته وعمله . . إن سنة الله تجري بترتيب النتائج على الأسباب . ولكن الأسباب ليست هي التي " تنشىء " النتائج . فالفاعل المؤثر هو الله . والله يرتب النتائج على الأسباب بقدره ومشيئته . . ومن ثم يطلب إلى الإنسان أن يؤدي واجبه ، وأن يبذل جهده ، وأن يفي بالتزاماته . وبقدر ما يوفي بذلك كله يرتب الله النتائج ويحققها . . وهكذا تظل النتائج والعواقب متعلقة بمشيئة الله وقدره . هو وحده الذي يأذن لها بالوجود حين يشاء ، وكيفما يشاء . . وهكذا يتوازن تصور المسلم وعمله . فهو يعمل ويبذل ما في طوقه ؛ وهو يتعلق في نتيجة عمله وجهده بقدر الله ومشيئته . ولا حتمية في تصوره بين النتائج والأسباب . فهو لا يحتم أمرا بعينه على الله !
وهنا في قضية النصر والخذلان ، بوصفهما نتيجتين للمعركة - أية معركة - يرد المسلمين إلى قدر الله ومشيئته ؛ ويعلقهم بإرادة الله وقدرته : إن ينصرهم الله فلا غالب لهم . وأن يخذلهم فلا ناصر لهم من بعده . . وهي الحقيقة الكلية المطلقة في هذا الوجود . حيث لا قوة إلا قوة الله ، ولا قدرة إلا قدرته ، ولا مشيئة إلا مشيئته . وعنها تصدر الأشياء والأحداث . . ولكن هذه الحقيقة الكلية المطلقة لا تعفي المسلمين من اتباع المنهج ، وطاعة التوجيه ، والنهوض بالتكاليف ، وبذلك الجهد ، والتوكل بعد هذا كله على الله :
( وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) . .
وبذلك يخلص تصور المسلم من التماس شيء من عند غير الله ؛ ويتصل قلبه مباشرة بالقوة الفاعلة في هذا الوجود ؛ فينفض يده من كل الأشباح الزائفة والأسباب الباطلة للنصرة والحماية والالتجاء ؛ ويتوكل على الله وحده في أحداث النتائج ، وتحقيق المصاير ، وتدبير الأمر بحكمته ، وتقبل ما يجيء به قدر الله في اطمئنان أيا كان .
إنه التوازن العجيب ، الذي لا يعرفه القلب البشري إلا في الإسلام .
وقوله : { إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } وهذا كما تقدم من قوله : { وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } [ آل عمران : 126 ] ثم أمرهم بالتوكل عليه فقال : { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }
{ إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الّذِي يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُؤْمِنُونَ }
يعني تعالى ذكره بذلك : إن ينصركم الله أيها المؤمنون بالله ورسوله ، على من ناوأكم وعاداكم من أعدائه ، والكافرين به ، فلا غالب لكم من الناس ، يقول : فلن يغلبكم مع نصره إياكم أحد ، ولو اجتمع عليكم من بين أقطارها من خلقه ، فلا تهابوا أعداء الله لقلة عددكم ، وكثرة عددهم ، ما كنتم على أمره ، واستقمتم على طاعته وطاعة رسوله ، فإن الغلبة لكم والظفر دونهم . { وَإنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الّذِي يَنْصُرْكُمْ مِنْ بَعْدِهِ } يعني : إن يخذلكم ربكم ، بخلافكم أمره ، وترككم طاعته وطاعة رسوله ، فيكلكم إلى أنفسكم ، فمن ذا الذي ينصركم من بعده ، يقول : فأيسوا من نصرة الناس ، فإنكم لا تجدون أمرا من بعد خذلان الله إياكم أن خذلكم ، يقول : فلا تتركوا أمري ، وطاعتي وطاعة رسولي ، فتهلكوا بخذلاني إياكم . { وَعَلى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ المُؤمِنُونَ } يعني : ولكن على ربكم أيها المؤمنون فتوكلوا دون سائر خلقه ، وبه فارضوا من جميع من دونه ، ولقضائه فاستسلموا ، وجاهدوا فيه أعداءه ، يكفكم بعونه ، ويمددكم بنصره . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { إنْ يَنْصُرْكُمْ اللّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعلى اللّهِ فَلْيَتَوكّلِ المُؤْمِنُونَ } : أي إن ينصرك الله فلا غالب لك من الناس ، لن يضرّك خذلان من خذلك ، وإن يخذلك ، فلن ينصرك الناس ، فمن الذي ينصركم من بعده : أي لا تترك أمري للناس ، وارفُضْ ( أمر ) الناس لأمري { وَعَلى اللّهِ } ( لا على الناس ) { فَلْيَتَوَكّلِ المُؤْمِنُونَ } .
