إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{إِن يَنصُرۡكُمُ ٱللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمۡۖ وَإِن يَخۡذُلۡكُمۡ فَمَن ذَا ٱلَّذِي يَنصُرُكُم مِّنۢ بَعۡدِهِۦۗ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ} (160)

وقوله تعالى : { إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ } جملةٌ مستأنفةٌ سيقت بطريق تلوينِ الخطابِ تشريفاً للمؤمنين لإيجاب توكّلِهم عليه تعالى وحثَّهم على اللَّجَأ إليه وتحذيرِهم عما يُفضي إلى خِذلانه أي إن ينصُركم كما نصركم يومَ بدرٍ فلا أحدَ يغلِبُكم على طريق نفي الجنسِ المنتظِم لنفي جميعِ أفرادِ الغالبِ ذاتاً وصفةً ولو قيل : فلا يغلبُكم أحدٌ لدل على نفي الصفة فقط ، ثم المفهومُ من ظاهر النظمِ الكريمِ -وإن كان نفيَ مغلوبيّتِهم من غير تعرضٍ لنفي المساواةِ أيضاً ، وهو الذي يقتضيه المقامُ- لكن المفهومَ منه فهماً قطعياً هو نفيُ المساواةِ وإثباتُ الغالبيةِ للمخاطبين ، فإذا قلتَ : لا أكرمُ من فلان أو لا أفضلُ منه فالمفهومُ منه حتماً أنه أكرمُ من كل كريمٍ وأفضلُ من كل فاضلٍ وهذا أمرٌ مطردٌ في جميع اللغات ولا اختصاصَ له بالنفي الصريحِ بل هو مطردٌ فيما ورد على طريق الاستفهامِ الإنكاريِّ كما في قوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً } [ العنكبوت ، الآية 68 ، وسورة الصف ، الآية 7 ] في مواقعَ كثيرةٍ من التنزيل ، ومما هو نصٌ قاطعٌ فيما ذكرنا ما وقع في سورة هودٍ حيث قيل بعده في حقهم : { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ في الآخرة هُمُ الأخسرون } [ هود ، الآية 22 ] فإن كونَهم أخسرَ من كل خاسرٍ يستدعي قطعاً كونَهم أظلمَ من كل ظالم { وَإِن يَخْذُلْكُمْ } كما فعل يومَ أحُدٍ وقرئ يُخذِلْكم من أخذله إذا جعله مخذولاً { فَمَن ذَا الذي يَنصُرُكُم } استفهامٌ إنكاريٌّ مفيدٌ لانتفاء الناصرِ ذاتاً وصفةً بطريق المبالغة { مِن بَعْدِهِ } أي من بعد خِذلانه تعالى أو من بعد الله تعالى على معنى إذا جاوزتموه { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } تقديمُ الجارِّ والمجرورِ على الفعل لإفادة قصرِه عليه تعالى ، والفاءُ لترتيبه أو ترتيبِ الأمرِ به على ما مر من غلبة المخاطَبين -على تقدير نُصرتِه تعالى لهم- ومغلوبيّتِهم على تقدير خِذلانِه تعالى إياهم ، فإن العِلمَ بذلك مما يقتضي قصرَ التوكلِ عليه تعالى لا محالة ، والمرادُ بالمؤمنين إما الجنسُ والمخاطبون داخلون فيه دخولاً أولياً وإما هم خاصةً بطريق الالتفاتِ ، وأياً ما كان ففيه تشريفٌ لهم بعنوان الإيمانِ اشتراكاً أو استقلالاً ، وتعليلٌ لتحتم التوكلِ عليه تعالى فإن وصفَ الإيمانِ مما يوجبه قطعاً .