البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِن يَنصُرۡكُمُ ٱللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمۡۖ وَإِن يَخۡذُلۡكُمۡ فَمَن ذَا ٱلَّذِي يَنصُرُكُم مِّنۢ بَعۡدِهِۦۗ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ} (160)

الخذل والخذلان : هو الترك في موضع يحتاج فيه إلى التارك .

وأصله : من خذل الظبي ، ولهذا قيل لها : خاذل إذا تركتها أمها .

وهذا على النسب أي ذات خذل ، لأن المتروكة هي الخاذل بمعنى مخذولة ، ويقال : خاذلة .

قال الشاعر :

بجيد مغزلة إدماء خاذلة *** من الظباء تراعي شادناً خرقا

ويقال أيضاً لها : خذول فعول ، بمعنى مفعول .

قال :

خذول تراعي ربرباً بخميلة *** تناول أطراف البريد وترتدي

{ إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده } هذا التفات ، إذْ هو خروج من غيبة إلى الخطاب .

ولما أمره بمشاورتهم وبالتوكل عليه ، أوضح أنَّ ما صدر من النصر أو الخذلان إنما هو راجع لما يشاء .

وأنَّه متى نصركم لا يمكن أن يغلبكم أحد ، ومتى خذلكم فلا ناصر لكم فيما وقع لكم من النصر ، أو بكم من الخذلان كيومي : بدر وأحد ، فبمشيئته .

وفي هذا تسلية لهم عما وقع لهم من الفرار .

ثم أمرهم بالتوكل ، وناط الأمر بالمؤمنين ، فنبه على الوصف الذي يناسب معه التوكل وهو الإيمان ، لأن المؤمن مصدق بأن الله هو الفاعل المختار بيده النصر والخذلان .

وأشركهم مع نبيهم في مطلوبية التوكل ، وهو إضافة الأمور إلى الله تعالى وتفويضها إليه .

والتوكل على الله من فروض الإيمان ، ولكنه يقترن بالتشمير في الطاعة والجزامة بغاية الجهد ، ومعاطاة أسباب التحرز ، وليس الإلقاء باليد والإهمال لما يجب مراعاته بتوكل ، وإنما هو كما قال صلى الله عليه وسلم : « قيدها وتوكل » ونظير هذه الآية : { ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده } والضمير في من بعده عائد على الله تعالى ، إمّا على حذف مضاف أي : من بعد خذلانه ، أي من بعد ما يخذل من الذي ينصر .

وإما أنْ لا يحتاج إلى تقدير هذا المحذوف ، بل يكون المعنى : إذا جاوزته إلى غيره وقد خذلك فمن ذا الذي تجاوزه إليه فينصرك ؟ ويحتمل أن يكون الضمير عائداً على المصدر المفهوم من قوله : وإن يخذلكم ، أي : من بعد الخذلان .

وجاء جواب : إن ينصركم الله بصريح النفي العام ، وجواب وإن يخذلكم يتضمن النفي وهو الاستفهام ، وهو من تنويع الكلام في الفصاحة والتلطف بالمؤمنين حتى لا يصرّح لهم بأنه لا ناصر لهم ، بل أبرز ذلك في صورة الاستفهام الذي يقتضي السؤال عن الناصر ، وإن كان المعنى على نفي الناصر .

لكنْ فرَّقَ بين الصريح والمتضمن ، فلم يجر المؤمنين في ذلك مجرى الكفار الذي نص عليه بالصريح أنه لا ناصر لهم كقوله : { أهلكناهم فلا ناصر لهم } وظاهره النصرة أنها في لقاء العدو ، والإعانة على مكافحته ، والاستيلاء عليه .

وأكثر المفسرين جعلوا النصرة بالحجة القاهرة ، وبالعاقبة في الآخرة .

فقالوا : المعنى إنْ حصلت لكم النصرة فلا تعدوا ما يعرض من العوارض الدنيوية في بعض الأحوال غلبة ، وإن خذلكم في ذلك فلا تعدوا ما يحصل لكم من القهر في الدنيا نصرة ، فالنصرة والخذلان معتبران بالمآل .

وفي قوله : إن ينصركم الله إشارة إلى الترغيب في طاعة الله ، لأنه بين فيما تقدم أنّ من اتقى الله نصره .

وقال الزمخشري في قوله : وعلى الله ، وليخص المؤمنون ربهم بالتوكل والتفويض إليه ، لعلمهم أنّه لا ناصر سواه ، ولأن إيمانكم يوجب ذلك ويقتضيه انتهى كلامه .

وأخذ الاختصاص من تقديم الجار والمجرور وذلك على طريقته ، بأن تقديم المفعول يوجب الحصر والاختصاص .

وقرأ الجمهور : يخذلكم من خذل .

وقرأ عبيد بن عمير : يخذلكم من أخذل رباعياً .

/خ163