ثم ثبت تعالى المؤمنين بقوله : { إن ينصركم الله فلا غالب لكم } أي فالزموا الأمور التي أمركم بها ووعدكم النصر معها ، و «الخذل » : هو الترك في مواطن الاحتياج إلى التارك ، وأصله من خذل الظباء ، وبهذا قيل لها : خاذل إذ تركتها أمها ، وهذا على النسب أي ذات خذل لأن المتروكة هي الخاذل بمعنى مخذولة ، وقوله تعالى : { فمن ذا الذي ينصركم } تقدير جوابه : لا من- والضمير في { بعده } يحتمل العودة على المكتوبة ، ويحتمل العودة على الخذل الذي تضمنه قوله { إن يخذلكم } .
استئناف نشأ عن قوله : { ولئن قتلتم في سبيل الله أو مِتُّم } [ آل عمران : 157 ] أو عن قوله : { لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم } [ آل عمران : 156 ] الآية .
ولو حُمل هذا الخبر على ظاهر الإخبار لكان إخبَاراً بأمر معلوم عند المخاطبين إذ هم مؤمنون ، ولا يجهل مؤمن أنّ الله إذا قَدّر نَصر أحَدٍ فلا رادّ لنصره ، وأنَّه إذا قدّر خَذْلَه فلا ملجأ له من الهزيمة ، فإنّ مثل هذا المعنى محقّق في جانب الله لا يجهله معترف بإلهيته ، مؤمن بوحدانيته ، وهل بعد اعتقاد نفي الشريك عن الله في ملكه مجال لاعتقاد وجود ممانع له في إرادته ، فيتعيّن أن يكون هذا الخبر مراداً به غيرُ ظاهر الإخبار ، وأحسن ما يحمل عليه أن يكون تقريراً لتسلية المؤمنين على ما أصابهم من الهزيمة ، حتَّى لا يحزنوا على ما فات لأنّ ردّ الأمور إلى الله تعالى عند العجز عن تداركها مسلاة للنفس ، وعزاء على المصيبة ، وفي ضمن ذلك تنبيه إلى أنّ نصر الله قوماً في بعض الأيَّام ، وخَذْله إيّاهم في بعضها ، لا يكون إلاّ لحِكَم وأسباب ، فعليهم السعي في أسباب الرضا الموجب للنصر ، وتجنّب أسباب السخط الموجب للخَذل كما أشار إليه قوله : { يأيُّها الَّذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم } [ محمد : 7 ] وقوله : { فأثابكم غماً بغم } [ آل عمران : 153 ] وقوله الآتي : { أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليْها قلتم أنى هذا } [ آل عمران : 165 ] وعليهم التطلّب للأسباب الَّتي قُدر لهم النَّصر لأجلها في مثل يوم بَدر ، وأضدادها الَّتي كان بها الخَذل في يَوم أحُد ، وفي التفكير في ذلك مجال واسع لمكاشفات الحقائق والعلل والأسباب والحكم والمنافع والمضارّ على قدر سعة التفكير الجائل في ذلك ، ففي هذا الخبر العظيم إطلاق للأفكار من عقالها ، وزجّ بها في مسارح العبر ، ومراكض العظات ، والسابقون الجيادُ ، فالخبر مستعمل في لازم معناه وهو الحضّ على تحصيل ذلك . وعلى هذا الوجه تظهر مناسبة موقع هذا الاستئناف عقب ما تقدّمه : لأنَّه بعد أن خاطبهم بفنون الملام والمعذرة والتسلية من قوله : { قد خلت من قبلكم سنن } [ آل عمران : 137 ] إلى هنا ، جمع لهم كُلّ ذلك في كلام جامع نافعٍ في تلقِّي الماضي ، وصالحٍ للعمل به في المستقبل ، ويجوز أن يكون الإخبار مبنيّاً على تنزيل العالم منزلة الجاهل ، حيث أظهروا من الحرص على الغنيمة ومن التأوّل في أمر الرسول لهم في الثبات ، ومن التلهّف على ما أصابهم من الهزيمة والقتل والجرح ، ما جعل حالهم كحال من يجهل أنّ النصر والخذل بيد الله تعالى . فالخبر مستعمل في معناه على خلاف مقتضى الظاهر .
والنَّصر : الإعانة على الخلاص من غلب العَدوّ ومُريد الإضرار .
والخِذْلانُ ضدّه : وهو إمساك الإعانة مع القدرة ، مأخوذ من خَذلت الوَحشية إذا تخلفت عن القطيع لأجل عجز ولدها عن المشي .
