اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِن يَنصُرۡكُمُ ٱللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمۡۖ وَإِن يَخۡذُلۡكُمۡ فَمَن ذَا ٱلَّذِي يَنصُرُكُم مِّنۢ بَعۡدِهِۦۗ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ} (160)

قوله : { إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ } شرطٌ وجوابه ، وكذلك قوله : { وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي } وهذا التفات من الغيبة إلى الخطاب - كذا قاله أبو حيان . يعني من الغيبة في قوله : { لِنتَ لَهُمْ } وقوله : { لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } وقوله : { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ } قال شهاب الدين : وفيه نظر . وجاء قوله : { فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ } جواباً للشرطِ ، وهو نفيٌ صريحٌ ، وقوله : { فَمَن ذَا الَّذِي } - وهو متضمن للنفي - جوابٌ للشرط الثاني ، تلطفاً بالمؤمنين ، حيث صرح لهم بعدم الغلبة في الأول ، ولم يصرح لهم بأنه لا ناصر لهم في الثاني بل أتى به في صورة الاستفهام - وإن كان معناه نفياً .

وقوله : { فَمَن ذَا الَّذِي } قد تقدم مثله في البقرة{[6147]} .

والهاء - في قوله : { مِّنْ بَعْدِهِ } - فيها وجهان :

أحدهما - وهو الأظهر - : أنها تعود على " اللَّه " تعالى ، وفيه احتمالانِ :

الأول : أن يكون ذلك على حذف مضاف ، أي : من بعد خذلانه .

الثاني : إنه يحتاج إلى ذلك ، ويكون معنى الكلامِ : إنكم إذا جاوزتموه إلى غيره - وقد خذلكم - فمن يجاوزه إليه وينصركم ؟

ثانيهما : أن يعود على الخذلان المفهوم من الفعل ، وهو نظيرُ قوله : { اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [ المائدة : 8 ] .

قوله : { إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ } يعنكم ويمنعكم من عدوكم { فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ } مثل يوم بدر { وَإِن يَخْذُلْكُمْ } يترككم كما أن بأُحُدٍ - لم ينصركم أحَدٌ . والخذلان : القعود عن النصرة . قراءة الجمهور { يَخْذُلْكُمْ } - بفتح الياء - من خَذَله - ثلاثياً - .

وقرأ عمرو بن عبيد : " يُخْذِلْكُم " - بضم الياء{[6148]} - من أخْذَلَ - رباعياً - والهمزة فيه لجعل الشيء ، أي : إن يجعلكم مخذولين ، والخَذْل والخُذلان - ضد النصر - وهو ترك من يظن به النُّصرة ، وأصله من خَذَلَت الظبيةُ ولدَها - إذا تركته منفرداً - ولهذا قيل لها : خاذل ويقال للولدِ المتروك - أيضاً - : خاذل ، وهذا النَّسَبِ ، والمعنى : أنَّها مخذولة .

قال الشاعرُ : [ البسيط ]

بِجِيدِ مُغْزِلَةٍ أدْمَاءَ خَاذِلَةٍ *** مِنَ الظِّبَاءِ تُرَاعِي شَادِناً خَرِقا{[6149]}

ويقال له - أيضاً - : خذول ، فعول بمعنى مفعول .

قال الشاعر : [ الطويل ]

خَذُولٌ تُرَاعِي رَبْرَباً بِخَمِيلَةٍ *** تَنَاوَلُ أطْرَافَ الْبريرِ وتَرْتَدِي{[6150]}

ومنه يقال : تخاذلَتْ رجلا فلان .

قال الأعشى : [ الرمل ]

بَيْنَ مَغْلوبٍ كَريمٍ جَدُّهُ *** وخَذُولِ الرِّجْلِ مِنْ غَيْرِ كَسَحْ{[6151]}

ثم قال : { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } فقدم الجارّ إيذاناً بالاختصاص ، أي : ليخص المؤمنون رَبَّهُم بالتوكل عليه والتفويض له ؛ لعلمهم أنه لا ناصرَ لهم سواهُ . وهو معنى حَسَنٌ ، ذكره الزمخشريُّ .

فصل

احتجوا - بهذه الآية - على الإيمانَ لا يحصل إلا بإعانة الله ، والكفر لا يحصل إلا بخذلانه ؛ لأن الآية دالةٌ على أن الأمر كلَّهُ لِلِّهِ .


[6147]:آية: 255.
[6148]:انظر: البحر المحيط 3/106، والدر المصون 2/247.
[6149]:البيت لزهير بن أي سلمى ينظر ديوانه 35، والبحر المحيط 3/88 وأشعار الشعراء الستة الجاهليين 1/304 والدر المصون 2/248.
[6150]:البيت لطرفة بن العبد ينظر ديوانه (9) وشرح المعلقات 138 والبحر 3/88 وأشعار الشعراء الستة الجاهليين 2/41 ومقاييس اللغة 2/165 واللسان (خذل) وشرح القصائد السبع ص 141 والدر المصون 2/248.
[6151]:ينظر ديوانه 243 وتاج العروس 7/301 وأساس البلاغة ص 156 و543 والمفردات في غريب القرآن ص 145 ومقاييس اللغة 2/166 والدر المصون 2/248.