ومعنى { إن ينصركم } { وإن يخذلكم } إنْ يُرد هَذا لَكم ، وإلاّ لما استقام جواب الشرط الأوّل ، وهو « { فلا غالب لكم } إذ لا فائدة في ترتيب عدم الغلب على حصول النصر بالفِعل ، ولا سيما مع نفي الجنس في قوله : { فلا غالب لكم } ، لأنَّه يصير من الإخبار بالمعلوم ، كما تقول : إن قمتَ فأنتَ لست بقَاعد . وأمَّا فعل الشرط الثَّاني وهو : { وإن يخذلكم } فيقدّر كذلك حَمْلاً على نظيره ، وإن كان يستقيم المعنى بدون تأويل فيه . وهذا من استعمال الفعل في معنى إرادة الفعل كقوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } [ المائدة : 6 ] الآية .
وجَعْل الجواب بقوله : { فلا غالب لكم } دون أن يقول : لا تغلبوا ، للتنصيص على التَّعميم في الجواب ، لأنّ عموم ترتّب الجزاء على الشرط أغلبي وقد يكون جزئياً أي لا تغلبوا من بعض المغالبين ، فأريد بإفادة التعميم دفع التّوهم .
والاستفهام في قوله : { فمن ذا الذي ينصركم من بعده } إنكاري أي فلا ينصركم أحد غيره .
وكلمة { من بَعده } هنا مستعملة في لازم معناها وهو المغايرة والمجاوزة : أي فمن الَّذي ينصركم دونَه أو غيرَه أي دون اللَّه ، فالضّمير ضمير اسم الجلالة لا محالة ، واستعمال ( بعد ) في مثل هذا شائع في القرآن قال تعالى : { فمن يهديه من بعد الله } [ الجاثية : 23 ] وأصل هذا الاستعمال أنه كالتمثيلية المكنية : بأن مثلت الحالة الحاصلة من تقدير الانكسار بحالة من أسلم الذي استنصر به وخذله فتركه وانصرف عنه لأن المقاتل معك إذا ولى عنك فقد خذللك فحذف ما يدل على الحالة المشبه بها ورمز إليه بلازمه وهو لفظ { من بعده } .
وجملة { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } تذييل قصد به الأمر بالتَّوكل المستند إلى ارتكاب أسباب نصر الله تعالى : من أسبابٍ عادية وهي الاستعداد ، وأسبابٍ نفسانية وهي تزكية النفس واتّباع رضَى الله تعالى .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن ينصركم الله}، يعني: يمنعكم، {فلا غالب لكم}، يعني: لا يهزمكم أحد، {وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده}، يعني يمنعكم من بعد الله، {وعلى الله فليتوكل المؤمنون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بذلك: إن ينصركم الله أيها المؤمنون بالله ورسوله، على من ناوأكم وعاداكم من أعدائه، والكافرين به، فلا غالب لكم من الناس، يقول: فلن يغلبكم مع نصره إياكم أحد، ولو اجتمع عليكم من بين أقطارها من خلقه، فلا تهابوا أعداء الله لقلة عددكم، وكثرة عددهم، ما كنتم على أمره، واستقمتم على طاعته وطاعة رسوله، فإن الغلبة لكم والظفر دونهم.
{وَإنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الّذِي يَنْصُرْكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} يعني: إن يخذلكم ربكم، بخلافكم أمره، وترككم طاعته وطاعة رسوله، فيكلكم إلى أنفسكم، فمن ذا الذي ينصركم من بعده، يقول: فأيسوا من نصرة الناس، فإنكم لا تجدون أمرا من بعد خذلان الله إياكم أن خذلكم، يقول: فلا تتركوا أمري، وطاعتي وطاعة رسولي، فتهلكوا بخذلاني إياكم.
{وَعَلى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ المُؤمِنُونَ} يعني: ولكن على ربكم أيها المؤمنون فتوكلوا دون سائر خلقه، وبه فارضوا من جميع من دونه، ولقضائه فاستسلموا، وجاهدوا فيه أعداءه، يكفكم بعونه، ويمددكم بنصره...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى {إن ينصركم الله فلا غالب لكم} صدق الله؛ من كان الله ناصره فلا يغلبه العدو من بعده. {وإن يخذلكم} أي يترككم {فمن ذا الذي ينصركم}؟ والنصر يحتمل وجهين: يحتمل المعونة، ويحتمل المنع...
وقوله تعالى: {وعلى الله فليتوكل المؤمنين} هو على الأمر في الحقيقة كأنه قال: وعلى الله فتوكلوا أيها المؤمنون. والتوكل هو: الاعتماد عليه وتفويض الأمر إليه.
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
قوله تعالى: {وعلى الله فليتوكل المؤمنون}. قيل التوكل أن لا تعصي الله من أجل رزقك، وقيل: أن لا تطلب لنفسك ناصراً غير الله ولا لرزقك خازناً غيره ولا لعملك شاهداً غيره.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إِن يَنصُرْكُمُ الله} كما نصركم يوم بدر فلا أحد يغلبكم {وَإِن يَخْذُلْكُمْ} كما خذلكم يوم أحد {فَمَن ذَا الذي يَنصُرُكُم} فهذا تنبيه على أن الأمر كله لله وعلى وجوب التوكل عليه. ونحوه {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ} [فاطر: 2]. {مِن بَعْدِهِ} من بعد خذلانه. أو هو من قولك ليس لك من يحسن إليك من بعد فلان؛ تريد إذا جاوزته...
وفيه ترغيب في الطاعة وفيما يستحقون به النصر من الله تعالى والتأييد، وتحذير من المعصية ومما يستوجبون به العقوبة بالخذلان {وَعَلَى الله} وليخص المؤمنون ربهم بالتوكل والتفويض إليه لعلمهم أنه لا ناصر سواه، ولأن إيمانهم يوجب ذلك ويقتضيه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم ثبت تعالى المؤمنين بقوله: {إن ينصركم الله فلا غالب لكم} أي فالزموا الأمور التي أمركم بها ووعدكم النصر معها...
المسألة الأولى: قيل المقصود من الآية الترغيب في الطاعة، والتحذير عن المعصية، وذلك لأنه تعالى بين فيما تقدم أن من اتقى معاصي الله تعالى نصره الله، وهو قوله: {بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة} ثم بين في هذه الآية أن من نصره الله فلا غالب له، فيحصل من مجموع هاتين المقدمتين، أن من اتقى الله فقد فاز بسعادة الدنيا والآخرة فإنه يفوز بسعادة لا شقاوة معها وبعز لا ذل معه، ويصير غالبا لا يغلبه أحد، وأما من أتى بالمعصية فإن الله يخذله، ومن خذله الله فقد وقع في شقاوة لا سعادة معها، وذل لا عز معه.
المسألة الثانية: احتج الأصحاب بهذه الآية على أن الإيمان لا يحصل إلا بإعانة الله، والكفر لا يحصل إلا بخذلانه، والوجه فيه ظاهر لأنها دالة على أن الأمر كله لله...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده} هذا التفات، إذْ هو خروج من غيبة إلى الخطاب. ولما أمره بمشاورتهم وبالتوكل عليه، أوضح أنَّ ما صدر من النصر أو الخذلان إنما هو راجع لما يشاء. وأنَّه متى نصركم لا يمكن أن يغلبكم أحد، ومتى خذلكم فلا ناصر لكم فيما وقع لكم من النصر، أو بكم من الخذلان كيومي: بدر وأحد، فبمشيئته. وفي هذا تسلية لهم عما وقع لهم من الفرار. ثم أمرهم بالتوكل، وناط الأمر بالمؤمنين، فنبه على الوصف الذي يناسب معه التوكل وهو الإيمان، لأن المؤمن مصدق بأن الله هو الفاعل المختار بيده النصر والخذلان. وأشركهم مع نبيهم في مطلوبية التوكل، وهو إضافة الأمور إلى الله تعالى وتفويضها إليه...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
وأصل الخذلان: الترك والتخلية، ويقال للبقرة والشاة إذا تخلفت مع ولدها في المرعى وتركت صواحباتها: خذول.
قال محمد بن إسحاق في هذه الآية: إن ينصرك الله فلا غالب لك من الناس ولن يضرك خذلان من خذلك، وإن يخذلك فلن ينصرك الناس، أي: لا تترك أمري للناس، وارفض الناس لأمري.
والخذلان: أن يخلي الله تعالى وبين العبد وبين نفسه ويكله إليها. والتوفيق ضده: أن لا يدعه ونفسه، ولا يكله إليها، بل يصنع له ويلطف به ويعينه، ويدفع عنه، ويكلأه كلاءة الوالد الشفيق للولد العاجز عن نفسه، فمن خلى بينه وبين نفسه هلك كل الهلاك، ولهذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: «يا حي يا قيوم يا بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك».
فالعبد مطروح بين الله وبين عدوه إبليس، فإن تولاه الله لم ظفر به عدوه. وإن خذله وأعرض عنه افترسه الشيطان، كما يفترس الذئب الشاة.
فإن قيل: فما ذنب الشاة إذا خلى الراعي بين الذئب وبينها، وهل يمكنها أن تقوى على الذئب وتنجو منه؟
قيل: لعمر الله، إن الشيطان ذئب الإنسان -كما قاله الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ولكن لم يجعل الله لهذا الذئب اللعين على هذه الشاة سلطانا، مع ضعفها، فإذا أعطت بيدها وسالمت الذئب ودعاها فلبت دعوته وأجابت أمره ولم تتخلف، بل أقبلت نحوه سريعة مطيعة، وفارقت حمى الراعي الذي ليس للذئاب عليه سبيل، ودخلت في محل الذئاب الذي من دخله كان صيدا لهم، فهل الذئب كل الذئب إلا الشاة؟ فكيف والراعي يحذرها ويخوفها وينذرها؟ وقد رآها مصارع الشاة التي انفردت عن الراعي، ودخلت وادي الذئاب...
وقد حذر الله سبحانه آدم من ذئبه مرة بعد مرة، وهو يأبى إلا أن يستجيب له إذا دعاه، ويبيت معه ويصبح {وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم} [إبراهيم: 22].
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان التقدير؛ فإذا فعلوا ما يحبه أعطاهم مُناهم مما عزموا عليه لأجله؛ استأنف الإخبار بما يقبل بقلوبهم إليه ويقصر هممهم عليه، بأن من نصره هو المنصور، ومن خذله هو المخذول، فقال تعالى: {إن ينصركم الله} أي الذي له جميع العظمة {فلا غالب لكم} أي إن كان نبيكم صلى الله عليه وسلم بينكم أو لا، فما بالكم وهنتم لما صاح إبليس أن محمداً قد قتل! وهلا فعلتم كما فعل سعد بن الربيع رضي الله تعالى عنه وكما فعل أنس بن النضر رضي الله تعالى عنه حين قال:"موتوا على ما مات عليه نبيكم صلى الله عليه وسلم! فهو أعذر لكم عند ربكم" {وإن يخذلكم} أي بإمكان العدو منكم {فمن ذا الذي ينصركم من بعده} أي من نبي أو غيره، ولما كان التقدير: فعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين، عطف عليه قوله: {وعلى الله} أي الملك الأعظم وحده، لا على نبي ولا على قوة بعدد ولا بمال من غنيمة ولا غيرها {فليتوكل المؤمنون} أي كلهم فيكون ذلك أمارة صحة إيمانهم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
الكلام استئناف مسوق لبيان وجه وجوب التوكل على الله تعالى بعد المشاورة والعزيمة المبنية على أخذ الأهبة والاستعداد بما يستطاع من حول وقوة، أي إن ينصركم الله بالعمل بسننه وما يكون لكم من القوة والثبات بالاتكال على توفيقه ومعونته؛ فلا غالب لكم من الناس الذين نصبهم حرمانهم من التوكل عليه تعالى غرضا للقنوط واليأس، (وإن يخذلكم) بما كسبت أيديكم من الفشل، وعصيان القائد فيما حتمه من عمل، كما جرى لكم في أحد، أو بالإعجاب بالكثرة، والاعتماد على الاستعداد والقوة، وهو مخل بالتوكل كما جرى يوم حنين، (فمن ذا الذي ينصركم من بعده) أي من بعد خذلانه أي لا أحد يملك لكم حينئذ نصرا، ولا أن يدفع عنكم ضرا: (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) ولا يتوكلوا على غيره، لأن النصر بيده. وهو الموفق لأسبابه وأهبه. وقد بينا أكثر من مرة أسباب النصر الحسية والمعنوية. قد علم مما تقدم أن التوكل إنما يكون مع الأخذ بالأسباب وأن ترك الأسباب بدعوى التوكل لا يكون إلا عن جهل بالشرع أو فساد في العقل. فالتوكل محله القلب. والعمل بالأسباب محله الأعضاء والجوارح. والإنسان مسوق إليه بمقتضى فطرة الله التي فطر الناس عليها (لا تبديل لخلق الله) [الروم: 30] ومأمور به في الشرع قال تعالى: (فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه) [الملك: 15] وقال: (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم) [النساء: 71] وقال: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل) [الأنفال: 60] وقال: (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) [البقرة: 197]...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولتقرير حقيقة التوكل على الله، وإقامتها على أصولها الثابتة، يمضي السياق فيقرر أن القوة الفاعلة في النصر والخذلان هي قوة الله، فعندها يلتمس النصر، ومنها تتقى الهزيمة، وإليها يكون التوجه، وعليها يكون التوكل، بعد اتخاذ العدة، ونفض الأيدي من العواقب، وتعليقها بقدر الله: (إن ينصركم الله فلا غالب لكم، وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده؟ وعلى الله فليتوكل المؤمنون).. إن التصور الإسلامي يتسم بالتوازن المطلق بين تقرير الفاعلية المطلقة لقدر الله -سبحانه- وتحقق هذا القدر في الحياة الإنسانية من خلال نشاط الإنسان وفاعليته وعمله.. إن سنة الله تجري بترتيب النتائج على الأسباب. ولكن الأسباب ليست هي التي "تنشئ "النتائج. فالفاعل المؤثر هو الله. والله يرتب النتائج على الأسباب بقدره ومشيئته.. ومن ثم يطلب إلى الإنسان أن يؤدي واجبه، وأن يبذل جهده، وأن يفي بالتزاماته. وبقدر ما يوفي بذلك كله يرتب الله النتائج ويحققها.. وهكذا تظل النتائج والعواقب متعلقة بمشيئة الله وقدره. هو وحده الذي يأذن لها بالوجود حين يشاء، وكيفما يشاء.. وهكذا يتوازن تصور المسلم وعمله. فهو يعمل ويبذل ما في طوقه؛ وهو يتعلق في نتيجة عمله وجهده بقدر الله ومشيئته. ولا حتمية في تصوره بين النتائج والأسباب. فهو لا يحتم أمرا بعينه على الله! وهنا في قضية النصر والخذلان، بوصفهما نتيجتين للمعركة -أية معركة- يرد المسلمين إلى قدر الله ومشيئته؛ ويعلقهم بإرادة الله وقدرته: إن ينصرهم الله فلا غالب لهم. وأن يخذلهم فلا ناصر لهم من بعده.. وهي الحقيقة الكلية المطلقة في هذا الوجود. حيث لا قوة إلا قوة الله، ولا قدرة إلا قدرته، ولا مشيئة إلا مشيئته. وعنها تصدر الأشياء والأحداث.. ولكن هذه الحقيقة الكلية المطلقة لا تعفي المسلمين من اتباع المنهج، وطاعة التوجيه، والنهوض بالتكاليف، وبذلك الجهد، والتوكل بعد هذا كله على الله: (وعلى الله فليتوكل المؤمنون).. وبذلك يخلص تصور المسلم من التماس شيء من عند غير الله؛ ويتصل قلبه مباشرة بالقوة الفاعلة في هذا الوجود؛ فينفض يده من كل الأشباح الزائفة والأسباب الباطلة للنصرة والحماية والالتجاء؛ ويتوكل على الله وحده في أحداث النتائج، وتحقيق المصاير، وتدبير الأمر بحكمته، وتقبل ما يجيء به قدر الله في اطمئنان أيا كان. إنه التوازن العجيب، الذي لا يعرفه القلب البشري إلا في الإسلام...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف نشأ عن قوله: {ولئن قتلتم في سبيل الله أو مِتُّم} [آل عمران: 157] أو عن قوله: {لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم} [آل عمران: 156] الآية. ولو حُمل هذا الخبر على ظاهر الإخبار لكان إخبَاراً بأمر معلوم عند المخاطبين إذ هم مؤمنون، ولا يجهل مؤمن أنّ الله إذا قَدّر نَصر أحَدٍ فلا رادّ لنصره، وأنَّه إذا قدّر خَذْلَه فلا ملجأ له من الهزيمة، فإنّ مثل هذا المعنى محقّق في جانب الله لا يجهله معترف بإلهيته، مؤمن بوحدانيته، وهل بعد اعتقاد نفي الشريك عن الله في ملكه مجال لاعتقاد وجود ممانع له في إرادته، فيتعيّن أن يكون هذا الخبر مراداً به غيرُ ظاهر الإخبار، وأحسن ما يحمل عليه أن يكون تقريراً لتسلية المؤمنين على ما أصابهم من الهزيمة، حتَّى لا يحزنوا على ما فات لأنّ ردّ الأمور إلى الله تعالى عند العجز عن تداركها مسلاة للنفس، وعزاء على المصيبة، وفي ضمن ذلك تنبيه إلى أنّ نصر الله قوماً في بعض الأيَّام، وخَذْله إيّاهم في بعضها، لا يكون إلاّ لحِكَم وأسباب، فعليهم السعي في أسباب الرضا الموجب للنصر، وتجنّب أسباب السخط الموجب للخَذل كما أشار إليه قوله: {يأيُّها الَّذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم} [محمد: 7] وقوله: {فأثابكم غماً بغم} [آل عمران: 153] وقوله الآتي: {أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليْها قلتم أنى هذا} [آل عمران: 165] وعليهم التطلّب للأسباب الَّتي قُدر لهم النَّصر لأجلها في مثل يوم بَدر، وأضدادها الَّتي كان بها الخَذل في يَوم أحُد، وفي التفكير في ذلك مجال واسع لمكاشفات الحقائق والعلل والأسباب والحكم والمنافع والمضارّ على قدر سعة التفكير الجائل في ذلك، ففي هذا الخبر العظيم إطلاق للأفكار من عقالها، وزجّ بها في مسارح العبر، ومراكض العظات، والسابقون الجيادُ، فالخبر مستعمل في لازم معناه وهو الحضّ على تحصيل ذلك. وعلى هذا الوجه تظهر مناسبة موقع هذا الاستئناف عقب ما تقدّمه: لأنَّه بعد أن خاطبهم بفنون الملام والمعذرة والتسلية من قوله: {قد خلت من قبلكم سنن} [آل عمران: 137] إلى هنا، جمع لهم كُلّ ذلك في كلام جامع نافعٍ في تلقِّي الماضي، وصالحٍ للعمل به في المستقبل، ويجوز أن يكون الإخبار مبنيّاً على تنزيل العالم منزلة الجاهل، حيث أظهروا من الحرص على الغنيمة ومن التأوّل في أمر الرسول لهم في الثبات، ومن التلهّف على ما أصابهم من الهزيمة والقتل والجرح، ما جعل حالهم كحال من يجهل أنّ النصر والخذل بيد الله تعالى. فالخبر مستعمل في معناه على خلاف مقتضى الظاهر...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وقد أكد سبحانه وتعالى طلب التفويض والتوكل بعد التدبير وأخذ الهبة بقوله تعالى: {إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده}.
أي إنه إذا أراد الله تعالى أن ينصركم، واستحققتم نصره فإنه لا يوجد قوم من شأنهم أن يغلبوكم، والتعبير باسم الفاعل في قوله تعالى: {فلا غالب لكم} يفيد انه لا يوجد من عنده القوة ومن شأنه أن يغلبكم؛ لأنه إن كان قويا في نفسه فالله معكم وهو القاهر فوق عباده، وهو الحفيظ عليهم، وخلق الإنسان ضعيفا مهما تكن قوته، وإن استحقاق نصر الله يكون بأخذ الأهبة ومبادلة الرأي، وتعرف أسباب النصر، ثم التوكل على الله تعالى، وتفويض الأمور إليه. وإن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ان أعد الأهبة أخذ يدعو الله تعالى بالنصر، ويكرر هذه العبارة:"اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض".
وإنه إذا فقد المؤمن نصر الله فلا ناصر له من غيره، ولذلك قال سبحانه: {وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده}.
أي إن يكتب الله سبحانه وتعالى لكم الخذلان، ويحرمكم من معونته وتأييده، فلا أحد ينصركم من بعده أي ممن هو دونه أو من بعد خذلانه، لأنه لا أحد عنده قدرة تقف امام قدرة الله تعالى، والاستفهام ليوجه أنظار المخاطبين إلى البحث عن قوى تكون قدرته كافية للوقوف امام إرادة الله تعالى الخذلان، فإنهم سيبحثون عن قوى لا تكون قوته إلى بقاء، ولن يجدوه، فعندئذ يحكمون بأن الله وحده الكبير المتعال، ولا ناصر سواه {وعلى الله فليتوكل المؤمنون}.
أي عليه وحده لا على شيء سواه، وأفاد ذلك تقديم {على الله} أي ان المؤمنين لا يتوكلون إلا على الله سبحانه وتعالى، فالاتكال عليه وحده، والإيمان متلازمان لا ينفصلان، فغير المؤمن يعتمد على الأشخاص الفانين، أما المؤمن فلا يعتمد على أحد سوى الله تعالى، والاتكال على الله من مقتضيات الإيمان بالله وحده؛ لأنه جزء من الوحدانية، فالذين يعتمدون على غير الله من العباد يصيبهم نوع من الشرك الخفي؛ لأنهم يفرطون في تقدير العباد... وأهل الإيمان الصادق لا يعتمدون إلا على الله بعد أخذ الأسباب؛ لنهم لا يؤمنون إلا بالله: {ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير4} [الممتحنة].
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
[إن ينصركم اللّه] بتأييده ورعايته ولطفه من خلال ما يوفره لكم من الأسباب الخفية، بالإضافة إلى الأسباب التي تأخذون بها مما يرتبط بالنتائج الطبيعية للنصر في نطاق النظام الكوني والإنساني في سنن اللّه في الحياة، فإنَّ اللّه إذا رأى عباده المؤمنين منفتحين على مواقع محبته ورضاه، آخذين بمواقع إرادته في حركة سننه لديهم، فلا بُدَّ له من أن يمنحهم نصره بطريقةٍ أو بأخرى، فلا مجال لأية هزيمة في ساحتهم، فإذا انطلقتم في هذا الاتجاه [فلا غالب لكم] لأنَّ اللّه لا يُغلب في إرادته مهما كانت الأمور والأوضاع. [وإن يخذلكم] لأنَّكم ابتعدتم عن الطاعة لأوامره ونواهيه وفقدتم الإحساس بالوحدة الإيمانية بينكم، ورفضتم السير على وفق حركة الأسباب في وجودكم [فمن ذا الذي ينصركم من بعده] من كلّ هؤلاء الذين يملكون القوّة ممن يستعين بهم النَّاس على تحقيق الانتصار في ساحة الحرب أو الوصول إلى الأهداف في مواقع التحدّي، فهو وحده الذي لا بُدَّ للمؤمنين من أن يلجؤوا إليه ويستعينوا به ويتوكلوا عليه، ليحصلوا على النتائج الكبرى، فلا ملجأ إلاَّ إليه، ولا استعانة إلاَّ به، ولا توكل إلاَّ عليه.
[وعلى اللّه فليتوكّل المؤمنون] فهو نعم الوكيل ونعم المولى ونعم النصير. قوّة إلهية مطلقة مهيمنة: ويعود القرآن إلى المعركة من جديد، ليقرّر للمؤمنين الحقيقة الإيمانيّة التي ينبغي لهم أن يتمثّلوها في أعماقهم في كلّ معركة من معاركهم، وهي أنَّ اللّه هو القوّة المطلقة المهيمنة على الحياة في كلّ ما تشتمل عليه من انتصارات وهزائم، فهو من وراء ذلك كلّه، فإذا شاءت إرادته لهم النصر فلن تستطيع كلّ قوى الأرض أن تغلبهم وتهزمهم، لأنَّه الذي يملك الأسباب العادية وغير العادية للأشياء، فإذا تحرّكت أسباب النصر من خلاله، فكيف يمكن للآخرين أن ينتصروا من دون سبب؟! وإذا شاءت إرادته الخذلان لهم، لأنَّهم انحرفوا عن الخطّ المستقيم الذي يسير بهم نحو النصر واعتمدوا على أنفسهم وعلى الآخرين بعيداً عن اللّه، فأدّى ذلك إلى أن يفقدوا لطف اللّه ورحمته ورعايته، فمن هذا الذي يملك أسباب النصر من بعد اللّه ليحقّقوه من خلاله، وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً إلاَّ بإذن اللّه، فكيف يملكه للآخرين؟! وفي هذا الجوّ الإيماني المتحرّك في خطّ الواقع في ما يريده اللّه للإنسان من خلال سنته في الكون، تنطلق الدعوة للتوكل على اللّه في حياة المؤمنين ليستمدوا منه القوّة، وليشعروا بالثقة من عنده، فإنَّه لا مجال للقوّة إلاَّ منه، ولا للثقة إلاَّ به...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
بعد أن يحث الباري سبحانه وتعالى عباده على أن يتوكلوا عليه، يبين في هذه الآية التي هي مكملة للآية السابقة نتيجة التوكل وثمرته وفائدته العظمى فيقول: (إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده) وهو بهذا يشير إلى أن قدرة الله فوق كلّ القدرات، فإذا أراد بعبد خيراً وأراد نصره وتأييده والدفاع عنه لم يكن في مقدور أية قوة في الأرض مهما عظمت أن تتغلب عليه، فمن كان هكذا منبع كلّ الانتصارات، وجب التوكل عليه، واستمداد العون منه.
فهذه الآية تتضمن ترغيباً للمؤمنين بأن يتكلوا على الله وقدرته التي لا تقهر، مضافاً إلى تهيئة كلّ الوسائل الظاهرية، والأسباب العادية.
والكلام في الآية السابقة موجه إلى شخص النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمر له في الحقيقة ولكنه في هذه الآية موجه إلى جميع المؤمنين وكأنها تقول لهم: إن عليهم أن يتوكلوا على الله كما يفعل النبي، ولهذا يختم هذه الآية بقوله: (وعلى الله فليتوكل المؤمنون).
ولا يخفى أن تأييد الله للمؤمنين أو عدم تأييده ليس من غير حساب، فهو يتم بناءً على أهليتهم لذلك.
فمن أعرض عن تعاليم الله، وغفل عن تحصيل المقومات المادية والمعنوية وتقاعس عن إعداد القوى العادية اللازمة لم يشمله التأييد الإلهي مطلقاً، على العكس من الذين استعدوا لمواجهة الأعداء بصفوف متراصة ونيات خالصة وعزائم راسخة، مهيئين كلّ الوسائل اللازمة للمواجهة، فإن تأييد الله سيشمل هؤلاء، وستكون يد الله معهم حتّى تحقيق الانتصار.